رحلة سجين الفصل الثالث: السجين معتز يتحدث عن تجربته

د- أحمد سامر العش

السجين معتز يصف ليلته الأولى في أقبية الاستخبارات، عندما جُرِّد من هويته، وأُعطي رقماً -ليس له معنى- ضائعاً عاجزاً بين كومة من ملايين الأرقام، وأُجبر منذ تلك اللحظة على مواجهة الخسارة الساحقة لكل ما عرفه. يتذكر معتز الصدمة وعدم التصديق من معاملته على أنه أدنى من رتبة البشر أو حتى الحيوانات، بل والجمادات، فالصدمة النفسية المتمثلة في تقليصه من إنسان إلى مجرد رقم شيء لا يمكن وصفه إنْ لم تعشه! أما كيانه، شخصيته، أخلاقه، اجتهاده، إنسانيته بل حتى مشاعره فقد جرد منها تماماً عندما أصبح تصنيفه في السجلات الرسمية معارض للنظام.

القصة تكمن في عمق نزع الصفة الإنسانية التي حدثت له في معتقلات الأسد. إن قدرة معتز على التفكير في هذه التجربة، وفهمه لاحقاً بعد لقائه أحمد أنه يمكنه اختيار موقفه استجابة لها ولكل مآسي حياته الماضية واللاحقة، هي خلاصة قوية عن قدرة الإنسان على الصمود بغض النظر عن قدراته العقلية والجسدية قبل وبعد أي كارثة. هنا يبدأ المعتقل في الفهم – أنه على الرغم من أن الظروف الخارجية  قد تكون غير قابلة  للسيطرة- فإن موقف المرء الداخلي يظل مساحة من الحرية، بل ربما المساحة الوحيدة المتبقية لدى سجناء النظام.

يتحدث معتز وهو الإنسان ضعيف الثقافة والتعليم لخلدون عن كيف أن بحثَ كلِّ شخص عن المعنى الحقيقي للمأساة  شيءٌ شخصي بامتياز وفريد من نوعه. ويؤكد أن المعنى ليس إجابة واحدة تناسب الجميع وأن كلَّ فرد منا يجب أن يجد هدفه الخاص في هذه الحياة. بالنسبة إلى بعضهم، قد يكون الحب أو التعاطف، أما بالنسبة إلى الآخرين، فقد يكون العمل أو المعاناة أو النضال لآجل قضية ما.

الطبيعة العابرة للاختلاف في البحث عن المعنى، مع احترام فردية تجربة كلِّ شخص مهما كانت هويته، جنسه، طريقة تفكيره، أو نظرته للحياة وما بعدها، حاول معتز توصيلها لخلدون ونقل لبَّ ما تعلمه من أحمد. كان معتز يحدق في وجه خلدون وهو يحدثه بكلمات تتساقط من فمه مثل حبات متلألئة لعقد لؤلؤ منفرط؛ إن تأكيد أحمد على إيجاد معنى في الحياة هو ملخص لأشد تجربة إيلاماً في حياته-كما كان يحدثني، بغض النظر عن مدى ضعف الإمكانات وانعدام الخيارات، كان أحمد بدافع مجهول وبساطة عجيبة يشجع رفقاءه في الزنزانة على النظر إلى الداخل والتفكير في هدفهم الخاص، مما كان يجعل كلَّ واحد منهم مرتبطًا بالأمل بشكل لا يصدق و يصّير إرادته على البقاء لتصبح مُمكِنة بعد أن كانت مستحيلة، بل حتى يجعلها تتضخم لتصبح عصية على الكسر أو الالتواء تحت أكبر قوة غاشمة فوق سطح الكوكب.

مشاهدة أعمال إنسانية ورحمة بين السجناء، حتى في خضم معاناتهم هي ما تعلمه معتز من أحمد وجعلها محور حياته في محيط العذابات السرمدية من حوله. فعندما كان معزولاً في شرنقة آلامه ويأسه، رأى أحمد يتقاسم طعامه الذي لا يكاد يكفيه مع أحد السجناء، على الرغم من جوعه ومعاناته الشديدة، كمية صغيرة من طعام لا يصلح للاستخدام الآدمي هي الخط الفاصل بين البقاء أو الموت في زنازين الموت، ومع ذلك كان يشاركها مع سجين آخر. يتكلم معتز وعيناه تسبحان في بحر عميق من الحزن عن هذه اللحظات كدليل على أنه حتى في أشد الظروف سوءاً، تتمتع الروح البشرية بالقدرة على اختيار اللطف والتضامن والحب.

أحمد هو من شدَّه بقوة خارج الشرنقة التي نسجها حوله خوفه من المجهول، كان أحمد تجسيداً للقدرة البشرية على الخير حتى في مواجهة معاناة لا يمكن تصورها. كان هو من أنقذه دون قصد، هو من جعله فيلسوفَ نفسِه وطبيبَها بعد أن كان جلادها وسجانها. معتز يُحدث خلدوناً كيف أن البحث عن المعنى ليس مجرد ملاحقة فكرية، بل هو تجربة معاشة يمكن أن تتجلى في أفعال صغيرة وقوية من الحب والرحمة وفهم الآخر، حتى في أكثر البيئات وحشية. أحمد سلط الضوء على قدرة الناس على الحفاظ على إنسانيتهم على الرغم من تعرضهم لظروف غير إنسانية.

مفهوم “آخر الحريات الإنسانية” – بمعنى القدرة على اختيار موقف المرء في أي مجموعة معينة من الظروف هو ما اصطلح أحمد على وصفه لي. كان يقول لي: “يمكن أن يؤخذ كلُّ شيء من الرجل باستثناء شيء واحد: آخر الحريات الإنسانية – اختيار الموقف الذي لا يمكن لقوة بشرية أن تسلبه منك، إنه نورك الذي يبقى معك للأبد، ذلك النور الذي لا يمكن لأيِّ قوة بشرية أن تطفئه؛ إنها فكرة تمكينية للغاية ساعدتني على البقاء والاستمرار رغم أني فقدت كلَّ شيء دفعة واحدة: عملي، أسرتي، أحلامي حتى ذاتي، في حين قد لا يكون لدينا سيطرة على الأحداث الخارجية في حياتنا، يمكننا التحكم في كيفية استجابتنا لها. وهذا يمنح الفرد منا شعوراً لا يصدق بالقدرة على التصرف والقوة، حتى في مواقف المعاناة الشديدة والقهر الذي لا يتحمله أقوى مخلوقات الله .” هكذا كان يحدثني أحمد وهو يمسك معدته التي كانت تعتصره من الألم!

كيف يمكن للحب، على وجه الخصوص، أن يوفر معنى عميقاً للحياة؟ كان يحدثني عن أنه كيف كان قادراً، حتى في حفلات التعذيب المتكررة، على إيجاد العزاء في التفكير في زوجته والجنين الذي بطنها (رغم أنه لم يكن يعرف مصيرهم فيما إذا كانوا قد نجوا). لقد أعطته ذكرى حبِّه لأسرته إحساساً بالمعنى وسبباً لتحمل الألم والمعاناة.

فكرة أن الحب يمكن أن يكون مصدراً للمعنى هي واحدة من أكثر ما ساعدني على الاستمرار سواء بوجود أحمد أو حتى بعدما أخذوه بعيداً عنا. إنها تُظهر أن الحب يتجاوز حتى الانفصال الجسدي والمعاناة، ويقدم الأمل والاتصال في أكثر الظروف قسوة. يؤكد معتز لخلدون أن الأحباء الذين رحلوا –مثل أحمد- لم يضيعوا حقاً أبداً، حيث يستمر حبُّهم وإيثارهم في توفير المعنى في الحياة. هل ترى تلك البقعة المنسية من العالم التي نعيش وسطها؟ أجابه خلدون: ماذا تقصد؟ لا أفهم! أجابه معتز: سوريا التي حرقها النظام ودمرها حجراً فوق حجر، وبشراً تحت بشر؟ أجابه  خلدون: نعم، ما بها؟ قال: إني أرى فيها مشروع بناء رائع ووطن عظيم، ليس شرطاً أمام عيني، لكن داخل عقلي وقلبي.

باستغراب شديد يوجه خلدون سؤالاً للفيلسوف الذي صُنع في المعتقل وتحت عذابات السياط: كيف يمكن للمعاناة نفسِها أن تؤدي إلى المعنى؟ والخراب الذي يحيط بنا من كل جانب والأخطر منه  الانكسار في النفوس التي شوهها النظام بحيث اختفت معالمها، أن يُصدر الأمل؟ يؤكد معتز أنه ليس كلُّ المعاناة لا معنى لها؛ بل إن المعاناة التي تواجه بشجاعة البحث من خلالها عن المعنى يمكن أن تكون نقطة تحول في نظرتك للحياة. ختم حديثه لخلدون بالقول: “إذا كان هناك معنى في الحياة على الإطلاق، فلا بد أن يكون هناك معنى في المعاناة”.

“فبدلاً من النظر إلى المعاناة باعتبارها تجربة سلبية أو بلا معنى بطبيعتها، أعتقد أنها يمكن أن تكون طريقاً إلى عمق وفهم أكبر. إنها تتحدى كلَّ ما عرفناه للتفكير في كيفية إيجاد المعنى حتى في الأجزاء المؤلمة من الحياة. كيف يمكن إيجاد المعنى في كل لحظة؟ حتى في خضم المأساة. منذ خروجي أُحدِّث كلَّ من يأتي لزيارتي بأن الثائر الحقيقي مسؤول عن إيجاد المعنى في حياته، وأنه لا يمكن لأحد-مهما بلغ جبروته- أن يأخذ ذلك منه، بغض النظر عن ظروفه.”

“يجمع هذا الاستنتاج كلَّ شيء في بوتقة واحدة، فالمعنى ليس شيئاً ننتظره، بل شيئاً نخلقه في كل جانب من جوانب حياتنا. سواء من خلال العمل أو العلاقات أو المعاناة أو لحظات التأمل الهادئ، إن القدرة على إيجاد المعنى هي جزء أساسي من التجربة الإنسانية، وهذا بحق ما تعلمته من أحمد رغم أني لم أجالسه إلا لأشهر.”

بحث الإنسان عن المعنى: هو تلك الومضة التي تسلط الضوء على أهمية المسؤولية الشخصية في إيجاد وتحديد هدفك في هذه الحياة، حتى في أصعب الظروف. إن تأملات أحمد فيما زوده به المعتقل حول المعاناة والحب ومرونة الروح البشرية يتردد صداه بعمق؛ لأنه يقدم إحساساً بالقدرة على التصرف والتمكين، بغض النظر عن الموقف.

إن رسالة معتز لخلدون في النهاية هي رسالة أمل: “إن الحياة لها معنى، حتى في مواجهة المعاناة، وإن اكتشافها متروك لنا. لا أقول: إنني بعد افتراقي عن أحمد، لم أعد في كثير من الأحيان إلى شرنقتي القديمة، لكن أحمد هو من أعطاني المفتاح للخروج منها، كنت أشعر أن وجودي في تلك الزنزانة التي لا يمكن لأبلغ الأدباء أن يصف قساوتها، له معنى عميقٌ يكمن في مساعدة القادمين الجدد ربما بالاستماع لهم، أحياناً بإعطائهم دوري في الوقوف على دورة المياه، أو بمسح دمعة خرجت من مقلتي مكسور ومقهور في لحظة انهيار، أو حتى برسم ابتسامة لطيفة في وجهه الحزين، لا تعلم -يا صديقي- كم هو ثمن الابتسامة العاقلة داخل تلك الزنزانة ربما لا تساويها كنوز الأرض”. هنا كان سؤال خلدون الأخير: وهل هناك ابتسامة عاقلة وأخرى مجنونة؟ أجابه أكبر فيلسوف لم يحمل شهادة أو سمات العاقل المُتفكر قبل سجنه:” بالطبع يا من تذكرني برائحة أحمد: كلُّ الابتسامات داخل المعتقل ابتسامات مجنونة”.

“أنصحك إذا أردت أن تعرف بقية القصة عن أحمد أن تذهب للبحث عن الطبيب سعيد؛ لأنه هو من كان مسؤولاً عن علاج السجناء، وقد نقلوا إليه أحمد بعد أن أزعج صراخه من الألم نوم السجانين.”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى