
الأخلاق من أكثر المفردات والمعايير سيولة واستخداما وغموضا فى تقييم السلوكيات الاجتماعية للآخرين، وذلك دونما ضبط وتحديد لماهية الأخلاق، والقيم المعيارية التى يقاس بها ما إذا هذا السلوك أخلاقى، أو مضاد لها.
غالبا هذا المفهوم الغائم في بعض المجتمعات، مرجعه خلط بعضهم بين الأخلاق فى الدين ومعتقداته، ومذاهبه –آيا كان-، وبين الأخلاق الموروثة داخل كل ثقافة من الثقافات –آيا كانت-، وبين نسبية الأخلاق، وتطوراتها فى واقع كل مجتمع وثقافته، وبين التصور المطلق للأخلاقيات المستمدة من النصوص الدينية المقدسة او الوضعية ، وتأويلاتها.
يذهب قاموس اكسفورد إلى أن الأخلاق هي” نظام قيم، أو قواعد معيارية، أو مبادئ تحكم بموجبها النوايا، أو السلوكيات على أنها جيدة أو سيئة أو خاطئة. قد ينشأ هذا الحكم من معتقدات ثقافية أو دينية أو فلسفية”.
تدور الأنساق الأخلاقية النسبية المتغيرة حول قيم ومعايير الخير، والشر، والعدالة، والغش والخيانة والإخلاص ، والصدق ، والأذى، والمساواة والحرية، والقمع، والحب، والكره.. إلخ.
الأخلاق الإنسانية في الحياة المدنية نسبية، وليست مطلقة ، وتؤثر فى السلوك الفردى، والجماعى ، وفى العلاقات الفردية، أو الجماعية، كما أنها تؤثر على قيم ومعايير العمل، والمسئولية، والكفاءة، وأيضا على مفاهيم الحرية والعبودية والاستبداد والخضوع والامتثال للسلطة آيا كانت سياسية أو دينية أو التحرر منها والخضوع للقانون أو إنتهاكه او الأمتثال للفوضي اوبعضها .. إلخ.
الأخلاق الإنسانية، متغيرة من مجتمع لأخر ومستويات تقدمه أو تخلفه ، وتعتمد على طبيعة السلطة القائمة داخله ومدي خضوعها للقانون والقيم والقواعد السياسية الديمقراطية أم يهيمن عليها الإستبداد والطغيان او التسلطية السياسية . في ذات الوقت تتأثر الأنساق الأخلاقية الإنسانية والمدنية ، والدينية بالتغيرات التكنولوجية، والعلمية، والاقتصادية، وتطور مستويات الوعى الفردى، والطبقى والنظام الاجتماعى آيا كان. من ثم نحن أمام طبيعة نسبية أخلاقية، ليست ثابتة، ولا تتطور عبر الزمن، أو التطورات الاجتماعية والسياسية، والاقتصادية.
لا يمكن أيضا الفصل بين طبيعة النظام الاقتصادى، وبين الأنساق الاقتصادية السائدة لأن المعايير الأخلاقية، تعكس أيضا طبيعة المصالح الاقتصادية السائدة للطبقات الحاكمة وظهيرها الاجتماعى، وتتغير مع تركبيه السلطة الحاكمة ومصالحها ، ومعاييرها الأخلاقية.
ثمة بعض من التمايز أو التداخل بين القيم الأخلاقية المستمدة من المرجعيات الدينية والمذهبية –آيا كانت- وبين طبيعة النظام الاقتصادى والاجتماعى ومن ثم السرديات التأويلية للقيم الأخلاقية التي تستند علي الدين وموروثاته وتفسيراته .
القيم الدينية/ المذهبية وتأويلاتها لا تعنى أن القيم الدينية الأخلاقية تمثل عائقًا ضد التقدم الاقتصادى والاجتماعى على نحو ما قد يشيع بعضهم، لأن تطور الرأسمالية تاريخيًا، اعتمد على الثورة التأويلية البروتستانتية لمارتن لوثر، وكيلفين، وذهب ماكس فيبر إلى أن لوثر ركز على مفهوم الأعمال الدنيوية، وأن العمل واجب وكذلك الادخار ، ومن ثم أدى ذلك إلى تراكم الثروات الفردية، وتوظيفها، واعتبرها بمثابة نعمه من الله متأثرا فى ذلك بالعهد القديم.
ربط ماكس فيبر بين أخلاق العمل وبين الرأسمالية، وبين الكاليفينيك ، وبين العمل كدالة على الخلاص الشخصى، والإنتاج وليس الإستهلاك، ومن ثم الانضباط في الاستهلاك، يؤدى إلى الادخار والاستثمار، وهو ما ساهم فى إتاحة فرص العمل، والمساعدة على بناء مجتمع منتج وفاعل، ودينامى، وذلك فى ظل قيم الثقة والادخار والتواضع والصدق، والتسامح، والمثابرة، التى ساهمت فى ميلاد الثورة الصناعية . نظرية ماكس فيبر ذائعة الصيت فى علم الاجتماع ، ونظرياته، وتطوره، كشفت عن أن الثورة التأويلية اللوثرية والكاليفينية ساهمت فى تطور الرأسمالية الأوروبية، وأيضا فى الثورة الصناعية.
النسبية الأخلاقية، والأنساق الأخلاقية المتغيرة فى المجتمعات الأوروبية، والغربية، تأثرت بتطور التكنولوجيا، والثورات الصناعية، وبالفردانية، والفرد كفاعل اجتماعى، ثم التمايز بين الوضعى وما وراء الوضعى، وخاصة الأديان، ومن ثم باتت الليبرالية والرأسمالية، هى ديانة الغرب الوضعية، لكنها ديانة تحت سيطرة الطبقات الحاكمة فى النظم الليبرالية الرأسمالية ، وتطوراتها النسبية من مرحلة لأخرى، والأهم داخل تركيبة وهياكل ونظم وشروط الإنتاج الرأسمالية، وتغيراتها.
أدت الثورة الصناعية الثانية، والثالثة إلى تسييد ثورة الاستهلاك المفرط للسلع والخدمات العامة، وتسليع الرغبات والدوافع الفردية والجماعية.
من ثم باتت حرية الاستهلاك المفرط، وتوسعها، وتغولها على الحريات العامة والفردية، رهينة الشركات الرأسمالية العملاقة والضخمة كونيا، ومن ثم قدرتها على توليد متجدد للرغبات والدوافع الاستهلاكية والخدمية، ومعها تمويل المصارف للأفراد بالقروض للأفراد لإشباع بعض رغباتهم المتجددة فى الاستهلاك والخدمات.
تزايدت النزعات الاستهلاكية المفرطة، والكثيفة على نحو أدت إلى أنماط من تسليع السلوك الفردى، وتحوله إلى استعراضات وتمثيل على نحو ما أشار إلى ذلك جي ديبور في مؤلفه مجتمع الاستعراض ، وفي كتابه في الرد علي منتقديه والتعليقات عليه .
بدأت هذه الثورة الاستهلاكية المفرطة بعد ثورة الطلاب في جامعة كاليفورنيا بيركلي وامتدت إلي جامعة السوربون 1968، واتسع نطاقها فى ظل الثورة الصناعية الثالثة، فى أوروبا وأمريكا، وتمددت عالميا، ويمكن اعتبارها واحدا من أسباب انهيار الإمبراطورية الماركسية، اللينية / الستالينية السوفيتية، وذلك لإنتاجها دوافع سوسيو- نفسية متخيلة لدى الأفراد، وبعض المجتمعات الاشتراكية . أدت الثورة الصناعية الرابعة، وداخلها الثورة الرقمية ،والذكاء الاصطناعي التوليدي إلى انفجار الرغبات الاستهلاكية الجامحة، من الواقع الرقمى إلى الواقع الفعلى، وتمكنت الشركات الرقمية العملاقة من أن توظف البيانات الضخمة Big Data، وتحليلها، وبيعها للشركات الرأسمالية النيوليبرالية الكبرى فى العالم ،ومن ثم إلى تحويل الإنسان/ الفرد إلى مادة يعاد تشكيلها، من خلال توليد الدوافع والرغبات السوسيو نفسية والاستهلاكية عبر البيانات الضخمة، وسياسات الترويج للسلع والخدمات عبر وسائل التواصل الاجتماعى، وتوظيف سلطة الصورة الرقمية، والفيديوهات الوجيزة جدا، وسياسة الأغواء ، وتنشيط ما يمكن أن نطلق عليه ديانة السوق، وديانة الاستهلاك النشط، والمفرط، والمتغير والمتحكم فيه . فى ظل نيوليبرالية متوحشة، تفرض النيوليبرالية أخلاقيات الاستهلاك والتسليع للإنسان، وللقيم الأخلاقية، بل تحولت الفردية المتسلعة، إلى معتقل فعلى للحرية فى السياجات الاستهلاكية المتغيرة، والمتجددة. بات الفرد محاصرًا بين السلع والخدمات ، ومن ثم تتآكل نسبيا بعض القيم الليبرالية السياسية والأخلاقية مع هذه السياسات الاستهلاكية المفرطة، وإعادة تشكيل الدوافع والرغبات الإنسانية . ما تزال هناك بعض من القيم الأخلاقية الليبرالية، والبروتستانتية والكاثوليكية – ما بعد المجتمع الفاتيكان الثانى- فى السلوك الفردى، والاجتماعى الأوروبى، والغربى إلا أن بعض هذه الأخلاقيات البروتستانية، اللوثرية والكالفينية، يتآكل ويضعف بعضها، مع استمرارية البعض الآخر.
لا شك أن أخلاقيات الديانة الوضعية النيوليبرالية الوحشية، ومعاييرها تتمركز حول تعظيم الاستهلاك المفرط، وتسليع السلوك وتشيوء الإنسانى، على نحو يفاقم من مشكلة المعنى فى الوجود الإنسانى وهو ما سوف تتزايد هذه المشكلة الوجودية مع ثورة الذكاء الاصطناعى التوليدى، ومرحلة الإناسة الروبوتية، وستؤثر على قيم الإبداع، والعمل والمسئولية، والكفاءة، وعلي العقل الرقمي ، وستؤدى إلى مشكلة لمن سيخرجون إلى البطالة من سوق العمل ، ومنه إلى المزيد من الاغتراب الإنسانى، وحالة اللا معنى فى الحياة، وخاصة فى المجتمعات الأكثر تطوراً فى عالمنا خلال السنوات والعقود القادمة.
المصدر: الأهرام