حين يتحوّل الخوف إلى فهم.. تصبح الدولة هي الحصن لا الخطر

بشار الحاج علي

من ظلال الخوف إلى نور الثقة، تتحوّل الدولة من تهديد محتمل إلى ملاذ آمن. هذه الرحلة تبدأ بفهم عميق لدورها الحقيقي: ليست مصدر خوف أو قهر، بل هي الحصن الذي يضمن الحقوق، ويصون التنوع، ويجمع أبناء الوطن على قاعدة المواطنة الحقيقية.

في هذا السياق، تتحوّل الدولة إلى الضامن الأساسي لأمن الجميع، خاصة الأقليات، لتصبح عامل استقرار لا مسبب انقسام.

في لحظة سياسية سورية شديدة الحساسية، تتكثف المخاوف كما تتقاطع المصالح. وبينما تتشكل سلطة وطنية جديدة في دمشق، لا تزال أسئلة الانتماء والموقع والضمانات تطرح نفسها بقوة، خصوصًا لدى فئات عريضة من السوريين الذين عُرفوا عبر عقود بأنهم “أقليات”. هذا القلق، المشروع أحيانًا والمفتعل أحيانًا أخرى، يعيدنا إلى جوهر سؤال أساسي: ما وظيفة الدولة؟ ولمن هي في الأصل؟

في المجتمعات الخارجة من نزاعات طويلة، كما هي الحال في سوريا، لا يكفي استعادة مؤسسات الدولة فقط، بل يجب إعادة تعريفها على أسس جديدة.

الحقيقة التي كثيرًا ما يُغفل عنها، أن الدولة حين نشأت كمفهوم سياسي واجتماعي حديث، لم تكن لتكريس حكم الأغلبية، بل لحماية حقوق الأقلية. فالأغلبية، بحكم كثافتها العددية وقدرتها على التأثير في المجال العام، لا تحتاج إلى منظومة حماية معقدة، بينما الأقلية هي التي تحتاج إلى كيان فوق الجميع، محايد في انحيازاته، عادل في قراراته، وضامن في موازناته.

هذه ليست مجرد نظرية فلسفية أو سياسية، بل هي جوهر فلسفة العقد الاجتماعي وعلم الاجتماع السياسي. الفيلسوف البريطاني “جون ستيوارت ميل” حذّر من خطر “طغيان الأغلبية”، مؤكدًا أن الغلبة العددية قد تتحوّل إلى أداة قمع إذا لم تُقيد بدولة قانون حقيقية. لذلك، وُجدت الدولة أولًا وآخرًا كآلية لحماية الطرف الأضعف من تغوّل الأقوى، لا العكس.

وفي هذا السياق، يؤكد الباحث “أندرياس فيمر” أن تصنيف “الأقليات” ليس ثابتًا أنثروبولوجيًا أو جغرافيًا فقط، بل هو نتاج لعملية سياسية تاريخية تعتمد على موازين تمثيل وشرعية ضمن الدولة. وعندما تكون الدولة عادلة وشاملة، يزول هذا التصنيف ويصبح الجميع مواطنين، متساوين في الحقوق والواجبات، بغضّ النظر عن خلفياتهم الإثنية أو الدينية.

لكن في المجتمعات الخارجة من نزاعات طويلة، كما هي الحال في سوريا، لا يكفي استعادة مؤسسات الدولة فقط، بل يجب إعادة تعريفها على أسس جديدة. دولة تُبنى فوق هواجس الأقليات، أو تنكر لهم حق الشراكة الحقيقية، هي دولة معرّضة للفشل. فالشراكة المتكافئة في السيادة والمصير الوطني لا يمكن أن تكون مجرد مطالب ضمانات من الخارج، ولا انسحابات داخلية، بل هي التزام جماعي بإعادة صياغة العقد الاجتماعي الذي يجمع الجميع.

التجارب المقارنة تعطي دروسًا واضحة. لبنان، على الرغم من أزماته العميقة، حافظ لعقود على استقرار نسبي بفضل نظام “الديمقراطية التوافقية” الذي وزّع السلطات بين الطوائف، ما أعطى شعورًا بالأمان النسبي للأقليات. ولكن التجربة اللبنانية أظهرت أن هذا النظام، رغم إيجابياته، يحمل في طياته جذور الضعف؛ إذ إن التوزيع الطائفي لا يحل جذور المشكلات بقدر ما يطيل أمدها، ويجعل الدولة عرضة للتدخلات الخارجية وللابتزاز السياسي على حساب الوحدة الوطنية.

أما العراق، الذي يعاني حتى اليوم من صعوبات الاستقرار، فدوره نموذج آخر على مخاطر استمرار أنظمة المحاصصة الطائفية، التي تعيق بناء دولة مدنية حقيقية. الانقسامات العميقة، وأزمات الشرعية الموروثة من هذا النظام، أدخلت العراق في دوامات من النزاعات الداخلية والعنف، ما جعل الدولة غير قادرة على تأمين مصالح مواطنيها بشكل مستقر وفعّال.

سوريا التي تحمي كل أبنائها، وتؤمّن لهم المواطنة الحقة، هي التي تخرج أقوى، وأكثر قدرة على تحقيق الرفاه والرقي لشعبها، وقادرة على لعب دور إقليمي مسؤول ومتوازن.

هاتان التجربتان المؤلمتان تثبتان نقطة جوهرية: إضعاف الدولة الوطنية، أو بناؤها على أسس غير عادلة وغير شاملة، يعرّضها للابتزاز الخارجي، ويضعف قدرتها على حماية حقوق جميع مكوناتها، خاصة الأقلية منها. الدولة القوية هي التي تتأسس على مشروع وطني جامع يرفض الطائفية، ويرسّخ مفهوم المواطنة والعدالة.

في سوريا اليوم، كل إضعاف للسلطة الوطنية الجديدة في دمشق هو خدمة مباشرة لمن يريدون استمرار الفوضى والتدخل في الشأن الوطني. الدولة التي تُضعف هي الدولة التي لا تحمي أحدًا، لا الأكثرية ولا الأقلية. بينما الدولة التي تستند إلى شرعية وطنية داخلية ومؤسسات عادلة، قادرة على اتخاذ قرارات سيادية تُحفظ بها حقوق الجميع.

سوريا ليست فقط حدودًا جغرافية، بل موقع إقليمي وثقافي، وأي ضعف في سيادتها يعني تقويض الاستقرار في منطقة شديدة التعقيد. دولة سورية قوية ومستقرة، قادرة على فرض نفسها في المنطقة، تعني خريطة جديدة ترتكز على السيادة لا على التخادم، وعلى الرقي لا على الانقسام، وعلى الرفاه لا على الخوف.

إن الفهم الحقيقي للدولة يجب أن يتحوّل من كونها خصمًا إلى أن تكون حصنًا يضمّ الجميع، ويؤمّن حقوقهم، خاصة الأقليات التي تُعتبر مقياس عدالة النظام وشرعيته. حين يتحوّل الخوف من الدولة إلى فهم دورها وحقيقتها، تتحوّل الدولة إلى ضمانة حقيقية للحقوق والأمن، لا تهديدًا أو مصدر خوف.

من هنا، لا يمكن لأي مشروع وطني سوري أن يستقيم دون إدراك أن قوة الدولة ليست فقط في مركز السلطة في دمشق، بل في مدى قدرتها على احتواء وتضمين كل المكونات، والمساواة في الحقوق، والحفاظ على الأمن والاستقرار. وهذا يتطلّب إرادة وطنية صادقة، ووضوحًا في الرؤية، وبناء مؤسسات لا تُخضع لأي أجندة خارجية.

كما يقول روبرت بادينغتون، العالِم في علم الاجتماع السياسي، فإن المواطنة المتماسكة تقوم على شبكة من الثقة المتبادلة بين كل أفراد المجتمع ومؤسساته، ما يخلق حالة من التضامن الاجتماعي السياسي، الذي لا يترك مكانًا للشكوك أو الهامشيات (Putnam, 2000).

في الختام، سوريا التي تحمي كل أبنائها، وتؤمّن لهم المواطنة الحقة، هي التي تخرج أقوى، وأكثر قدرة على تحقيق الرفاه والرقي لشعبها، وقادرة على لعب دور إقليمي مسؤول ومتوازن. لا مجال اليوم للخوف من الدولة، بل على الجميع أن يشاركوا في بنائها بفهم جديد يراعي تجارب الماضي، ويصنع مستقبلًا مستقرًا وواعدًا.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى