دخل مجتمع الخبراء والمفكرين الأميركي مرحلة جديدة من تشاؤمية ما بعد الحرب الباردة. وربما يكون التفاؤل الذي صنعته فكرة الليبرالية الدولية (1) حول انتصار السلام والديمقراطية في جميع أنحاء العالم قد مات منذ وقت طويل، لكن إعلان وفاته أصبح الآن أكثر شيوعاً من أي وقت مضى. ثمة اليوم دفق مستمر من مقالات الرأي التي تتحدث عن عودة التاريخ، وانبعاث القومية، وصعود المنافسة بين القوى العظمى -وكل ذلك يبشر بما يمكن تسميته صعود جيوسياسات المخاطرة.
كيف وصلنا إلى هنا؟ لعل إحدى المشكلات تكمن في أن لدى المتشائمين خرائط أفضل.
لم يكن انتشار السلام والديمقراطية مقنعاً أبداً على خرائط الرسوم الجغرافية، حتى بالنسبة لمروجيه أنفسهم. بل إنه يمكن أن يبدو في بعض الأحيان شريراً بطريقة صريحة بالنسبة لأولئك الذين على الجانب الخطأ من الخريطة. وفي الوقت نفسه، تكون الخرائط مناسبة بشكل مثالي لتصوير الرؤى الأساسية للعالم، والتي تقسم الناس -بدقة أو بغير ذلك- إلى وحدات منفصلة جاهزة للتصادم، كلٌّ منها بلونها الخاص وأرضها الخاصة. وربما نتيجة لذلك، خدمت الخرائط بطريقة جميلة كمجازات لأولئك الذين افترضوا أن الصراع كان أكثر طبيعية، أو أكثر إثارة للاهتمام، كل الوقت.
كانت تحديات رسم خريطة للسلام والازدهار العالميين واضحة مسبقاً قبل 75 عاماً، عندما بدأ الأميركيون في صياغة رؤية ليبرالية دولية جديدة للمستقبل. وقد أدت نهاية الحرب العالمية الثانية، مثلها مثل نهاية الحرب الباردة، إلى تخيل البعض أن العالم يدخل حقبة غير مسبوقة من السلام الدولي. وقد اتخذ التفاؤل الأول إزاء عالم ما بعد الحرب شكلًا خيالياً بشكل خاص في خريطتين مدهشتين -وغير واقعيتين إلى حد مدهش أيضاً. الأولى خريطة رسام الخرائط، ليزلي ماكدونالد جيل Leslie Macdonald Gill، لـ” ميثاق الأطلسي” (2) في العام 1942، والتي تصوِّر وعد الرئيس الأميركي فرانكلين دي روزفلت ورئيس الوزراء البريطاني وينستون تشرشل بالسلام الذي سوف يأتي في أعقاب انتصار الحلفاء. ثمة شعاعات الشمس التي تتألق على عالم منهمك في التجارة والصناعة، بينما يقوم رجل في الزاوية بتحويل المدافع إلى محاريث. وما تزال الحدود بين البلدان في الخريطة مرسّمة، وإنما بالكاد، بخطوط منقطة تختفي تحت كل هذا الصخب.
وثمة خريطة ثانية من هذا النوع، أكثر غرابة رسمها إيرنست دودلي تشيس Ernest Dudley Chase في العام 1944، عندما بدا انتصار الحلفاء في الحرب أقرب إلى حد كبير. تحت عنوان “خريطة مركاتور للعالم المتحد: تاريخ مصور للنقل والاتصالات وطرق السلام الدائم”، تطرح خريطة تشيس السلام والحكومة العالمية باعتبارهما نقطة النهاية الطبيعية للتطور التاريخي للبشرية. وتحتفي خريطته بدور الطائرات، والسفن، والإذاعة و”البريد الصاروخي في المستقبل” في التقريب بين الناس. وتُظهر سلسلة من الإضافات والإدراجات تنظيماً سياسياً بينما يتقدم عبر الدول من “عائلة رجل الكهف” إلى “وحدة جميع الأمم”.
يحب المراقبون اليوم إضفاء طابع رومانسي على أصول النظام الدولي الليبرالي لما بعد الحرب العالمية الثانية. ومن المؤكد أن هذه الخرائط تجسد الجانب الرومانسي للفكرة بشكل مفرط، بينما تلتقط الحياة المهنية لمبدعيها تناقضاتها التأسيسية: ما يزال جيل معروفاً أكثر ما يكون بدعاياته الخرائطية الملونة للإمبراطورية البريطانية؛ وكان تشيس قد تحول، بحلول العام 1950، إلى التركيز على رسم خرائط أكثر صراحة، بالأحمر والأبيض، لعالم الحرب الباردة المنقسم. وفي الحقيقة، بعد الحرب العالمية الثانية، أصبح من الواضح أن الكثيرين في الجنوب العالمي سوف يرفضون الدولية الليبرالية الأميركية باعتبارها محاولة إمبريالية جديدة لإدامة الهيمنة الغربية. وبطبيعة الحال، سوف يكشف صراع القوى العظمى بين واشنطن وموسكو بسرعة عن محدوديات الأمم المتحدة كآلية للسلام الدائم من خلال توحيد جميع الأمم.
بعد انتهاء الحرب الباردة، أثبتت خرائط السلام والوئام أنها أقل جاذبية -بصرياً- من سابقاتها، وأنها مشحونة أيديولوجياً بالقدر نفسه. وربما تكون أفضل خريطة رسمت في العصر الحديث لتصوير ما قد يبدو عليه انتصار الليبرالية الدولية هي خريطة “فريدوم هاوس” للحرية في العالم، مع تحول جميع البلدان تدريجياً إلى اللون الأخضر. ومثل خرائط المخاطر العالمية أو التنمية البشرية، تقدم خريطة “فريدوم هاوس” مقياساً جاهزاً لتخيل السياسة ومستويات المعيشة الغربية وهي تنتشر في جميع أنحاء العالم.
أما بالنسبة لأولئك الذين أرادوا تصويراً أكثر تشددا للطموح الليبرالي الدولي، فكانت هناك أيضاً “خريطة البنتاغون الجديدة”. وقد أثارت تلك الخريطة التي نشرها العالِم السياسي توماس بارنيت Thomas Barnet في العام 2003، موجة من اهتمام وسائل الإعلام قبل أن تُنسى إلى حد كبير في خضم التداعيات الكارثية لحرب العراق. وقد صورت تلك الخريطة الاستراتيجية العسكرية للولايات المتحدة في القرن الحادي والعشرين على أنها “تحديد الأجزاء التي تعاني من مشاكل في العالم وتقليصها بقوة”. ومن خلال التدخلات مثل غزو العراق، ستوسع واشنطن “الجوهر العامل” للعولمة وتقضى على “فجوة عدم التكامل والاندماج”، الناجمة عن بالإرهاب، والفقر، والقمع.
إذا ما أُخِذتا معاً، تجسد هاتان الخريطتان مجتمعتين مفارقة الليبرالية الدولية الأميركية في فترة ما بعد الحرب الباردة. ربما يكون الأميركيون قد نظروا إلى طموحاتهم على أنها حميدة، لكن كثيرين آخرين حول العالم وجدوها مهدِّدة. والنتيجة تناقض غريب، حيث تبدو منظمات مثل “فريدوم هاوس” و”مؤسسات المجتمع المفتوح” وكأنها تمثل نوعًا من المثالية -ولو أنها خيالية بعض الشيء- في واشنطن، في حين أصبحت موضوعاً لنظريات مؤامرة لا تعد ولا تحصى في الخارج. وبالنسبة لأولئك الذين تخيلوا الثورات الملونة كسلسلة من المؤامرات التي ترعاها وكالة المخابرات المركزية لنشر النفوذ الأميركي تحت ستار الديمقراطية، كانت خريطة “فريدوم هاوس” هي “خريطة البنتاغون” أيضاً؛ كانت رؤية العالم المرسوم كله بلون واحد معادلاً لقيام الولايات المتحدة بقهره واحتلاله.
* *
على النقيض من السلام العالمي، بدت جيو-سياسة المخاطرة قابلة للرسم في خرائط إلى حد كبير. وأثبتت الخرائط أنها تحظى بشعبية خاصة لدى الأشخاص الذين يبحثون عما يسمى بـ”خطوط الصدع الحقيقية” -سواء كانت دينية أو عرقية أو جيوسياسية- والتي سوف ينقسم على أساسها عالم ما بعد الحرب الباردة. ومن أشهر تجليات ذلك أن كتاب العالم السياسي صامويل هنتنغتون Samuel Huntington، “صراع الحضارات”، جاء بخريطة واضحة، ولو أنها ليست متماسكة بشكل خاص، والتي يُفترض أنها تنبأت بما يمكن أن تكون عليه ملامح صراعات القرن الحادي والعشرين.
من المفارقات أن تكون نظرة أساسية بالمقدار نفسه إلى المجتمع الإنساني قد ألهمت سلسلة من الخرائط المتناقضة تماماً، والتي تتخيل ما قد يبدو عليه شكل ما تدعى الحدود الحقيقية في الشرق الأوسط. وسط فوضى الحرب الأهلية في العراق، بدأ بعض المراقبين في التركيز على خطوط الصدع ضمن فئة هنتنغتون للـ”الحضارة الإسلامية”، وخلصوا إلى أن التوترات بين السنة والشيعة والأكراد، على سبيل المثال، ستثبت في النهاية أنها عنيدة لا يمكن التغلب عليها. وفي العام 2013، على سبيل المثال، أوضحت خريطة وزعتها على نطاق واسع صحيفة “نيويورك تايمز” كيف يمكن أن ينتهي المطاف بسورية والعراق وقد أعيد تقسيمهما على أساس طائفي-عرقي، ليصبحا أربع دول أصغر، وأكثر تجانسياً كما يبدو.
اليوم، يرى المتشائمون في صراعات العالم وفوضاه المستمرة أدلة على أن هذه الرؤى الأساسية أثبتت صحتها. ومع ذلك، في حين أن عالم ما بعد الحرب الباردة ظل بالفعل عرضة للنزاعات، فإن تلك النزاعات نفسها لم تتبع تنبؤات أي متشائم مفرد بعينه. في العام 2017، على سبيل المثال، سحقت الحكومة العراقية محاولة رسمية لاستقلال الأكراد. والآن، بعد عقد من إراقة الدماء، تبدو دمشق مهيأة لاستعادة السيطرة على سورية. وثمة مقال حديث كان كاشفاً بشكل خاص، والذي أعلن أن “العقدين الماضيين قد أثبتا بشكل غير مريح نفاذ بصيرة (هنتنغتون) وفطنته”، قبل أن يضيف، كتحذير: “حتى لو أن الحضارات في حد ذاتها لا تتصادم”. والفكرة، على ما يبدو، هي أن هناك بالتأكيد بعض الصدام الجاري، وهذا هو كل الإثبات الذي يحتاجه هنتنغتون.
بالنسبة لبعض المؤلفين، تبدو الخرائط في النهاية أقل أهمية من حيث محتواها من كونها رمزًا للطبيعة الرجعية للإنسانية. وفي الأعوام الأخيرة، أظهر كتاب روبرت كابلان Robert Kaplan، “انتقام الخرائط: ما الذي تقوله لنا الخرائط عن الصراعات المقبلة والمعركة ضد القدر”، وكتاب تيم مارشال Tim Marshall، “سجناء الخرائط: 10 خرائط تفسير كل شيء عن العالم”، شعبية هذا النهج. ويستخدم مارشال، مثل كابلان، الخرائط والجغرافيا، ليس كعامل توضيحي متماسك، وإنما كفرصة ليضع في دائرة الضوء تلك السذاجة الثابتة لليبرالية الدولية. ويجادل مارشال بأن روسيا توسعية وسلطوية لأنها تفتقر إلى الحدود الطبيعية، في حين أن الصين هي الشيء نفسه، بالضبط لأنها تمتلك هذه الحدود. والفكرة الحقيقية، كما يتضح، هي أن نجاح كلا البلدين يخدم كتوبيخ لعجز أنواع الحكم الرشيد في الغرب.
بطريقة موحية، بدأ مارشال كتابه بسرد تجربته كمراسل حربي في كوسوفو؛ حيث تساءل عن السبب في توقف قوات “الناتو” في نهاية المطاف عند نهر إيبار:
“كنت أعمل مع فريق من الصرب في بلغراد في ذلك الوقت، وسألت عما سيحدث إذا جاء حلف الناتو. وكان الجواب: ‘سنقوم بوضع كاميراتنا، يا تيم، ونلتقط البنادق’. كانوا صربيين ليبراليين، وأصدقاء حميمين لي ومعارضين لحكومتهم، لكنهم استمروا مع ذلك في إخراج الخرائط ليُروني أين سيدافع الصرب عن أراضيهم في الجبال، وأين سيتوقف الناتو. كان من المريح أن يعطوني درساً في الجغرافيا عن السبب في كون خيارات الناتو محدودة أكثر مما أعلنته ماكينة بروكسل للعلاقات العامة”.
يعيد استدعاء مارشال لخريطة البلقان كمجاز عن محدوديات الدولية الليبرالية إلى الذهن قصة قصيرة للكاتب الإنجليزي الساخر هـ. مونرو H.H. Munro قبل قرن سابق. خلال حروب البلقان (1912-1913)، كتب مونرو، المعروف أكثر باسم ساكي، حواراً قصيراً بين “الجوّال” و”التاجر”. وبينما يُعبر التاجر عن مواقفه حول “الحكم الصالح” ووحشية الحرب، يمتلئ الجوال بالحنين إلى الماضي ويستذكر مشاهدة صراع سابق في البلقان أيام شبابه. يقول الجوال: “أتذكر رجلاً عسكرياً سفعته الشمس وهو يقوم بتثبيت أعلام صغيرة على خريطة حربية؛ أعلام حمراء للقوات التركية وأعلام صفراء للروس. وأتذكر يوم الغضب والحداد عندما توجبت إزالة العلم الأحمر الصغير عن بليفنا”.
ومن دون إعطاء التاجر فرصة ليقاطعه، يمضي الجوال إلى الإعراب عن القلق من أن “الحرب الحديثة” يمكن أن “تدمر وتزيل نفس عناصر الروعة البصرية والإثارة التي تشكل ذريعتها الأساسية وسحرها”. ويشير إلى أن كل صراع في البلقان ينتهي بـ”تقلص مساحة الأراضي المضطربة بشكل مزمن” و”اقتحام للرتابة المتحضرة”. إذا تم طرد “الترك” أخيرا من أوروبا، فإن “غبار الرسمية والدقة البيروقراطية” سوف يحطُّ على المنطقة. وبدلاً من “الذئاب الجريئة” و”فرق الكوميتاجي”، يتخيل الجوال كيف يمكن أن تصبح عناوين الصحف باهتة ومملة بشكل مخيف: “مؤتمر اشتراكي في أوسكوب؛ أعمال شغب في الانتخابات في منستير؛ إضراب رصيف كبير في سالونيكا؛ زيارة جمعية الشباب المسيحيين إلى فارنا”.
إن القراءة عن جيو-سياسات المخاطرة هي بالتأكيد أكثر متعة من البديل، وهي مصممة لرسم خرائط أكثر وضوحًا وجاذبية. لكنها تأتي أيضاً بتكلفة. عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى، تجند مونرو، الذي كان عمره 44 عاماً في ذلك الحين، في الجيش بلهفة على الرغم من كونه فوق العمر المطلوب للجندية. وفي العام 1916، أطلق قناص ألماني النار على رأسه في السوم. ونأمل أن تكون هذه نهاية قدّرها الجوال، وواحدة ما يزال بإمكاننا أن نتجنبها اليوم.
المصدر: (فورين بوليسي)/ الغد الأردنية