
التطورات الجذرية المتسارعة في الشرق الأوسط، إثر حرب الإثني عشر يوماً الإسرائيلية الأميركية على إيران، والتي توجت عمليات شل الأذرع الإيرانية في المنطقة، تكاد تجعل أنباء الشرق الأوسط في هذه الأيام عسيرة على التصديق. وعلى خلفية ما كان عليه الشرق الأوسط وأنباؤه قبل خريف العام 2023، امتصت الأحداث التي تلت ذلك الخريف كل الدهشة التي كانت تثيرها التطورات التي أعقبت ذلك الحدث المفصلي في المنطقة.
فقد مر بالأمس نبأ اجتماع وزير الخارجية السوري مع وزير التخطيط الإستراتيجي الإسرئيلي في باريس كأي واحد من الأنباء الأخرى، التي كانت لتجعل الشخص قبل ذلك الخريف يرفض أن يصدق ما يسمعه. فالفترة التي انقضت بعد 7 اوكتوبر، وعلى الرغم من قصرها، تمكنت من أن تمحو كل أثر للخطاب الذي كان سائداً قبلها، وتجعل كل حدث يقع يبدو عادياً، وفي سياق الأحداث “العادية” الأخرى التي غيرت وجه المنطقة.
فعلى الرغم مما ترتكبه إسرائيل بحق سوريا من توسيع احتلال أراضيها وقصف عاصمتها والتدخل في علاقات حكومتها مع مكونات الشعب السوري، تجد سوريا نقاطاً مشتركة مع إسرائيل، تخوض منذ أشهر مفاوضات غير مباشرة معها للتوصل إلى توافقات بشأنها. ويرى مراقبون أن في طليعة النقاط المشتركة هذه يأتي الخوف من الخطر الإيراني غير البعيد عن كل ما حدث ويحدث في سوريا الجديدة، بما فيها أحداث السويداء الأخيرة، التي وقفت وراء خروج المفاوضات السورية الإسرائيلية إلى العلن في باريس.
بالنسبة إلى إسرائيل، وعلى الرغم من إعلان انتصارها في حرب الإثني عشر يوماً، لا تزال تصر على اعتبار إيران، بمشروعها النووي الذي أًلحقت به أضرار جسيمة، خطراً وجودياً عليها. وسوريا التي اقتلعت الاحتلال الإيراني مع الأسد، لا تزال تخشى دسائس إيران ومحاولاتها المتواصلة لزعزعة الاستقرار الهش للسلطة الجديدة. وكثيرون، بمن فيهم إسرائيل وإيران، ينكرون على السلطة الجديدة ابتعادها عن ماضيها الإرهابي. وإذا كانت إسرائيل تستخدم إنكارها هذا لتبرير عملياتها العسكرية ضد سلطة دمشق، تستغل طهران هذا الإنكار من أجل تأجيج المشاعر الطائفية وبث الشائعات حول النوايا العدوانية لهذه السلطة تجاه البلدان المجاورة، وبوجهٍ خاص لبنان، حيث ينشر التابعون لإيران في الأيام الأخيرة شائعات تافهة عن حشود سورية داعشية على حدود لبنان، وعزم السلطة السورية على اقتطاع أجزاء منه.
إسرائيل تأتي إلى المفاوضات مع سوريا متسلحة بفائض قوة كانت تعمل عليه منذ تأسست وبرز واضحاً بعد ذلك الخريف، وترى أنه سمح لها بتغيير الشرق الأوسط جذرياً خلال هذه المدة القصيرة، وتستطيع الآن أن تفرض ما تريده على أي طرف في المنطقة. أما سوريا فقد أتت إلى التفاوض مع إسرائيل متسلحة برفع العقوبات الأميركية الجزئي عنها، والذي اعتبرته الاعتراف الأهم بشرعيتها، في حين اعتبره ترامب تشجيعاً لدمشق للانضمام إلى اتفاقيات إبراهيم. وعلى الرغم من أن الاعتراف الأميركي بالسلطة السورية لم يبدل في ميزان القوى على الأرض، ولن يمنع إسرائيل من التفاوض مع سوريا تحت النار، إلا أنه فتح الباب واسعاً أمام تدفق الاستثمارات الخليجية على سوريا، كما شهدنا في اليومين الأخيرين. والتفاوض تحت النار مع إسرائيل يطرح السؤال عن حجم التنازلات التي ستضطر سوريا لتقديمها، وهل ستستطيع، من دون دعم خارجي، جعل السوريين يتقبلونها.
في مطلع الشهر الجاري ناقشت مسألة التنازلات السورية لإسرائيل صحيفة الإزفستيا الروسية المخضرمة، وكذلك مسألة قدرة السلطة السورية على “إقناع” الشعب السوري بها.
استهلت الصحيفة نصها بالقول إن الخبراء الذين استطلعت آراءهم بالمفاوضات السورية الإسرائيلية يعتبرون أن رفع العقوبات الأميركية عن سوريا يخلق الظروف لعقد اتفاقية سلام بين سوريا وإسرائيل. ويتوقعون أن التوقيع على اتفاقية تطبيع العلاقات سيتحقق في غضون آخر السنة الحالية. وبموجب الاتفاقية المقبلة سيحتفظ الجيش الإسرائيلي بمرتفعات الجولان وينسحب من الأراضي السورية التي احتلها في جنوب البلاد.
تجدر الإشارة إلى أن الإعلام الروسي الموالي للكرملين يتحاشى أي نقد مباشر في نصوصه عن المسائل المتعلقة بالنظام السوري الجديد. لكنه لا ينسى في الوقت عينه الدوس على القدم العليلة للنظام، ولا سيما بعد “احتضان” الولايات المتحدة له. وتشبه إلى حد بعيد مقاربته هذه للشأن السوري تعامله مع الشأن الإسرائيلي، حيث كان ولا يزال يبتعد عن كل ما تعدّه إسرائيل تطاولاً على مصالحها. ويقال إنه بعد كل لقاء تعقده المخابرات الروسية مع الأجهزة الإيرانية، تسارع إلى عقد لقاء موازٍ مع المخابرات الإسرائيلية.
نقلت الصحيفة عن Times of Israel قولها بأن الأعداء القدامى على وشك التوصل إلى اتفاق تاريخي يمكن أن ينهي عقودًا من العداء. ويقول مصدر الصحيفة الإسرائيلية بأن تطبيع العلاقات بين البلدين أصبح في مرحلة متقدمة. كما نقلت عن قناة التلفزة الإسرائيلية i24 بأن التوقيع على الاتفاقية قد يتم قبل نهاية العام الجاري. والبند الأهم في الاتفاقية سيكون اعتراف سوريا بسيادة إسرائيل على الجولان وانسحاب تدريجي للجيش الإسرائيلي من الأراضي السورية التي احتلها بعد 8 كانون الآول/ ديسمبر 2024.
نقلت الإزفستيا عن الخبير في شؤون الشرق المعاصر فلاديمير أحمدوف تعليقه على خطوة رفع العقوبات عن سوريا بالقول إن إسرائيل تبقى الحليف الرئيسي للولايات المتحدة في المنطقة، ولذلك قد تصبح خطوة رفع العقوبات جزءاً من صفقة أوسع تشتمل على تطبيع العلاقات بين سوريا وإسرائيل. كما نقلت عن موقع Walla الإسرائيلي قوله إن الولايات المتحدة تواصل لعب دور الوسيط من وراء الكواليس، إذ يجري الدبلوماسيون الأميركيون استشارت متوازية مع الطرفين الإسرائيلي والسوري لتنسيق المؤشرات الرئيسية للإتفاقية المحتملة.
الباحث في مركز دراسات الشرق الأوسط نيكولاي سوخوف قال للصحيفة الروسية إن الأحاديث عن عقد الاتفاقية قبل نهاية العام لا تزال على مستوى المناقشات الحذرة في الأوسط الدبلوماسية، لكن لهجتها تبدو واثقة وثوقاً غير اعتيادي. ويرى أن دعم الولايات المتحدة للسلطة السورية الجديدة ورفع العقوبات الجزئي والاستعادة المتدرجة لشرعية سوريا الدولية، تخلق فرصاً فريدة لا تصدق بعد الحرب الأهلية الطويلة. ونقلت الإزفستيا عن صحيفة إسرائيل هيوم إشارتها إلى أن مستشار نتنياهو للأمن القومي تساحي هانيغبي أكد في 24 الشهر المنصرم أن السلطات الإسرائيلية على تواصل يومي مباشر مع السوريين. وقال “أنا شخصياً أُجري حواراً مع ممثلي دمشق السياسيين”.
لقد أنهى اجتماع باريس المطول أمس كل هذه التخمينات والأحجيات و”السرية” التي كانت تلف المفاوضات السورية الإسرائيلية، لكنه لم ينه ما سيدور لاحقاً من تكهنات وتوقعات حول مصير المفاوضات وإلى أين ستصل. ولم يفرض التأزم الشديد في السويداء انتهاء مرحلة “سرية” المفاوضات فقط، بل فرض أيضاً جدول أعمال الاجتماع الذي تمحور حول ضرورة خفض مستوى هذا التأزم، والإجراءات الأمنية الضرورية لذلك. ويؤكد تصريح المبعوث الأميركي إلى سوريا الذي رعى المفاوضات بأنها ستخرج قريباً من دائرة تأزم السويداء لتأخذ المسار الذي وضعه ترامب ويصبح التفاوض على العودة إلى اتفاقيات العام 1974، أو يتواصل لمناقشة انضمام سوريا إلى اتفاقيات إبراهيم.
المصدر: المدن