
تحت غيمةٍ باهتةٍ عن سيناريوهات تسويةٍ لم تتبلور بعد لإسكات حرب الحمقى في السودان، تتصاعد حمّى رفضٍ متسلحٍ بمواصلة الحرب (حتى النصر). منطق هؤلاء “ما أُخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة”. هذه فرضيةٌ لا تضع خاتمةً للحرب، فمجاراةُ منطق المقولة يفتح الباب مشرعاً على فرضية “ما أُخذ بالحرب لا يمكن الاحتفاظ به بغير الحرب”، فما من فريقٍ يمتلك من العدّة والعتاد ما يؤمن قدرته على الاحتفاظ بما انتزع أو استردّ من مكاسب، فالمعارك تدحرجت من جبهات المواجهة إلى ممارسات الكرّ والفرّ. هذه مرحلةٌ تنأى بالفرقاء عن الانتصار الحاسم وبالدولة عن السلام. وحدهم المستثمرون في الحرب يجنون عائدات سفك الدماء، وتزايد شهداء القتل العشوائي، الجوع وضحايا الأوبئة وهروب الأبرياء الاضطراري.
***
الذين يتبنّون مقولة جمال عبد الناصر الشهيرة “ما أُخذ بالقوة…” يجتزئونها عن سياقها التاريخي، فالزعيم المصري استنفد وقتئذٍ كل الرهانات على العمل الدبلوماسي. هي رسالة وجّهها إلى الأمة العربية والأمم الأخرى، أكثر مما هي إلى الشعب المصري، كما أنهم يبتسرون شروط منطق المقولة، فتحقيق النصر يتطلب بالضرورة إيماناً ثابتاً بالقضية محور الصراع. كما يستوجب امتلاك تفوّقٍ في أسلحة الانتصار واستراتيجيته على نحو يؤمن حراسةَ استمراره. بعد دخول الحرب الرعناء عامها الثالث لا يزال واقعها التدميري يغالب منطق دعاة التوغّل في دمائها ورمادها، كما يؤجج الثأر والانتقام المضاديْن بحثاً عن انتصار سراب يبدو بعيداً عن الأطراف المنهكة.
***
يشكّل الحسم العسكري الخطل الغالب في فهم “ما أُخذ بالقوّة لا يُسترد بغير القوة”، فلم يستهدف عبد الناصر فقط نفض رماد هزيمة 1967 عن كاهل المصريين، بل قصد منح حرب الاستنزاف قوة التأثير وجلد الصبر حتى بلوغ النصر واسترداد الكرامة. لكن علي عبد الله صالح لم يفطن إلى ذلك حينما ردّد “الحل في فوهات البنادق”. كذلك وقف فهم عبد الفتاح البرهان حيث انتهت فطنة صالح عندما قال “المجد للبنادق”. على النسق نفسه، يريد ترامب تلبيس قصفه ونتنياهو غزّة ولبنان وإيران وسورية منطق “صناعة السلام بالقوة”، مع أن مفهوم القوة ليس حبيس أُطر العنف. يقول التاريخ إن العنف لا يولّد إلا عنفاً. هذه خلاصة مضادّة لبلوغ السلام عبر السلاح وحده. للقوة أشكالٌ غير مفهوم العنف، منها الإيمان، قوة العقيدة، قوة القضية، هناك قوة الموقف، قوة المنطق وقوة التفاوض وقوة الدبلوماسية الناعمة. هكذا يفهم المسلمون قاطبة قول الخلّاق البديع “خذ الكتاب بقوة”.
تورّط النخب (التكنوقراط) أصحاب الشهادات والخبرات مع تجار الحرب في دولة الرمق الأخير مسألة تفتقد الحد الأدنى من شروط الاستيعاب
***
إذ توجد حكمةٌ نافذةٌ في مقولة “ما أُخذ بالقوة لا يُستردّ بغير القوة”، هي حتمية التسلح بالقدرة واليقظة محافظة على ما نمتلك. لكن التفريط والتساهل على نحوٍ يغري الآخرين بالاعتداء والتعدّي على الحقوق نهجٌ يستوجب النقد والمساءلة أولاً، فإذا للهزيمة ضريبةٌ فادحة، فان التفريطَ تستتبعه كلفةٌ باهظة. لأن الطرف الآخر يحصل على ما لا يستحقّ بلا جهد مستحق. كما أن التفريط يولّد شعوراً بالغبن والحسرة. ذلك مسار هذه الحرب الخرقاء منذ بدئها. مع ذلك، يجنح دعاة الحرب إلى التشبّث بنهج العنف خياراً حتى إذا اضطرّهم وهنهم وقلة حيلهم أو استرضتهم قوى خارجية لجأوا إلى تسويق السلم بشعاراتٍ زائفةٍ صدوراً عن مصالحهم الضيقة، كأنما تصالح زعماء الحرب فيه مصالح الفرقاء والمفرّقين المقهورين. حينئذٍ يكرُّ الخرّاصون مقولة هنري كيسنجر: “في السياسة لا يوجد أصدقاء أو أعداء دائمون، بل توجد مصالح دائمة”.
***
تدمير البنى العامة والخاصة جزءٌ من الأزمة، لكنه ليس كل الأزمة الوطنية، فالدولة الخارجة من عتمة الانقلاب أمّ الأزمات، فهي ليست فقط سلطة غاصبة منتهكة، كما أنها، رغم تشدّدها في احتكار جميع الامتيازات ومصادرة كل الحقوق، عاجزة عن احتكار السلاح. على النقيض، خوفاً وضعفاً، هي تتوسع في نشر السلاح من دون وازع وطني أو أخلاقي. هذا التفريط في احتكار السلاح مبتدأ أزمة الحرب. كذلك هي دولة دكتاتورية شرسة ضد جميع المبادرات الديمقراطية. لذلك تواجه بتجاهل متعمّد، وبعنف، كل مبادرات إسكات الحرب، بغضّ النظر عن مصادرها، لأنها تدرك جيداً أنها سلطة تعتاش من الحرب، وعليها حدَ فقد مناعة الحياة خارجها، فهي تقاتل حتى تفنى أو تفنى عناقيد النار.
***
لذلك تنعقد حواجب الدهشة حينما يتحدّث المستوزرون في زمن “حكومة الأمل” الوهم المخلّق عن مشروعاتٍ عملاقة حديثة يحلمون بتنفيذها وفاءً لسداد دين الشعب عليهم أو رغبةً في وضع خبراتهم المكتسبة في الخارج خدمة للداخل، فلا يدري هؤلاء أن من العسير، بل من المستحيل إنجاز مشاريع في وطن تأكل النار جنباته كل يوم؟ ألا يدري هؤلاء أن الاستقرار قاعدة البناء؟ ألا يدري هؤلاء “التكنوقراط” أن السلام بوابة الاستقرار؟ ألا يعلم هؤلاء أن الانحياز إلى المنادين بتعجيل إخماد الحرب أقصر الدروب إلى السلام؟ أكثر جدوى للوطن وأنفع لمداواة معاناة الشعب؟ حال هؤلاء كمن قال فيهم الشاعر العراقي مظفر النواب: “أفضل من يصنع مجدافين وليس له قارب”. بل هم ليس لهم نهر. يعلم غالبية السودانيين يدواعي تعيين رئيس الوزراء الجديد، كما يدركون دوافع قبوله، لكن تورّط النخب (التكنوقراط) أصحاب الشهادات والخبرات مع تجار الحرب في دولة الرمق الأخير مسألة تفتقد الحد الأدنى من شروط الاستيعاب، لأنها مجرّدة من الحد الأدنى من الأخلاق، المنطق والقيم الوطنية.
المصدر: العربي الجديد