مخلّفات الاستبداد… الحالة التونسية نموذجاً

محمد خليل برعومي

حين يُختزَل الحكم في شخص أو فئة، ويتحوّل الفضاء السياسي مجالاً مغلقاً، يبدأ الاستبداد في التشكّل، لا ممارسةً سياسيةً فحسب، بل بنيةً ثقافيةً وذهنيةً تُعيد تشكيل العلاقات الاجتماعية والرمزية داخل المجتمع، فالنظام الاستبدادي لا يفرض سلطته من خلال الأجهزة القمعية فقط، بل أيضاً من خلال ترسيخ أنماط من التفكير والسلوك تُعيد إنتاجه، حتى في غيابه. ومن هذا المنظور، لا تزول آثار الاستبداد بزوال النظام، بل تستمرّ ما لم تُفكّك جذورها الاجتماعية والنفسية. والحالة التونسية، بما مرّت به من مسارات ما قبل الثورة وما بعدها، توفّر أرضيةً خصبةً لتحليل هذه الظاهرة من منظور سوسيولوجي ونفسي.

لقد أنتجت عقود من الحكم السلطوي في تونس علاقةً مشوّهةً بين الفرد والدولة، قائمةً على الخوف بدل الثقة، وعلى التبعية بدل المشاركة. تشكّلت في البنية العميقة للمجتمع آليات دفاع جماعية ضدّ السلطة، الامتثال الظاهري، الازدواجية في الخطاب، وانفصال المجال العام عن المجال الخاص، وهي جميعاً أعراضٌ لما يسمّيه علماء النفس بـ”الصدمة الجمعية”، إذ يعيش المجتمع نوعاً من الانفصام بين ما يُقال وما يُفعَل، بين ما يُراد وما يُمكن، بسبب تراكم الإحباط وانسداد الأفق. هذه الصدمة لا تخلق شعوراً بالعجز فقط، بل تُنتج ثقافةَ الخضوع، فيُفضّل الأفراد السلامة على المبادرة، والاستقرار الظاهري على المجازفة بالتغيير.

سوسيولوجياً، أدّت هذه البنية السلطوية إلى تفكّك الرابط الاجتماعي بين الدولة والمواطن، فالثقة باعتبارها الركيزة الأساسية في أيّ علاقة سياسية صحّية انهارت تدريجياً مع تكرار تجارب التهميش والتجاهل والإقصاء. وقد أظهرت دراسات اجتماعية ما بعد الثورة أن فئاتٍ واسعةً من المجتمع التونسي، خصوصاً في المناطق الداخلية، لا تزال ترى في الدولة كياناً بعيداً وعدائياًَ، رغم شعارات الانتقال الديمقراطي. وهو ما يُفسّر جزئياً عودة الخطاب الشعبوي في السنوات الماضية، فيجد المواطن نفسه منجذباً نحو رموز “الحزم” و”القوة” نوعاً من التعويض النفسي عن سنوات التهميش واللاجدوى. من الزاوية النفسية، يمكن تفسير هذه العودة إلى الاستبداد حالةً من “الحنين المرضي”، وهو نمط معروف لدى الشعوب الخارجة من فترات طويلة من القهر، فتصبح الحرّية عبئاً غير معتاد عليه، ويثير الفضاء المفتوح قلقاً بدل الطمأنينة.

لم يترافق الانتقال الديمقراطي بإصلاح عميق للمؤسّسات، خصوصاً التي كانت ذراعاً أساسياً في ترسيخ الخوف الجماعي

في إثر الثورة، عانى المجتمع التونسي من عدم الاستقرار، وتضخّمت انتظاراتٌ لم تكن الدولة قادرة على تلبيتها سريعاً، ما أدّى إلى إحباطات متكرّرة. وفي غياب تأطير سياسي فعّال وزعامة قيادية مقنعة، بدأت تظهر أعراض ما يسمّيه علم النفس السياسي “الإرهاق الديمقراطي”، أي التراجع عن قيم المشاركة لصالح البحث عن حلول فردية أو سلطوية.

ما زاد الأمر تعقيداً هو أن الانتقال الديمقراطي لم يترافق بإصلاح عميق للمؤسّسات، خصوصاً التي كانت ذراعاً أساسياً في ترسيخ الخوف الجماعي، كجهازي الأمن والقضاء، فبقيت مظاهر الاستبداد قائمة في الممارسة، وإن غابت في الشكل. وعليه، فإن البناء الديمقراطي في تونس وُلِد في تربة لم تُطهّر بعد من بقايا السلطوية. فالدولة التي لا تُعيد صياغة عقدها الاجتماعي مع مواطنيها، تبقى دائماً عرضةً للنكوص.

ليست هذه الظواهر استثنائيةً، ففي تجارب مقارنة نجد تشابهات واضحة. بعد سقوط جدار برلين مثلاً، واجهت شعوب أوروبا الشرقية اضطرابات اجتماعية ونفسية مماثلة، تمثّلت في فقدان المعنى وغياب التماسك الاجتماعي. ولولا الاستثمار المكثّف في التعليم، وإعادة بناء المؤسّسات، وخلق برامج إدماج سياسي وثقافي، لما تمكّنت تلك الدول من الثبات الديمقراطي. كذلك، أظهرت دراسة لمرحلة ما بعد الفصل العنصري في جنوب أفريقيا أن العدالة الانتقالية لا تُقاس بالمحاسبة القضائية وحسب، بل بإعادة بناء الثقة الاجتماعية والنفسية، وهي عملية تستغرق أجيالاً.

التحوّل الديمقراطي لا يتحقّق فقط، بانتخابات أو دساتير، بل حين يشعر الفرد بأن صوته مسموع، وكرامته مصانة

في تونس، لم تُستكمَل هذه العملية، بل توقّفت في منتصف الطريق. سقط النظام، لكن البُنى الذهنية والرمزية بقيت على حالها، وبقيت المدرسة تعلّم الطاعة أكثر مما تُشجّع النقد، وبقي الإعلام هشّاً، والمجتمع المدني مشتتاً، ولهذا لا يُستغرَب أن تستعيد بعض أنماط الاستبداد حضورها، لا إكراهاً، بل أحياناً مطلباً شعبياً مُضمرَاً. غير أن هذا الواقع لا يعني بالضرورة أن الديمقراطية فشلت، بل أننا بصدد مرحلة انتقال لم تكتمل. إن فهم مخلّفات الاستبداد ينبغي أن يتجاوز الطابع السياسي الظاهري، ليطاول الجوانب الأعمق، النفسية والاجتماعية والثقافية، إن الشعوب لا تنتقل من الخوف إلى الحرية بمرسوم، بل عبر عمل طويل لإعادة بناء الذات الفردية والجمعية، في ظلّ بيئة تضمن الكرامة والعدالة والاعتراف المتبادل.

كما أن التحوّل الديمقراطي لا يتحقّق فقط، بانتخابات أو دساتير، بل حين يشعر الفرد بأن صوته مسموع، وكرامته مصانة، وبأن الدولة ليست قوة فوقيةً، بل عقداً مشتركاً بينه وبين الآخرين. وحده هذا الشعور يعيد للسياسة معناها الحقيقي، لا أداة للهيمنة، بل وسيلة لتنظيم العيش المشترك.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى