أزمة السويداء – أم أزمة سورية

لا يمكن فصل الأزمة الراهنة في السويداء عن السياق السياسي الداخلي في سورية منذ أن سقط النظام البائد في 8 كانون الأول 2024 , بصورة من الصور فإن أزمة السويداء ليست سوى تكثيف لأزمة ذلك السياق من حيث ابتعاده التدريجي عن العقلنة والانفتاح، محاولا صناعة سياقه الخاص معتمدا بالدرجة الأولى على إعادة إنتاج علاقة سورية مع المحيط العربي والدولي بطريقة ترضي الجميع.

ساد اعتقاد لدى القيادة السورية أن العامل الحاسم في بقاء السلطة يكمن في إرضاء الولايات المتحدة ودول الخليج العربية وطمأنة اسرائيل، هذا يمنحك هامشا واسعا في الداخل للمناورة، بينما الداخل السوري غارق بمشاعر الفرح بخلاصه من طغيان وفساد الأسد.

 أيضا ورث الحكم بلدا مرهقا مدمرا بدون قوى سياسية فاعلة. كان ذلك يوحي ببيئة مريحة لإدارة دفة الحكم وفق تصور القيادة دون متاعب.

لم يحاول الحكم فهم المعادلات الداخلية للسياسة السورية , لم يلجأ لختايرة السياسة السوريين , الأشهر الأولى كانت بمثابة شهر العسل للقيادة السورية , لكن سرعان ما بدأت الامتحانات الكبرى بأحداث الساحل , إدارة مواجهة محاولة الانقلاب الدموية هناك أظهرت الثغرات في طريقة مقاربة النظام للتحديات الأمنية والسياسية , لم تكن المسألة ببساطة عدم انضباط البعض أو تسلل عناصر من خارج أجهزة الدولة , كانت في العمق فشلا في خطاب أفسح الطريق لنزعات ثأرية ومتطرفة للانفلات كجزء من ايديولوجيا موروثة من مرحلة سابقة لم تفكر القيادة باستبدالها وفق مرحلة بناء الدولة الجديدة .

الجرائم التي حصلت وجهت ضربة لرأي عام محلي كان بالكاد قد بدأ يتلمس طريقه نحو التعرف على القيادة الجديدة. بشعور متردد يميل للاعتراف بالأمر الواقع والتأقلم معه، مقابل كتلة لم تقطع صلتها بالنظام المخلوع وظلت تأمل بعودته لكن لم تظهر رغبة في المقاومة. وهناك بالطبع فلول النظام التي حاولت السيطرة على الساحل بالقوة العسكرية وعبر الكمائن التي أودت بحياة معظم قوى الأمن العام هناك.

ما فعلته الطريقة التي عالج بها النظام الأزمة أسفرت عما يشبه القطيعة بين قطاع ليس قليلا من الرأي العام لدى العلويين وبين القيادة السورية.

في حالة التعامل مع قسد كانت هناك مقاربة أكثر حذرا، لكنها لم تصل لنتائج حاسمة وبقيت كأزمة وطنية مؤجلة رغم اتفاق الشرع- عبدي.

مع كل يوم يمر وبينما كانت الانجازات في الخارج تتزايد كانت أخطاء النظام في الداخل تتراكم , الحلول السياسية التي يقدمها النظام للداخل لم تكن استجابة حقيقية لاستحقاقات حيوية , مؤتمر الحوار الوطني كان مشهدا استعراضيا إلى حد كبير , ما أنتجه ليس سوى مخرجات مسبقة الصنع , الاعلان الدستوري المؤقت ظهر كدستور مختزل ناقص يمنح الرئيس صلاحيات شبه مطلقة , الفترة الانتقالية تم ترحيلها إلى خمسة سنوات بما يعني أنها لم تعد انتقالية بل تقترب من نظام سياسي شبه دائم , مفهوم كون السلطة انتقالية لم يكن موضع احترام في جميع المحاور الرئيسية لسياسة الدولة بما في ذلك هيكلة الاقتصاد .

بنية النظام الادارية اقتصرت في معظم الحالات على لون واحد قريب لبنية هيئة تحرير الشام، لم يكن ذلك مقبولا لدى كثيرين، رافق ذلك خطاب متناقض بين خطاب دولة مدنية غير ايديولوجية في القمة وخطاب إسلاموي في المستويات الأدنى لم يتغير كثيرا خلال الأشهر الماضية.

باختصار: الاقصاء، الاستئثار، إغلاق طريق التغيير الديمقراطي، عدم احترام مفهوم المرحلة الانتقالية، التناقض في الخطاب بين أدلجة الدولة ودولة المواطنة المدنية، الفشل النسبي في ملفات العدالة الانتقالية ومعالجة نتائج أحداث الساحل كل ذلك وغيره مما لم يتسع المجال للتطرق إليه صنع أزمة سياسية مكتومة كانت تنتظر الانفجار.

في السويداء انفجرت الأزمة، فإضافة لمفاعيلها السابقة كانت هناك عناصر تفجيرية نوعية إضافية، فالحراك الوطني الديمقراطي الذي استمر أقل من سنتين في السويداء ضد النظام البائد أفرز حالة سياسية للسويداء تختلف عن بقية المناطق السورية، وضمن عناصر تلك الحالة تشكل قيادة سياسية – دينية أصبحت مرجعية للحراك وبالتالي مرجعية للسويداء بعد سقوط النظام.

تلك القيادة المرجعية أصبحت بمثابة سلطة محلية تحالفت مع ميليشيات مسلحة سرعان ما تضخمت بعد سقوط النظام والاستيلاء على معسكراته ومخازن أسلحته في المحافظة.

انتظرت تلك السلطة المحلية أن يفسح لها النظام الجديد مكانا في دمشق كشريك رغم امتلاكها الكثير من المخاوف المرتبطة بالطابع الاسلامي لهيئة تحرير الشام، لكن ذلك لم يحدث، وساهمت أحداث الساحل وما ارتكب خلالها من جرائم في تحول الشكوك والمخاوف إلى قلق حقيقي، لم يتمكن النظام من معالجته كونه يمس بنية النظام من جهة ويتطلب تنازلات لا يستطيع النظام تقديمها من جهة ثانية.

هكذا كان كل شيء مهيئا لانفجار الأزمة.

دخول إسرائيل على خط الصراع الذي انفجر في السويداء كان نقطة فاصلة في تحول ذلك الصراع، وفي الداخل فإن دخول الجيش للسويداء والانتهاكات والجرائم التي رافقت دخوله وكذلك الصراع مع العشائر أعطت الصراع شحنة غير مسبوقة من العنف والدموية فاقت أحداث الساحل.

قبل أن نرى هدوءً بفضل هدنة تم انجازها ضمن إطار دولي كان هناك تحول ضمن الرأي العام المحلي في السويداء ربما كان أخطر النتائج للصراع الدائر.

تحول قاده الشعور بالخطر الوجودي على الطائفة، وسواء أكان ذلك الشعور مبالغا فيه أم حقيقيا فالنتيجة واحدة، لقد أصيبت الوطنية السورية بضربة أخرى بعد أحداث الساحل.

ما الحل الآن:

لابد من العودة لجذور الأزمة التي هي أزمة سورية وليست أزمة السويداء بقدر ما أن أزمة السويداء الراهنة نتيجة من نتائجها ربما كانت النتيجة الأعمق تأثيرا والأشد ايلاما.

لابد من مراجعة شاملة للنظام السياسي وليس لوجود الدولة، رغم ذلك الاشتباك بين الدولة الجديدة والنظام السياسي.

كي يصبح بالإمكان فك ذلك الاشتباك ومواجهة النظام السياسي وتغييره دون انهيار الدولة ينبغي الاتفاق على السلمية التي تعني حصر السلاح بيد الدولة وانهاء الميليشيات المسلحة التي لا يمكن أن تكون عنصرا في الحل الوطني.

أيضا فالسلمية تستتبع الاعتماد على النضال الشعبي الديمقراطي على نطاق الوطن السوري والابتعاد عن الطائفية والمناطقية وإسقاط الدعوات الانفصالية والانعزالية وتحريم الاتصال مع اسرائيل وإدانة تدخلها في الداخل السوري.

أية مقاربة للحل الوطني تهمل مخطط اسرائيل لتقسيم سورية الذي أصبح حقيقة معلنة باعتراف الولايات المتحدة هي مقاربة عوراء عندما تصل لإسقاط النظام الذي يعني واقعيا سقوط الدولة السورية كوحدة سياسية طالما لا توجد قوة على الأرض قادرة على فرض سلطة الدولة.

يمكن أن يشكل تحديد الدولة لموعد إجراء انتخابات عامة حرة بمراقبة دولية مدخلا لوقف المسار السياسي الحالي الذي لا يمكن القبول باستمراره بعد الآن .

صحيح أن إجراء مثل تلك الانتخابات تعترضه عدة مصاعب لكن وقف المسار السياسي الحالي وفتح الطريق أمام مسار جديد أصبح من الأهمية والالحاح ما يبرر ايجاد طرق للتغلب على تلك المصاعب.

ليست تلك أول مرة تجد سورية نفسها مضطرة على إجراء انتخابات عامة لجمعية تأسيسية تضع دستورا للبلاد، ففي العام 1919 واجهت سورية حالة مشابهة اضطرت معها لإجراء انتخابات عامة مع وجود أجزاء من البلاد تحت السيطرة الفرنسية (الساحل السوري) وتم التغلب على تلك الصعوبة عن طريق توافق في مناطق الساحل بحيث تم إجراء توكيلات لممثلين عن الشعب بعد اجتماع جرى في كل بلدة بين وجوه المناطق وأبرز شخصياتها وانتخاب ممثلهم إلى المؤتمر السوري الأول الذي تحول لجمعية تأسيسية.

مثل ذلك المطلب حين تتوحد حوله كل القوى والشخصيات الوطنية السورية يمكن أن يلقى قبولا شعبيا باعتباره ليس مطلبا انقلابيا وانما يأتي ضمن سيادة الدولة السورية لكنه يفتح الطريق أمام تغير بنيوي في هيكلة الدولة وإقرار دستور جديد عبر توافق وطني حقيقي.

يمكن للطلائع الوطنية الديمقراطية تحويل مأساة السويداء إلى فرصة لاستعادة وحدة الشعب السوري على أسس جديدة من التشاركية والتعددية والتوجه نحو نظام ديمقراطي حقيقي يضمن الحرية والكرامة لجميع السوريين.

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. هل هناك أزمة سورية ؟ لماذا البعض يعتبر ما جرى ويجري بالسويداء ليس إنعكاس للسياق السياسي الداخلي السوري منذ التحرير بـ 8 كانون الأول 2024، على الحكومة السورية إعادة النظر بما جرى ويجري بالشأن الداخلي السوري، وعدم تغليب العلاقة الخارجية على الداخلية، النخب الوطنية السعي بحلول لاستعادة وحدة الشعب على أسس جديدة من التشاركية والتعددية بنظام ديمقراطي.

  2. أو الذهاب إلى إعتماد دستور ١٩٥٠ مرجعية مؤقتة لتنظيم المرحلة الإنتقالية تمهيدا لإجراء إنتخابات لمجلس نيابي تأسيسي يقوم الشعب عبره بمراجعة وكتابة الدستور الدائم.
    #دستور_١٩٥٠_يمثلني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى