
مما لا شك فيه أن الوضع في سورية شديد التعقيد نتيجة تراكمات كثيرة بعضها مزمن وبعضها ليس حديثًا. لذا فهو يحتاج إلى حلول مركبة متكاملة تنطلق من رؤية عمومية شاملة لكل الوضع الوطني في كافة المجالات وعلى كل المستويات.
إن الإرث الخطير الذي تركه النظام الساقط على مجمل الكيان الوطني وحياة السوريين ومعيشتهم ووعيهم وصحتهم النفسية وتماسكهم الاجتماعي وأمنهم الوطني والاجتماعي واستقرارهم وقدرتهم على التحمل والعمل والعطاء والتقدم؛ يحتاج هذا الإرث لوحده سنوات من الجهود والعمل المضني لمحاصرة آثاره المخربة وارتداداته التدميرية على كل صعيد..
فإذا أضيفت إليه أنواع التدخل الأجنبي من كل حدب وصوب والذي أضاف آثارًا تخريبية كثيرة عبرت وتعبر عن أطماع دولية متشابكة في الأرض السورية وما فيها من ثروات وما عليها من إرث حضاري تاريخي وما تحتله من موقع استراتيجي مميز يتوسط العالم ويشكل عقدة اتصال وتواصل في غاية الأهمية فضلًا عن مجاورتها لفلسطين المحتلة مع ما يعني ذلك من أخطار تهدد أمنها ناتجة عن الكيان الصهيوني ومشروعه الاستعماري والتوسعي وما يتمتع به من دعم غربي كامل ولا سيما من الولايات المتحدة..
ولقد كانت سنوات الحرب على الشعب السوري الأخيرة للقضاء على ثورته المدنية المتطلعة لإنقاذ سورية من نظام آل الأسد الفاسد الفاجر المجرم؛ تظهيرًا لكل أشكال التدخل الأجنبي والذي هدف إلى الالتفاف على ثورة الشعب السوري السلمية المدنية ومطالبه الوطنية التحررية.. فكان ما شهدته الساحة من تدخلات عسكرية وتشكيلات ميليشيوية مرتهنة ومخربة أعاقت قدرة الوطنيين على الانتصار فكانت سببًا من أسباب إطالة عمر الحرب وتقديم المزيد من التضحيات..
كل هذه العوامل مجتمعة جعلت الوضع الداخلي في سورية كثير التعقيد تتشابك فيه المصالح الدولية متضاربة مع مطالب الشعب السوري في بناء دولة العدالة والمساواة وسيادة القانون ، دولة لكل أبنائها على قاعدة المشاركة في البناء الوطني المتحرر من العصبيات ومن أية ولاءات خارجية إنما على أساس التمييز بين المكونات الشعبية وبين أولئك الذين ارتكبوا المجازر ومارسوا القهر والاضطهاد وسرقوا ونهبوا وتاجروا بدماء الناس وأرواحهم وأرزاقهم ؛ لأي مكون انتموا ؛ لتكون محاكمتهم على جرائمهم ومحاسبتهم واسترداد أموال الدولة التي سرقوها شرطًا أساسيًا من شروط التوصل إلى طمأنينة نفسية واجتماعية تشكل القاعدة الأساسية للاستقرار والإحساس بالأمان والعدالة..
وما بين التصدي لإرث النظام الأسدي الساقط على كافة المستويات؛ وما بين تطلعات الشعب السوري ومطالبه؛ مسافات زمنية وعوائق كثيرة بعضها محلي وكثير منها خارجي مباشر أو غير مباشر عبر عملاء ووكلاء محليين يتمتعون برعاية دولية تامة..
أما فلول النظام فليسوا إلا أحد أطراف تلك العوائق التي تشكل خطرًا لا يزال قائمًا..
أما تجار الحروب وميليشيات القتل والسلب والنهب فليسوا إلا طرفًا إضافيًا ما يزال خطره قائمًا..
أما العدوان الإسرائيلي وأخطاره وأطماعه فلا يزال خطره جاثمًا متربصًا متوسعًا أيضًا..
أما القوى الانفصالية التي نشأت برعاية دولية؛ روسية وأميركية وغيرها؛ فلا تزال تحظى بالحماية الدولية ولا سيما تلك المسيطرة على مناطق الغاز والمعادن والنفط في الجزيرة ومحافظاتها..
أما الأطماع الدولية جميعها فلا تزال تملك من قوة التأثير والتعطيل والتخريب في الداخل السوري ما هو كثير وفعال. سيما وأنها استطاعت زرع كثير من العملاء وصناعة الكثير من الأدوات في ظل النظام الساقط الذي وفر لها كل أسباب النجاح واستباحة المجتمع السوري..
جميع هذه القوى وهي منظمة وفاعلة وكثيرة ومتكاملة؛ لا ترغب في رؤية سورية مستقرة آمنة. وهي لذلك تتناغم بتنسيق مباشر أو بحكم التقاء الأهداف؛ لتشكل تهديدًا خطيرًا لذلك الأمل الرائع الذي أزاح نظام القهر والاستعباد عن صدورهم وعقولهم ونفوسهم؛ وهو الأمل الذي فرضته التضحيات العظيمة للشعب السوري وإصراره على التحرر من نظام آل الأسد المجرمين الخونة. فيما لم تكن أية تسهيلات خارجية محتملة لانهيار النظام إلا رضوخًا لإرادة الشعب السوري وعدم المقدرة على استمرار حماية نظام بات متهالكًا منهارًا من داخله تنخر في عظام فضائح الفساد والمافيات والصراعات الدموية بين أجنحة العمالة لهذا الفريق أو ذاك..
ورغم تلك التسهيلات غير المنكرة من الخارج لعملية التغيير الذي حصل؛ فإن أطماع أطرافها واضحة غير منكرة أيضا. أطماع في سورية ما بعد النظام الساقط. سورية الجديدة. وأهم من يعتقد أن الأطراف الخارجية ليست ذات أطماع ومصالح في سورية وأرضها ودورها ومستقبلها وهويتها أيضًا. لا وجود للعمل الطوعي الخير في علاقات الدول وسياساتها وتعاملاتها. لا يحتاج هذا إلى بيان لأنه حقيقة راسخة في سياسات الدول..
ومما لا ينبغي أن يغيب عن البال أن عرقلة بناء سورية الجديدة قد تتخذ لذاتها عناوين صديقة براقة وليس بالضرورة أن تكشف عن ذاتها ونواياها..
إن رفع العقوبات الأميركية والأوروبية عن سورية لا تعني بالضرورة والواقع؛ وقوف هذه الدول إلى جانب الشعب السوري. وكما كانت العقوبات – التي من المفترض أن تستهدف النظام الساقط – شديدة الضغط على المواطن السوري وليس على أطراف النظام بل إن مافيات النظام هي التي استفادت منها وراكمت ثروات ضخمة على حساب الناس. فالخشية أن يكون رفع العقوبات مادة جديدة للابتزاز وإثراء بعض المنتفعين والمنافقين والمكوعين مجددًا وعلى حساب مصالح الناس أيضًا..
غاية القول: إن هذا التعقيد في المشهد السوري يحتاج إلى حلول مركبة تتكاتف في وضع رؤيتها وتشخيصها ومن ثم تنفيذها ومن ثم حمايتها ؛ حلول متكاملة على أساس من رؤية وطنية شاملة لمجمل التحديات والمهمات المطلوبة للانطلاق بأمان في عمليات التغيير وإزالة آثار النظام الساقط وبناء سورية جديدة..
إن مسؤولية بناء دولة جديدة على أسس مقبولة ومتينة أكبر من قدرة أي طرف سوري بمفرده. كما أن تجزئة الحلول وتبسيطها لن يؤدي النتائج المرضية والمقبولة..
لهذا كله نكرر رؤيتنا كتيار عروبي وطني ينطلق من حرص تام على مصلحة سورية الواحدة الموحدة أرضًا وشعبًا ودولة؛ ومفادها أنه على كل القوى الشعبية المخلصة لسورية وطنًا واحدًا لكل أبنائه؛ العمل معًا من أجل إنجاح عمليات التغيير الإيجابي المطلوب وحمايته وترسيخه باستمرار.. فتلك مهمة رسمية وشعبية وليست فقط مهمة الإدارة الجديدة أو الرئيس الجديد..
إن تكامل طاقات وإرادات العمل الوطني؛ سواء في مؤسسات الدولة أو في مواقع العمل الشعبي باتت ضرورة ملحة أكثر من أي وقت مضى ليتمكن الجميع معًا من حماية ما تم من إنجازات وتوسيعها وتجنب أكبر قدر من الأخطاء التي لا بد أن تحصل كنتيجة لتعقيدات المشهد وتزاحم التدخلات المعرقلة والسلبية المناهضة. ومن ثم استكمال مراحل التغيير والبناء..
إن الإدارة الجديدة أحوج ما تكون الآن إلى أوسع تكاتف شعبي يقيها خطر الأطماع الخارجية ويشكل لها الأرضية الصالحة الوحيدة لمواجهة الضغوط الأجنبية واعتداءات العدو الصهيوني وجحافل المخربين في الداخل..
إن سلاح الالتفاف الشعبي هو الضمانة الأساسية لقدرة الإدارة الجديدة على مواجهة التحديات ومحاصرة العوائق والعراقيل الكثيرة..
ولا نرى أن مثل هذا الالتفاف الشعبي يمكن أن يتحقق من غير إرادة مشتركة ورغبة مشتركة وسعي مشترك لتحقيقه من خلال الاستعانة بالأكفاء والمخلصين من أبناء الوطن – وما أكثرهم – وإعادة بناء الجيش الوطني – عماد الأمن والأمان – على أسس الولاء للوطن والإخلاص له.. ومن ثم إعادة بناء كل مؤسسات الأمن العام على أسس مشابهة حتى يطمئن المواطن إلى أمنه فيساهم بفعالية في بناء مستقبل سورية الواحد الموحد..
إن اطمئنان المواطنين إلى سلامة قواهم الأمنية ونزاهتها من العصبيات الخاصة أو الفئوية؛ هو المقدمة الأساسية لاستقرارهم النفسي والاجتماعي وقدرتهم على المساهمة الفعالة والعطاء المخلص في سبيل الوطن..
فلنعمل معًا وجميعًا على حماية التغيير وتصحيح البناء ومحاصرة الأخطاء ومواجهة أي خلل يمكن أن يكون طرأ في غفلة من الأمر وعلى غير دراية أو خبرة أو انتباه..
إن قوة النظام السياسي تتجسد في مدى تفاعله الحر مع الإرادة الشعبية ومدى الالتفاف الشعبي حوله…وكما نرى فإن جميع الأطراف المعنية متأهبة لمثل هذا. يكفي من الإدارة الجديدة اتخاذ المبادرات اللازمة لفتح أبواب التعاون الإيجابي المثمر مع كل القوى الشعبية وضمان مشاركتها الفاعلة في تقرير المصير الوطني وضمان أمن المستقبل.