
تعيش سوريا حالة غير مسبوقة من التوتر الأمني، تحوّلت فيها الاشتباكات في السويداء بين فصائل محلية ومسلحين من العشائر البدوية إلى اقتتال مفتوح، تجاوز طبيعته الاجتماعية ليأخذ أبعادًا سياسية وأمنية أعمق، على الرغم من إعلان أكثر من هدنة خلال الأيام الماضية، ولكن لا تزال المواجهات تتجدد بشكل متقطع، ما يعكس هشاشة كبيرة وضعف خبرات في التعامل مع الأزمات الداخلية ضمن أطر قانونية واضحة.
وإذا ما أخذنا بالحسبان الأحداث التي عاشها السوريون جميعاً خلال السبع أشهر الفائتة تبدو الصورة جلية وتوضح هشاشة المجتمع السوري، وانعدام وجود أرضية حقيقية يجتمع عليها السوريون بمختلف مللهم ونحلهم، وتبدو الصورة المثالية التي فتحت لنا أبواب الأمل بعد سقوط نظام الأسد قابلة للكسر بسهولة ولأسباب مختلفة، لا يعنيني هنا بالطبع محاكمة المجموعات الانفصالية في السويداء أو تجريمها ـــــــــ وهي مدانة بالفعل ــــــ ولا يغض ذلك التثبيت النظر عن الانفلات الأمني في السلاح الموجود وتتحمل مسؤوليته السلطة، وإنما أود التركيز على مشكلة السوريين بعضهم مع البعض الآخر وكيف يمكن أن ينعكس أي خلاف سياسي على المجتمع السوري ويهدد بانهياره وانفجاره، وتتحول خلافات بسيطة إلى معركة وجود.
سياسيًا، تبدو الحكومة المركزية متخبطة في حل الملف العالق منذ شهور، ولا بد أن الخبراء قد لاحظوا الوقوع في المطبات الإدارية وعدم وضوح القرار أو الاستراتيجية العامة لسياسة الدولة، يبدو هذا وسط حديث عن تدخلات خارجية واتهامات للكيان الإسرائيلي بمحاولة استثمار الصراع لحماية مصالحها في المنطقة.
لكن ذلك كله قد لا يعني السوريين في مواجهة سؤالهم المصيري الذي سيحدد وجهتهم: هل ما يحدث هو انهيار لمنظومة التعايش القديمة؟ أم أنه لحظة كشف لهشاشة المؤسسات في ظل غياب مشروع وطني جامع؟
من الواضح حتى الآن أن سوريا تدفع اليوم ثمن الفراغ السياسي الداخلي، وتُحمَّل وحدها تبعات انهيار الثقة بين المكونات، في ظل غياب الضمانات الحقيقية لأي حل دائم، فهل يبقى الباب مفتوحاً لتكرر سيناريو الانفلات، أم تُمنح الفرصة لبناء حل أهلي حقيقي.
لسنواتٍ طويلة، كانت الهوية السورية تُعرَّف بمفرداتٍ محددة، صيغت بعنايةٍ في غرف الحكم الشمولي، وغُلِّفت بشعارات قومية ووطنية تكررت على جدران المدارس ونشرات الأخبار وأغلفة الكتب، كان السوري، رسميًا، “العربيَّ السوريّ”، المنتمي لأمةٍ واحدة، لا يُسمَح له بالسؤال عن معنى انتمائه، ولا عن تعدد انتماءات رفاقه في الوطن. كان من يُطرح عليه سؤال الهوية، يجيب بعبارةٍ جاهزة: “أنا سوري وبس”.
لسنواتٍ طويلة، كانت الهوية السورية تُعرَّف بمفرداتٍ محددة، صيغت بعنايةٍ في غرف الحكم الشمولي، وغُلِّفت بشعارات قومية ووطنية تكررت على جدران المدارس ونشرات الأخبار وأغلفة الكتب، كان السوري، رسميًا، “العربيَّ السوريّ”، المنتمي لأمةٍ واحدة، لا يُسمَح له بالسؤال عن معنى انتمائه، ولا عن تعدد انتماءات رفاقه في الوطن. كان من يُطرح عليه سؤال الهوية، يجيب بعبارةٍ جاهزة: “أنا سوري وبس”.
لكن بعد أكثر من عقدٍ على اندلاع الثورة السورية وما تلاها من حربٍ دامية، وتفكك جغرافي واجتماعي، وولادة كيانات وأعلام متباينة، يُطرح السؤال اليوم بجدية وقلق: هل ما زال السوريون يعرفون أنفسهم؟
منذ ستينيات القرن الماضي، سيطر حزب البعث على مفاصل الدولة والمجتمع، ولم يكن ذلك مجرد حكمٍ سياسي، بل مشروعًا لإعادة تشكيل الوعي الجماعي، تمّ قمع التعدد الثقافي والديني والإثني، وجرى تهميش لغات ولهجات وانتماءات راسخة في عمق الجغرافيا السورية، الأكراد ممنوعون من لغتهم، والعلويون محاطون بالصمت، والدروز يُوصفون بأنهم “جزء من النسيج”، أما الآشوريون فخُفِّضوا إلى فصلٍ صغير في كتاب التاريخ.
تحت هذه السلطة، لم تكن الهوية تُبنى من تفاعل الناس مع أرضهم وتاريخهم ومعتقداتهم، بل تُفرض من أعلى، وتُراقَب بعينٍ أمنية، وتُمنَح للمطيعين فقط، لم يكن السوري حُرًا ليُعرّف نفسه؛ كانت الدولة تفعل ذلك نيابة عنه.
مع انطلاق الثورة السورية عام 2011، بدأ كل شيء في الانكشاف، بدأ السوريون يتحدثون، يختلفون، يخرجون من الصمت الطويل، يعيدون طرح الأسئلة الكبرى، من أنا؟ ماذا يعني أن أكون سوريًا؟ هل يشبهني ابن درعا وأنا من القامشلي؟ هل أنا علوي أولًا، أم مسلم، أم عربي، أم ببساطة “إنسان من هذا المكان”؟ وعلى الرغم من الاختلاف كانت الثورة جامعة لأنها ضمت الجميع إليها ومنحتهم هوية خاصة.
ثم جاءت الحرب، فمزقت الخارطة السورية إلى مناطق نفوذ تتبع قوى متعددة: النظام، المعارضة، الإدارة الذاتية، القوى الخارجية، وكان لكل منطقة لهجتها الإعلامية، وأحيانًا منهاجها الدراسي، وعَلَمها، وأسماء شهدائها في قلب هذه الانقسامات، وصار لكل جماعة روايتها الخاصة عمّا جرى، وعمّا يجب أن يكون.
أما من لجأ إلى الخارج، فقد وجد نفسه أمام أسئلة أشد تعقيدًا. ففي المنفى، لا يكفي أن تقول “أنا سوري”؛ لا بد أن تشرح، أن تُفصّل، أن تُبرّر أحيانًا، سوري النظام أم المعارضة؟ من أي مدينة؟ هل كنت مع الثورة؟ هل أنت ضحية أم جلاد؟ هوية السوري المهاجر لم تعد مجرد جنسية، بل سيرة ذاتية مفتوحة على الاحتمالات والتأويلات.
يعيش السوري يعيش نوعًا من التمزق: انتماؤه موزع بين طوائفه وعشيرته، مدينته، ذكرياته، لغته الأم، خيبته، تجربته في الحرب، وموقعه من السلطة أو المعارضة، وبذاك لم تعد هناك رواية موحدة يمكن أن يجتمع حولها السوريون، ولا سردية جامعة للبطولة أو المأساة أو المستقبل.
حتى “الوطن”، كمفهوم، لم يَعد يشبه ما كان عليه، هل الوطن هو الجغرافيا؟ أم الذكريات؟ أم العائلة؟ كثيرون عادوا إلى مدنهم ليجدوها غريبة عنهم، في حين بقي آخرون في المنافي وباتت صور الوطن تمر من خلال شاشة هاتف.
على الرغم من كل هذا التشتت، أجد نفسي من بين الناس الأكثر تفاؤلاً، وأمنّي نفسي بأنه مخاض عسير لا غير، وأن علينا أن نمر به بعد عقود من السجن والقهر والفقر السياسي، وسندفع ثمناً غالياً ربما تمهيداً لبناء البلاد التي نحب، لكنني أتمسك بالأمل، لأن غياب الهوية المفروضة يفتح الباب لبناء هوية حقيقية، نابعة من الناس أنفسهم، تعترف بتعددهم، وتحتضن اختلافاتهم.
لا يمكن أن تُبنى الهوية السورية الجامعة على الإنكار أو الإقصاء، بل على الاعتراف: بالآخر، وبالخطأ، وبأننا لم نكن مجتمعًا موحدًا كما كنا نُصوَّر، لا بد من سردية تعترف بأن هناك ضحايا، وأن الجراح مفتوحة في كل بيت، وأن المصالحة لا تبدأ من السياسة بل من الحقيقة.
هناك جيل جديد من السوريين، وُلِد في المخيمات، أو نشأ في الشتات، أو تربى في مناطق خارجة عن سيطرة الدولة، قد لا يحمل هذا الجيل ملامح “السوري النموذجي” الذي صاغه الإعلام، لكنه قد يكون أكثر حرية في تعريف نفسه، وأكثر استعدادًا لبناء هوية تنتمي للمستقبل لا للماضي.
ربما لا يعرف السوريون أنفسهم اليوم كما كانوا يظنون من قبل، وربما هذا ليس أمرًا سيئًا، فالشك في الهوية، والانقسام حولها، قد يكون بداية ضرورية لإعادة تشكيلها على أسس أكثر عدلًا وصدقًا.
فالهوية لا تُفرض، ولا تُورث، بل تُكتسب من التجربة والمعاناة والمواجهة مع الذات، وبعد كل هذا الألم، ربما يستحق السوريون أن يُعيدوا تعريف أنفسهم، لا كضحية فقط، ولا كمواطن في ظل شعار، بل كشعبٍ يستحق أن يُصغي لصوته الحقيقي، ويُصالح ماضيه، ويصنع مستقبله بيده.
المصدر: تلفزيون سوريا