كي ينتظم النقاش

ماجد كيالي

على امتداد صراعهم ضدّ المشروع الصهيوني، قبل إقامة إسرائيل، وبعد النكبة، أي منذ قرن تقريباً، لم يترك الفلسطينيون طريقة لمقاومة مشروع إقامة إسرائيل، وفي ما بعد لمقاومة سياساتها الاستعمارية والعنصرية والعدوانية، إلاّ وجرّبوها، في سعيهم العنيد، والمديد، والمرير، للدفاع عن وجودهم، وانتزاع حقوقهم العادلة والمشروعة، من العمليات الفدائية، إلى الانتفاضات الشعبية، وصولاً إلى الحروب الصاروخية، مروراً بالعمليات التفجيرية، وخطف الطائرات، إلى جانب السير في طرق الدبلوماسية والمفاوضات والاتفاقات وتقديم التنازلات، وطرح الحلول بخصوص دولة واحدة أو ثنائية القومية أو دولة في الجزء المحتل من فلسطين في العام 1967.

مع كل ذلك، ومع التقدير لكل التضحيات والبطولات، ومجمل الأطروحات والخيارات السياسية والكفاحية، فإنّ الفلسطينيين لم يتمكنوا تماماً من تحقيق ذلك، كما لم تسمح لهم موازين القوى، ولا المعطيات الدولية والعربية بذلك. في المقابل، ظلّت إسرائيل قادرة على امتصاص، أو استيعاب أشكال الكفاح الفلسطينية، السلمية والعسكرية، الشعبية والفدائية، وتفويتها، بحيث أنّها كانت تسبق الفلسطينيين، ولا تمكّنهم من استثمار أي خيار، في حين تقوم بتدفيعهم الأثمان الباهظة، البشرية والسياسية والمادية.

إذاً، الحديث هنا يفيد بمناقشة واقع عجز حركة التحرّر الفلسطينية المعاصرة، وعمرها 58 عاماً، عن تحقيق إنجازات توازي، ولو بشكل نسبي، التضحيات والمعاناة والبطولات التي بُذلت، فهي عوضاً عن ذلك ظلّت تأكل، أو تبدّد، الإنجازات التي حقّقتها في أواسط السبعينات من القرن الماضي، في السنين العشر الأولى لانطلاقها، بمعنى أنّها كفّت عن إضافة أي إنجاز حقيقي، منذ الـ 48 عاماً الماضية. ومثلاً: أين وحدة الشعب الفلسطيني اليوم؟ وأين منظمة التحرير الفلسطينية؟ وأين الهدف الوطني الجامع للفلسطينيين؟ وما هي الاستراتيجية الكفاحية الممكنة والمستدامة المعتمدة لتحقيق أهدافهم؟ علماً إنّ مفهوم الشعب الفلسطيني لا يقتصر على فلسطينيي الأراضي المحتلة (1967)، على ما هو رائج في أدبيات السلطة الفلسطينية وأدبيات المجتمع الدولي، إذ إنّه يشمل، أيضاً، فلسطينيي 48، والفلسطينيين اللاجئين، في بلدان اللجوء والشتات.

اللافت أيضاً، أنّ الفلسطينيين غير قادرين، في الظروف الدولية والإقليمية السائدة، على تثمير تضحياتهم وبطولاتهم وأطروحاتهم السياسية، لا بالوسائل العسكرية، ولا الشعبية، لا بالانتفاضات، ولا بالمفاوضات، وهذا أكثر ما يتضح الآن، وعلناً، في الحرب على غزة، وفي الاصطفاف الدولي خلف إسرائيل، بيد أنّ ذلك لا يعني أنّه ليس لدى الفلسطينيين ما يفعلونه، على العكس، فتلك الحال تتطلّب منهم أموراً كثيرة، لكن على أساس إدراكات سياسية وكفاحية جديدة، ومغايرة، تتأسّس على:

أولاً: نبذ الأوهام والمراهنات على أطراف خارجية، وعدم الانحصار في خيار كفاحي أو سياسي معيّن، وعدم المبالغة في قدراتهم، وإدراك حال الضعف العضوي في أوضاعهم كشعب مجزّأ، ويخضع لسيادات دول عدة، ويفتقد للموارد، ويعيش في الداخل في نطاق الهيمنة الإسرائيلية. ومعلوم أننا نتحدث عن قضية بالغة التعقيد، والتداخل مع الإقليم والعالم، بدليل التناقض، مثلاً، بين فلسطينيين يقاتلون إسرائيل، وفلسطينيين يعيشون أو يعملون فيها(؟!)، وبين غزة التي تقصف إسرائيل وتُقصف من قِبلها، وغزة التي تحتاج للمعابر مع إسرائيل لتأمين المقومات الأساسية منها، وضمنها عمل ألوف من العمال في سوق العمل الإسرائيلية؟ ثم ما معنى التهدئة، حاجاتها أو الهدنة إذاً؟ أو ما معنى القول بدولة فلسطينية في الضفة والقطاع (خطاب هنية يوم 2 الشهر الجاري)، مع ما يتضمنه ذلك من تماثل مع البرنامج الرسمي لمنظمة التحرير، الذي ناهضته “حماس”، وحصل الانقسام الفلسطيني بناءً عليه؟ أو ما معنى ذلك بالنسبة لقيام دولة فلسطينية مع قابلية وجود إسرائيل، بواقعها كدولة استعمارية وعنصرية ودينية؟

ثانياً: انطلقت فكرة الكفاح المسلح، منتصف الستينات من القرن الماضي، من فرضية خاطئة قوامها أهلية الأنظمة العربية، لاسيما “دول الطوق”، لخوض معركة تحرير فلسطين، أو مصارعة إسرائيل، لكن تبين، مبكراً، عقم تلك المراهنة، الوهم، إذ إنّ تلك الأنظمة لا تلقي بالاً لذلك، ثم هي ضعيفة، فضلاً عن أنّها مختلفة في ما بينها، بما يُستنتج منه أنّ الحركة الوطنية الفلسطينية تفتقد إلى الحاضنة اللازمة لتمكينها من تثمير كفاحها، بهذه الدرجة أو تلك، إضافة إلى أنّ فكرتها الأساسية عن الكفاح المسلح، والتوريط الواعي، بيّنت عن خلل كبير؛ وهذا ينطبق على مقولة “وحدة الساحات”، التي لم تترجم ولا مرة، ولا الآن في خضم الحرب الإسرائيلية الوحشية على غزة؛ باستثناء مناورات أو مناوشات محدودة، للاستهلاك، والتغطية، والمواربة.

ثالثاً: تتمتّع إسرائيل بقوة مضافة، حتى إزاء “دول الطوق”، سياسياً واقتصادياً وتكنولوجياً، وليس فقط عسكرياً، لضمان الدول الغربية، بخاصة الولايات المتحدة، لأمنها وتفوقها في مختلف المجالات، فضلاً عن امتلاكها السلاح النووي. ومثلاً فإنّ النظام الدولي الذي منع نظام صدام من أخذ الكويت، ويمنع روسيا من أخذ أوكرانيا، لن يسمح بتهديد وجود إسرائيل، بل إنّه ربما يسمح لها القيام بخطوات خطيرة قد تؤذي الفلسطينيين، بدعوى الدفاع عن النفس، وهو ما يحصل حالياً.

رابعاً: على الصعيد الدولي باتت إسرائيل تحظى بعلاقات وثيقة ومتميزة مع الدول الكبرى في العالم، التي كانت صديقة للشعب الفلسطيني، وعلى رأسها الصين وروسيا والهند، وهذا يشمل دولاً أخرى في مختلف القارات. لاحظوا الاستنكاف الدولي عن إدانة إسرائيل.

على ذلك، وبصراحة مؤلمة، لا معنى للجدال، أو للخلاف، بين الفلسطينيين بشأن الحلول أو أشكال النضال الأجدى، والأنسب، لأنّهم يفتقدون الأساسيات، أي الاستراتيجية، والحاضنة العربية، والظرف الدولي المؤاتي، على رغم تمسّكهم بحقوقهم الوطنية، وعنادهم الذي لا يلين، وتضحياتهم التي لا تنضب، وعلى رغم بطولاتهم المشهود لها، رغم الاختلال المريع بالقوى.

وباختصار، لعلّ الأجدى للفلسطينيين، في هذه المرحلة، وهذه الظروف، تركيز الجدال على إعادة بناء البيت الفلسطيني، وصوغ رؤية وطنية تنبثق من استعادة المطابقة بين الشعب والأرض والقضية، وصوغ استراتيجية كفاحية ملائمة وممكنة ومستدامة، يمكن الاستثمار فيها، أي استراتيجية تجنّب الفلسطينيين تغول الآلة العسكرية الوحشية لإسرائيل، وتعزز التناقضات والتصدّعات فيها؛ فما كان قبل حرب غزة غير ما بعدها، على الأصعدة كافة.

المصدر: النهار العربي

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. نعم لقد مارس الفلسطينيين كافة الطرق والأساليب من أجل تحقيق دولتهم الديمقراطية على أرضهم فلسطين من العمل الدبلوماسي وتوقيع الاتفاقيات والانتفاضات السلمية والكفاح المسلح الفدائي وخطف الطائرات و.. ولكن القوة المفرطة لدى الكيان الصهيوني والدعم الغربي بقيادة أمريكا وبريطانيا منع تحقيق أهدافهم، لتكون #طوفان_الاقصى ولكنها تفتقد لوحدة الرؤية والاداة الوطنية الفلسطينية ، فهل ستحقق ؟.

زر الذهاب إلى الأعلى