رحلة سجين الفصل التاسع: قائد فصيل عسكري يروي حكايته من سجون بغداد إلى رايات النصر

د. أحمد سامر العُش

أبو مالك قائد فصيل عسكري توجَّه من حلب لحضور دفنِ صديقِ سلاحِه خالد، التقى بخلدون فوق قبر الشهيد خالد، لم يسمح له بالمغادرة مباشرة بعد أن انتهى العشاء ولقاؤه مع إسلام، بل طلب منه بإلحاح أن يبيت الليلة؛ لأن الطرق غير آمنة وفلول النظام تحاول قطع الطرقات وقتل المدنيين بشكل عشوائي؛ لتعم الفوضى، فالانقلاب على المنتصرين من الثوار بدأ بدعم خارجي واضح، والهدف معلن وواضح: تقسيم، حرب أهلية، فوضى تضيع معها العدالة، عودة الأيادي الخارجية من الشباك بعد أن خرجت من الباب…

بعد إلحاح شديد بات خلدون مع باقي أفراد سرية الشهيد خالد، وبات معهم أبو مالك. وفي صباح اليوم التالي أراد خلدون توجيه سؤال للمجموعة: هل سبق لأحدكم أن اعتُقِلَ أثناء الثورة أو قبلها؟ الجواب الصادم صدر من أبي مالك، حيث قال له: نعم أنا سُجِنت قبل الثورة وخرجت مع الدفعة الأولى لمعتقلي صيدنايا، بعد أن أراد النظام أسلمة الثورة، وقد نجح في ذلك، وأنا كنت من هؤلاء الذين تواصلنا بشكل مباشر مع الممولين الخليجيين الذين أغرقونا بالمال المرفق بالتوجيهات، وكنت بحق أداة ساذجة بين أيديهم، قبل أن ألتقي بخالد وأدرك أننا كنا ضحايا ومجرمين بحق أنفسنا وشعبنا، لقد كنا بحق الوقود الذي استخدمه أعداء الشعب السوري الذين قنعوا أنفسهم بقناع أصدقاء الشعب السوري. الصدفة هي ما جمعتني بخالد، شيء غريب شدني لهذا الأربعيني الذي له نظرة مختلفة عن كل من حوله، من تبادل القصص عن تاريخنا أدركت أنه يجمعنا صديق مشترك يدعى أحمد، هنا انتفض خلدون وصاح: هل تعرف أحمد؟! كلُّ الموجودين نظروا إلى ذاك الصوت القوي المفعم بمزيج من الدهشة والسعادة، وهل تعرف أحمد؟! سأل أبو مالك! نعم أحمد صديق عمري، أنا وهو وخالد أصدقاء من أيام الجامعة، ومشاغل الحياة قربتني من أحمد أكثر من خالد الذي سافر للعمل في دول الخليج! أنا وأحمد كنا لا نفترق قبل اعتقاله، ولكن أخبرني أين التقيت به؟ وما هي قصتك معه؟ و… هنا قاطعه أبو مالك، وطلب منه أن يهدأ قليلاً ولا يمطره بالأسئلة؛ لأنه سيحدثه بكل شيء، لكن هدئ روعك قليلاً.

أذكر بدقة يوم ألقى السجانة ذاك الجسم النحيل الأزرق في مهجعنا رقم 13 في السجن الأحمر بصيدنايا، كنا قابعين في هذا المهجع من قبل الثورة بسنوات، فقد رُحلنا من سجن -أبو غريب- مباشرة إلى سجن صيدنايا، دون أن ندري أننا انتقلنا من بلد إلى بلد. يبدو أن السجون في الوطن العربي تقع تحت سلطة واحدة، فهي تختلف عن بعضها بتفاصيل صغيرة، ولكن لا يمكن لك أن تميزها عن بعضها في الخطوط العامة. في صيدنايا تلقينا تعذيباً يفوق آلاف المرات عن ذاك الذي ذقناه في سجون العراق، بل للسخرية مررنا تدريجياً بثلاث مستويات من التعذيب، وكأني بهؤلاء القتلة أرادوا إكساب أجسادنا المناعة التدريجية، ربما تلك الحسنة الوحيدة لهم داخل ذلك المحيط الهائج بالآثام، كنا قد انتقلنا من التعذيب على أيدي الجنود الأمريكيين إلى التعذيب على يد الفصائل الطائفية التي ترفع شعارات ثارات الحسين لينتهي بنا المطاف في سجون الأسد قائد مسيرة الصمود والتصدي، يبدو عجيباً كيف اتفقت الأيديولوجيات المتصارعة من رأسمالية ليبرالية وطائفية تيوقراطية وتقدمية اشتراكية واجتمعت على أشلاء آلامنا الجسدية والنفسية، مما يجعلك تفكر هل هم أعداء حقيقيون أم أصدقاء مخادعون؟ في ذاك اليوم لم نستطع أن نأخذ منه كلمة واحدة، فقد بقي غائباً عن الوعي ليوم ونصف، أراد السجانون ألا يوقفوا حفلات التعذيب الجسدي عن ذاك الهيكل العظمي الحي، لكنهم كانوا يدركون أن الغائب عن الوعي لا يسعدهم بموسيقا عذاباته! في اليوم الثاني استيقظ في المساء متأخراً، بالطبع لا نعرف أكان هذا في الصباح أو في المساء، فالساعة الوحيدة التي نملكها في ذلك المكان الذي لا تُرى فيه أشعة الشمس، هي ساعتنا البيولوجية، ومواعيد الوجبات! لكن لم يكن أحد مستيقظ عندما استيقظ أحمد وأراد قضاء حاجته، لم يكن متوازناً، ولم تتعود عيناه بعد على مستوى الإضاءة الذي يكاد أن يكون معدوماً، قفزت بسرعة لمساعدته قبل أن يهوي على الأجساد المكدسة على أرض المهجع، ومن وقتها أصبحنا أصدقاء، لم يكن يستطيع التحدث كثيراً، فبين حفلة التعذيب والأخرى كان هناك استراحات محدودة المدة، وخلال فترة سجنه الأولى كان هناك إصرار من السجانة على تمييزه بالعذاب النفسي والجسدي عن السجناء القدامى، ربما كانت هناك أوامر بتصفيته في السجن كونه من أوائل الثائرين المحرضين على النظام! في فترات النقاهة المحدودة كنت أهب لمواساته وعملِ ما أستطيع لتخفيف آلامه، كان السجانون يغضون النظر عما أفعله، وكأنهم كانوا يعلمون أني أمدهم من حيث لا أدري بجولات إضافية من التعذيب الذي يُرضي ساديتهم. كان يهذي دائماً باسم فتاة عرفت لاحقاً أنها زوجته الحامل بطفلهم الذي يبلغ بضعة أشهر، هل تعرفها يا خلدون؟ نعم إنها زوجته سُمَيَّة وقد تزوجا قبل اندلاع الثورة بشهرين واعتقلت معه، وانقطعت أخبارها من وقتها ولم تخرج مع الناجين، عندها صدمه أبو مالك بقوله: أكيد إنها لن تخرج فقد اغتصبوها أمام عينيه، ونحروا عنقها بعد ذلك عندما بصقت بوجه الضابط المحقق، أما السجان ضرار، فأراد أن يضيف لمسته البهيمية؛ فشق بطنها وأخرج الجنين الذي عمره أربعة أشهر من رحمها، وأصبح يلوح به في وجه خلدون، ثم أخبره أنه سيصنع منه علاقة مفاتيح. بعد أن عرفت منه ما حصل لزوجته، حدث له صمتٌ قاتلٌ لم يستطع التحدث بعدها؛ وكأنه أحسَّ أن حرمة معاناته انتهكت عندما باح بسر ما حصل مع زوجته، أحسست بالندم يعتصره بعد أن أخرج قصتها في لحظة ضعف، ثم ندم على الخيانة التي ارتكبها بحق ذكراها هي وجنينها، أراد أن يبقي ألمها حبيساً في عقله المرهق حتى يستمتع بتعذيب نفسه!

لم أشعر بحياتي المزروعة دروبها بأشواك الحياة بشخص يوماً كما شعرت بأحمد، فجأة أحسَّ زملائي في المهجع أني لم أعد أبا مالك الذي عرفوه صلباً قاسياً جلفاً، صنعته مخابرات العالم ليكون آلة قتل وانتقام متنقلة وعابرة للحدود! نعم غيرني أحمد دون أن يحدثني بالكثير أو أقضي معه الوقت الطويل. بل حتى إنه لم يفتح لي شيئاً من أسراره إلا عندما عرف أنه سيطلق سراحي في اليوم التالي، فجأة خرج من صمته وبقينا نتحدث طوال تلك الليلة التي كانت ربما أطول ليلة لي في رحلتي داخل سجون الظلم؛ كان يتأمل بالصدمة النفسية التي شعر بها نتيجة النجاة، وكأنه يُحمل نفسه تبعات بقائه حياً بينما رحلت زوجته وجنينه الذي تحمله في أحشائها، كان يقتله ذلك الشعور بالذنب الذي شعر به الناجي من بين تلك الوحوش المفترسة والتحدي المتمثل في إعادة الاندماج في عالم لا يستطيع أن يستوعب الأهوال التي شهدها. كان يطرح ببراءة السؤال التالي: كيف سأعيش أنا وأولادي من بعدي مع ضرار وأولاده، وبيننا هذه الهوة التي لا تكفيها وثائق العالم وشرائعه وجميع محاكمه لإغلاقها؟ كان حديثه المتواصل الذي يسابق الوقت يلتقط المعاناة الإنسانية الهائلة، والقوة اللاإنسانية لنظام الأسد، كانت تلك التأملات الفلسفية والأخلاقية الأوسع التي يقدمها، محاولة لإغلاق جراحه ليست الشخصية فحسب، بل تلك الخاصة بكل من عرفهم من أصدقاء وأعداء فوق هذه الأرض. فهو لا يقدِّم فقط رواية تاريخية للعبرة؛ بل كان يحاول استكشاف العواقب النفسية والروحية والأخلاقية العميقة للاستبداد. من خلال تجربته الشخصية عرَّى القوة اللاإنسانية للنظام الأسدي، والتنازلات الأخلاقية التي أُجبر الأفراد على تقديمها من أجل البقاء، والتأثير الدائم لأفعال النظام وطريقة تفكيره على مستقبل سوريا. كان حديثه في تلك الليلة الطويلة تأملاً قوياً في طبيعة القوة والخوف والمرونة البشرية، حاول -وهو المعذب بلا استراحات عابرة- أن يفكر في الحلول، ويفكك تعقيد المشهد وكأنه مبعوث إلهي لانتشال البشرية التي تسكن فوق تلك الأرض من شرورها المكدسة لأجيال!

لا أنكر أني بعد خروجي من المعتقل، صممت أن انتقم له ولي ولكافة المظلومين المعذبين، لكن بعد فترة من النضال ومع دخول قوات حزب الله للقصير بتغطية أمريكية والميليشيات المتطرفة من الشمال لتغذي طرفي الصراع أدركنا حقيقة أننا كنا مجرد دمى نُدفَع للتراقص فوق مسرح الجريمة الدولية، عندها عاد كلام أحمد ليتردد صداه في عقلي المشبع بالغضب وجسدي المُثخن بالجراح. عرفت أننا نُدار جميعاً من سيد واحد! وأدركت أن الثورة لن تنتصر إلا إذا بدأنا نفكر جيدا في تأملات أحمد التي تجاوزت الجروح السطحية لتحاول علاج الأعضاء الحيوية في جسد الأمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى