
إن حقيقة الأحداث الجارية في غير بلد عربي وفي المشرق العربي تحديدا حيث سياج فلسطين المغتصبة ودول الطوق العربي لدولة الصهاينة المغتصبين؛ تحثنا على مقارنة هادئة بما كانت عليه هذه البلاد في أيام التجربة المصرية – الناصرية لبيان الفارق الإستراتيجي الخطير بين الحالتين ليتبين معه أمران:
1 – لماذا الهجوم المستمر والمتصاعد على تجربة جمال عبدالناصر وعليه شخصيا رغم مرور 55 سنة على وفاته في 28 ايلول من العام 1970.
2 – لماذا تردى الوضع الشعبي إلى ما يكاد يكون حروبا أهلية طائفية وعرقية ومذهبية حيث تحل الولاءات الإنقسامية المتقوقعة محل تلك الرابطة العربية القومية التي صنعت حركة شعبية عربية هائلة أرعبت العالم فتكالب عليها لتفكيك عراها ودحرها..
تشهد بلاد المشرق العربي حالة من التمزق المجتمعي والتشرذم ذي الطبيعة الطائفية والعرقية والمذهبية والعشائرية ؛ تهدد وجودها ذاته وتستنزف طاقاتها وتهدر أرواح بنيها دونما أفق واضح يؤملنا بوضع حد لها ونهاية قريبة..
الخطورة في الأمر أن هذه الإنقسامات باتت تشمل كل المجتمعات العربية التعددية..وهي الغالبية بين بلاد العرب..وفي حين كانت تلك التعددية – الدينية والطائفية والمذهبية والعرقية – مصدر قوة للكيان العربي ومجتمعه المتماسك ؛ عبر كل مراحل تاريخه القريب والبعيد ؛ كما كانت سمة إيجابية تدل على أمرين أساسيين :
# الأول : البعد الحضاري الغائر في عمق التاريخ لتكوين المجتمع العربي..وتمازج أنواع وألوان الحضارات المتنوعة فيه وإنصهارها لتشكل تلك الشخصية الغنية المتكاملة الأبعاد في الإنسان العربي المعاصر..وهذا لوحده مصدر اساسي أكسبه الغنى والتعدد والإنفتاح العقلي وسعة الأفق..
# الثاني : مقدار ما يتمتع به من حرية الرأي والفكر والعقيدة دونما أي إكراه أو قهر أو إضطهاد..فكانت مجتمعات العرب أكثر رحابة وسعة وثقة أيضا من أية مجتمعات أخرى ذات خلفيات عنصرية أو إستعمارية..
وهذا ما جعل منها منطقة جذب لكل الباحثين عن حرية العمل وحرية الفكر وحرية العقيدة..وجعل منها أرضا عريقة ينجذب إليها كل المضطهدين في بلاد العالم المختلفة..
إنجذب إليها أهل الشيشان هربا من اضطهاد الروس لهم..واهل البوسنة والشركس والأرمن المسيحيون الهاربون من أضطهاد الأتراك المسلمين لهم..أكراد هاربون من تركيا ومن إيران فإستقروا في سورية والعراق ..اليهود الهاربون من إضطهاد أوروبا العلمانية ” المسيحية ” عقب سقوط دولة الحضارة العربية في الأندلس..وهكذا ..كانت السمة الحضارية الإنسانية للمجتمع العربي هي عنصر الجذب الأساسي لكل هؤلاء..فعاشوا وإستقروا وتوطنوا وتجنسوا وأصبحوا مواطنين من أبناء الأمة ..إنصهروا فيها وتحلوا بصفاتها وأخلاقها وقيمها..
وصل التدهور المجتمعي أن تسلحت كل جماعة إنقسامية ب :
– عقيدة تبرر بها مساراتها التقسيمية وخياراتها العنصرية تجاه غيرها .
– تنظيمات ومؤسسات ثقافية وإعلامية وإجتماعية تجسد فكرها الإنعزالي الإنفصالي..وتشكل إطارا يضم أبناء الجماعة وتصنع لهم مصالح تجمعهم وهوية خاصة وولاءات فئوية منعزلة تضعهم في مواجهة الآخر..
– ميليشيات مسلحة تمارس بها عدوانها على الوطن والمجتمع والأنسان الآخر ؛ تحت ذريعة الدفاع عن النفس وحماية حقوق الجماعة ..
كل هذا تم ويستمر بدعم ورعاية قوى أجنبية غير عربية أصبحت مصدر الحماية الاساسي لهذه الجماعات ..حتى اصبحت جميعها تتميز بولاءات خارجية تستمد منها قوتها وتحافظ بها على دورها ووظيفتها..على حساب هويتها الوطنية – القومية وولائها لها..
حتى أن تقارير الحوادث والأحداث باتت تحذر علنا ودون مواربة من حروب أهلية ذات طبيعة مذهبية في كل بلاد المشرق العربي..وكما بينت كل الوقائع والوثائق والمواقف الغربية وتحديدا الصهيونية – ألأميركية ؛ المعلنة جهارا ونهارا ؛ فإن ما يجري على هذا الصعيد في بلادنا ؛ يرجع إلى إستراتيجية وضع أسسها المستشرق الصهيوني برنار لويس وإعتمدتها الإدارة الأميركية منذ العام 1983..وهي تتلخص في العمل على تقسيم المجتمعات العربية إلى كيانات طائفية ومذهبية وعرقية وعشائرية وإعادتها إلى مرحلة الشعوبية – الجاهلية قبل أن يصهرها الإسلام الدين والحضارة في مجتمع عربي واحد وأمة عربية واحدة..
إن وجود أمة عربية واحدة في الوطن العربي تحكمها دولة وحدوية او إتحادية ؛ يشكل خطرا إستراتيجيا وجوديا على مصالح الغرب الإستعماري وإمتداداته في المنطقة والعالم..وهذا أهم سبب لإغتصاب فلسطين بالقوة الإستعمارية الصهيونية منعا لتحرر ووحدة وتقدم امة العرب..
كل هذا بات واضحا جليا يعرفه الجميع ويرددونه كل يوم ويحذرون من نتائجه المدمرة..
فما الذي حصل حتى تدهورت حالنا إلى هذا الدرك المنذر بأخطر العواقب ؟؟
كيف تصدع بنيان الحركة الشعبية العربية يوم أن كان قائدها جمال عبدالناصر ؛ فتراجعت من اعظم وأقوى سلاح إمتلكته حركة التحرر العربية منذ قرون عديدة ؛ إلى تشظيات تقسيمية متناحرة مرتهنة للأجنبي ؟؟
كانت الخصائص التي توفرت للحركة الشعبية العربية هي التي أكسبتها وحدتها وصلابتها وجعلت منها قوة عالمية واجهت حربا عالمية شاملة على الوجود القومي للأمة وعلى مقوماتها وقيمها التاريخية :
تمحورت كل تلك الخصائص على ركن أساسي جوهري إستراتيجي تمثل في :
حركة تحرر عربية تقود مسيرة القومية العربية نحو أهدافها في : التحرر والوحدة والتقدم..
حركة قومية عربية على راس قيادتها قائد تاريخي مخلص أمين صادق حر مستقل شريف ؛ ينطلق من مصر كقاعدة أساسية للعمل التحرري العربي..
لم تكن مصر هي القوة ولم يكن جمال عبدالناصر أيضا..
كانت قوة العقيدة القومية العربية وحركتها التحررية التي صاغ توجهاتها وعبر عنها وقادها جمال عبدالناصر الثائر البطل..
كانت المحرك الأول لنشوء تيار الحركة الشعبية العربية الهادر من المحيط إلى الخليج والتي ترددت أصداؤه ونتائجه أرجاء العالم أجمع..
ليس هذا كلاما للمديح او للعواطف ولكنه بيان للحقيقة التي لا بديل عن بيانها لندرك اسباب التدهور والتشظي المجتمعي الراهن ..
حينما إستبدلت حركات سياسية العقيدة القومية الجامعة بعقائد شعوبية وتقسيمية كان من البديهي ان يتراجع حال الحركة الشعبية وينزلق إلى التقوقع المذهبي..
حينما نشأت وبرعاية أجنبية وأمنية متنوعة حركات وتنظيمات ومؤسسات تعادي العقيدة القومي ومحركاتها التوحيدية الجامعة ؛ غيبت البعد القومي الوحدوي التحرري من سماتها ودوافعها فوقعت في جحيم الشرذمة..
حينما وضعت لذواتها برامج عمل وخططا لترجمة عقائدها الإنعزالية إلى مصالح ومكاسب وإرتهانات فئوية ؛ إفتقرت الحركة العربية التحررية إلى زخمها ورصيدها البشري والتنظيمي والفكري..
فتراجعت وتقدمت الحركات والعقائد المعادية لكل دعائم الرابطة القومية..وهو الواقع الذي يشكو منه المخلصون ويحذرون من تداعياته..
خلاصة ما سبق أن أحد أهم وأعظم إنجازات ثورة 23 تموز الناصرية تمثل في بلورة تلك الحركة الشعبية العربية الهادرة وفق رؤية قومية عربية ومشروع وطني – قومي تحرري متكامل..
وما كان المشروع الصهيوني – الإستعماري يلجأ إلى إستراتيجية التفكيك المجتمعي لنسف تلك القوة الشعبية المتماسكة ؛ إلا أن أدرك حجم ما شكلته من خطر على مصالحها وما حققته من نتائج تحررية ووحدوية..وهو ما أرعبه ولما يزل..
وإذا أدركنا عدم قدرة الصهاينة على ملء ارض ” مملكة بني صهيون ” الكبرى بالبشر نظرا لعدم توفر العدد اللازم أو الكافي من اليهود الصهاينة لبناء دولتهم المزعومة من الفرات إلى النيل..
ولما كانت الكتلة الشعبية في ارض المملكة الصهيونية الموهومة ؛ متحدة متماسكة فعالة كما بينت المرحلة الناصرية ؛ رافضة للتوسع الصهيوني والقبول بدولته متمسكة بعروبتها وتحرير أرضها ؛
فقد لجا الغرب الإمبريالي الامريكي – الصهيوني إلى تبني إستراتيجية تفتيت وشرذمة المجتمعات العربية ودعم ورعاية نشوء دويلات وكانتونات طائفية ومذهبية وعرقية متناحرة فيما بينها وتحتاج رعاية الأجنبي لها..وهذا ما يضمن توسع وسيطرة الأداة الصهيونية العسكرية والأمنية على المجتمعات العربية المنهكة والمشرذمة والمتآكلة من الداخل بكل أنواع العصبيات الإنعزالية..
عود على بدء ؛ يبين هذا ويترجم مدى فعالية التجربة الناصرية وما أنجزته من وحدة الحركة الشعبية التي هي أساس وعماد أية محاولة للبناء والتحرر والنهوض والتقدم..
كما يترجم ويفسر لماذا إستمرار الهجوم والتشويه العامد المتعمد لشخصية وتجربة جمال عبدالناصر العظيمة..رغم مرور 55 سنة على وفاته وإنحراف مصر من مسيرته بل وعدائها لها..
آن الحديث عن ثورة 23 تموز الرائدة ليس من الحنين إلى ماض عظيم مليء بالعزة والكرامة والإنجازات الكبيرة أيضا ؛ لكنه من باب فهم الواقع والوقائع الراهنة ومعرفة أسباب الإنهيار ومعرفة كيفية مواجهته والتغلب عليه وبناء المستقبل العربي الأفضل..وبكل وضوح وإصرار وحسم :
لا خلاص للعرب منفردين ومجتمعين من وحوش التقاتل والضياع والإنهيار إلا بالعودة إلى روابطهم القومية وهويتهم الموحدة وولاءاتهم الحرة للأمة والشعب والوطن ..
لا مستقبل للعرب إلا بمشروع عربي تحرري تنموي ديمقراطي أساسه حركة شعبية عربية حرة ومصانة..
” إن التقدم العربي لا يمكن بناؤه على التجزئة ” كما أكد قائد الحركة النضالية الشعبية العربية جمال عبد الناصر.