
نام خلدون بعد أن قرأ رسالة السجان سليمان، أو بالأحرى حاول أن ينام بعد أن صُبت هموم الأرض فوق رأسه دفعة واحدة، أحسَّ بصقيع يجتاح كيانه، فلا أجوبة صلبة تهدئ من نفسه المضطربة، فوضى الأسئلة مزعجة خاصة إذا كانت مغلفة بالمعاناة ومحشوة بالألم، أحسَّ بصعوبة هائلة في الوصول إلى مرحلة النوم العميق، فما فتِئ يتقلب يمنة ويسرة وهو يحاول أن يجد فراغاً يضع فيه جسده وروحه بين تلك النفوس المضطربة من حوله، فتراكُمات أكثر من نصف قرن وجدها أبناء هذه الأرض تخرج من خزائنها العفنة دفعة واحدة.
عندما استنفذ كلَّ طاقته، أغمض أجفان روحه لينعم باستراحة محارب مُنهَك. في حلمه انتقل مباشرة إلى قصر الشعب، إلى الرئيس السوري الحالي “أحمد الشرع” وصديقه أحمد يجلس بجواره. وهذا الحوار يدور بينهما حول مفهوم العدالة في سوريا المستقبل:
المكان: غرفة اجتماعات صغيرة في أحد القصور الرئاسية السورية. الهواء في الغرفة مشحون بالصمت الثقيل. على الطاولة بينهما، أكواب من القهوة تنتظر اللمسة الأخيرة. الجو غير رسمي ولكن الوجوه جدية، تتكئ كلُّ شخصية على أفكار عميقة ومتضاربة حول مستقبل البلاد.
أحمد الشرع (الرئيس الحالي): ( بصوت هادئ، ينظر إلى أحمد)
لقد مررنا جميعاً بتجارب قاسية في السنوات الأخيرة، ولن أنكر أن هناك أموراً كان من الممكن تجنبها. لكن العدالة، كما تعلم، ليست مفهوماً بسيطاً، إنها عملية معقدة تتطلب أحياناً تفهم الظروف والتوازن بين الأمن والاستقرار، وبين المصالحة والمحاسبة.
أحمد: (يخفض رأسه قليلاً، ثم ينظر مباشرة إلى عين الرئيس)
أحمد يتحدث بعصبية يغلفها هدوء مُصطنع؛ مَن عايش الظلم لا يستطيع أن ينكره. لقد مررتُ بما لا يمكن للكلمات أن تعبر عنه في تلك الزنازين المظلمة، بينما كانت وعود العدالة تُداس تحت الأقدام. نحن، نحن من عشنا ذلك الألم، لا نبحث عن المزيد من الوعود الكاذبة، نريد عدالة حقيقية، وليست مجرد كلمات.
أحمد الشرع (الرئيس الحالي) :(يشرب قليلاً من قهوته، ثم يضع الكوب جانباً)
أنا أفهم ما تقول، وأعلم أن الكثير من الناس يشعرون بالظلم، ولكن من وجهة نظري، العدالة ليست في الانتقام أو محاكمة الجميع على مرأى ومسمع. العدالة في سوريا المستقبل تحتاج إلى التوازن. نحن بحاجة إلى بناء دولة قوية أولاً، ثم المضي قدماً في محاسبة من أساء في إطار مؤسسات قانونية تحترم الجميع، سواء كانوا ضحايا أو مسؤولين.
أحمد: (يبتسم بشفقة، ويحرك يديه في الهواء كما لو أنه يشرح شيئاً صعباً)
أنت تتحدث عن بناء دولة، لكن الدولة التي نتحدث عنها يجب أن تكون نابعة من رحمة الناس، من الاعتراف بالألم الذي عانيناه؛ كيف نثق في مؤسساتك إذا كانت هي نفسها التي ساهمت في تعذيبنا؟ كيف نصدق أن هناك عدالة حقيقية عندما تعود الوجوه نفسها التي مرت علينا في الزنازين لتدير كلِّ شيء؟
أحمد الشرع (الرئيس الحالي): (تنهمر عليه بعض الذكريات المقلقة، لكنه يظل ثابتاً في نظرته)
أفهم شعورك جيداً. لكن الواقع معقد، يا أحمد، نحن لا نستطيع أن نبني سوريا الجديدة على أساس الانتقام والتفرقة. نعم، هناك مسؤولون عن الأخطاء والظلم، وأنا أوافقك أن هناك حاجة للمحاسبة. ولكن هذه المحاسبة لا تعني تدمير كلِّ شيء. يجب أن نكون واقعيين في تفكيرنا. ماذا عن أولئك الذين يعتقدون أن البلاد قد دفعت الثمن الكافي؟ هل نقيم محاكمات لا نهاية لها في الشوارع؟
أحمد : (يقف قليلاً، ثم يبدأ في المشي حول الغرفة، متحدثاً بتوتر لم يعهده خلدون من قبل)
وأنا أقول لك، ماذا عن أولئك الذين قتلوا أحلامنا؟ الذين دمروا حياتنا؟ الذين حرمونا حتى من الكرامة؟ العدالة لا تعني أن نغلق أعيننا على كل تلك الدماء التي سالت، ولا تعني أن نصمت على آلام عائلاتنا التي فقدت الأبناء في الزنازين.
أحمد الشرع (الرئيس الحالي): (يتنهد، ويحاول السيطرة على انفعالاته)
لكني أخشى، يا أحمد، أن الاستمرار في هذه الحلقة لن يؤدي إلا إلى إدامة الألم. أعتقد أن العدالة تبدأ بالمصالحة، وبفتح الأفق للجميع للمشاركة في بناء هذا البلد. المحاسبة يمكن أن تكون جزءاً من هذا المسار، ولكن في إطار مؤسسات قانونية مستقلة، تحت إشراف دولي لضمان نزاهتها.
أحمد: (يعود ليجلس، مظهره يشير إلى تعب داخلي، لكن عينيه لا تزالان مليئتين بالتصميم)
لا يمكن لأي مؤسسة أن تضمن العدالة ما دامت ممثلة في الأشخاص أنفسهم الذين تسببوا في هذا الظلم. العدالة لا تبدأ من المؤسسات، بل من قلب النظام. نحن لا نريد وعوداً أخرى، ولا نريد تسويات على حساب دمائنا، نريد أن نرى أولئك الذين ارتكبوا الجرائم يقفون أمام محاكم عادلة، نريد أن نعيش بسلام، ولكن هذا السلام لا يتحقق إلا بالاعتراف بالحقيقة أولاً، والمحاسبة.
أحمد الشرع (الرئيس الحالي:( (يغمض عينيه للحظة، وكأن كلمات أحمد تخترق قلبه، لكنه يحاول أن يظل رصيناً)
ربما تكون محقاً في كثير من ما تقول. لا أستطيع أن أنكر أن الطريق إلى العدالة طويل. لكنني أؤمن أن بناء سوريا الجديدة يتطلب منا أن نتخلى عن الانتقام ونحاول إيجاد حلول تضمن الأمن والاستقرار. المحاسبة جزء من هذا، لكن يجب أن تكون منسجمة مع رؤية للسلام المستدام.
أحمد: (ينظر إليه بتمعن، ثم يقول بهدوء)
العدالة ليست خياراً، إنها حق. إذا كانت سوريا المستقبل ستحمل أي شيء من هذا، يجب أن تكون هناك محاسبة حقيقية، لا مجرد مواقف سياسية أو وعود فارغة. العدالة يجب أن تكون مقدمة على كل شيء آخر.
يستيقظ خلدون فزعاً على صراخ أحمد وهو ينتفض في وجه الرئيس ويقول: العدالة أولاً، العدالة أولاً، العدالة أولاً…
نهض خلدون فزعاً، ثم جلس على طرف السرير يمسك رأسه بتلك يديه يحاول سحق رأسه بيديه عسى أن يخفف آلام رأسه. أحسَّ خلدون أن هذه الرؤية مشهد عابر من الصراع الذي يعيشه بشكل مستمر منذ أن سقط النظام. يعبِّر فيه كلُّ طرف عن وجهة نظره الشخصية: أحمد الشرع يتحدث عن التوازن والأمن في سوريا المستقبل، بينما أحمد يصر على أن العدالة لا يمكن أن تتحقق دون محاسبة حقيقية. الحوار يعكس التوتر العميق بين ضرورة المصالحة الوطنية من جهة، وضرورة تحقيق العدالة والمحاسبة من جهة أخرى، وهو يعكس بصدق الانقسامات والآمال التي تترسخ في سوريا اليوم. لم يكن هذا الحلم ليهدئ نفس خلدون المضطربة وأفكاره المتصارعة وهو يقف وأبناء بلده على مفترق طرق، قبل سقوط النظام كانت الأمور أبسط بكثير، فوجود عدو حقيقي يبسط الأمور ويجعلها جلية واضحة، لكن الآن لم يعد يدرك السوريون عدوهم الحقيقي، أهو التركة الثقيلة لسنوات طويلة من الاستبداد؟ أم النفوس المُغرقة بالعقد المركبة؟ أم هواجس الانتماء القديم وهوية الانتماء الجديد؟ قبل رحيل النظام وقفوا على طرفي نقيض: سجين وسجان، أما الآن فلم يعودوا يميزوا أي الأدوار سيلعبون، ومما زاد الأمر تعقيداً أن سوريا قلب العالم ومفتاح الشرق الأوسط الجديد، فهي بذلك لن يكون لأبنائها الباحثين عن هوية، الكلمة الفصل في إقرار هويتهم ومستقبلهم!
ينتقد أحمد في الرؤيا بشدة أولويات الرئيس الجديد وربما من يقف خلفه أو من يملي عليه ربما شروطه، فاستجابة العالم للفظائع التي ارتكبت في سوريا من القصف بالبراميل ومعسكرات التعذيب الممنهج التي لم يشهد لها التاريخ مثيلاً، تمثل فشل النظام العالمي في تحقيق الأهداف التي ناد بها طويلاً وصدع بها رؤوسنا وهو يمارس عكسها تماماً. يتأمل خلدون كيف كان المجتمع الدولي بطيئاً في الاستجابة، على الرغم من الأدلة الواضحة وضوح الشمس على الإبادة الجماعية، إما بسبب عدم التصديق أو اللامبالاة، وتعبير اللامبالاة أدق بكثير فملفات قيصر ومجزرة الكيمياوي بالغوطة لا يمكن أن نصف سكوت المجتمع الدولي عنها إلا بالجريمة المتعمدة. الشعور العميق بالإحباط إزاء الافتقار إلى التدخل ولامبالاة أولئك الذين كان بوسعهم وقف الإبادة الجماعية، تجعل المشهد شديد التعقيد، فعلى ما يبدو أن المجتمع الدولي أراد في النهاية أن يتخلص من القاتل بشار الأسد ليخفي بصمات المنظومة العالمية على السكينة التي ذَبَحَ بها الأسدين شعبنا أفراداً وجماعات!
التواطؤ والفشل العالمي في منع أو وقف الهولوكوست السوري، يجعل القارئ للمشهد يتأمل الطرق التي يمكن أن تساهم بها اللامبالاة والتقاعس عن العمل في انتشار المعاناة على نطاق واسع. إن إحباط أحمد وهو يواجه رئيس سوريا الحالي هو تذكير قوي بأهمية اليقظة والمساءلة في مواجهة انتهاكات حقوق الإنسان؛ لأن الأنسان هو محور الصراع منذ هبوط الشيطان وابن آدم لهذه الأرض.
في الحلقة الـ 12 من رحلة سجين مستمر برحلته لتكون مرحلة التحرير والعهد الجديد بسقوط طاغية الشام وأزلامه. صور رائعة عن مصداقية الحدث ينقلها بشفافية.