دخلت الأزمة في السودان منعطفاً جديداً بعد اندلاع القتال بين الجيش وقوات “الدعم السريع” في مدن عدة بالبلاد.
ولليوم الثاني على التوالي، تشهد مدن سودانية بما فيها العاصمة الخرطوم، اشتباكات مسلحة متواصلة بين الجيش وقوات “الدعم السريع”.
وتبادل الطرفان اتهامات ببدء كل منهما هجوما على مقار تابعة للآخر بالإضافة إلى ادعاءات بالسيطرة على مواقع تخص كل منهما، فيما وصف الجيش “الدعم السريع” بـ”المتمردة”، في خلاف بدأ بتحريك الأخيرة لقواتها نحو عدة مدن دون إذن من قيادة المؤسسة العسكرية.
وترى منصة “أسباب” أن إرهاصات هذا الاقتتال ظهرت مع توقيع الاتفاق الإطاري بالسودان بداية ديسمبر/كانون الأول الماضي، والذي تضمن بند دمج قوات الدعم السريع في القوات المسلحة وفق جداول زمنية محددة، غير أن ذات الاتفاق حدد القوات النظامية في الجيش والشرطة والمخابرات العامة والدعم السريع، رغم أنها قانونا تابعة للجيش؛ وهو ما أثار حفيظة العسكريين.
وخلال الثلاث شهور الماضية، تفاقمت الخلافات بين الجيش والدعم السريع على خلفية هذه القضية التي اعتبرها قادة الجيش “أمن قومي للسودان”.
ومع تفاقم حدة الأزمة أواخر فبراير/شباط، حشد قائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو “حميدتي” قرابة 30 ألف مقاتل إضافي إلى قواته بالخرطوم تحسباً لأي تحركات من الجيش.
لكن وساطات جمعته بقائد الجيش عبدالفتاح البرهان بداية مارس/آذار بهدف التهدئة، وطلبت قيادات الجيش من “حميدتي” إعادة قواته إلى أماكنهم خارج الخرطوم لكنه لم يستجب، ثم عقدت “ورشة الإصلاح الأمني والعسكري” في 26 من نفس الشهر، وفشلت في الخروج بتوافق بين ممثلي الطرفين؛ ليتم إرجاء التوقيع على الاتفاق النهائي وتشكيل الحكومة الذي كان مقررا له بداية أبريل/نيسان الجاري.
وتلاقت رغبة عدد من الأطراف الداخلية والخارجية بضرورة تحجيم نفوذ حميدتي في المشهد بعد توقيع الاتفاق الإطاري، حيث سعى خلال الفترة الأخيرة لامتلاك طائرات مسيرة وأسلحة ثقيلة، فرأت قيادة الجيش أن الوقت قد حان لإنهاء حالة قوات الدعم السريع ووضع حد لطموح قائدها دون أي تأن في ذلك.
وعليه تمسكت قيادات الجيش بمطلب الدمج وتكوين جيش سوداني موحد خلال الفترة الانتقالية المقررة عامين بحسب الاتفاق الإطاري، في حين أصر حميدتي على أن يكون الدمج خلال 10 سنوات.
بالإضافة لذلك؛ أعلن البرهان في 12 أبريل/نيسان عن تكوين قوة للتدخل السريع تحت إمرة القائد العام للجيش، وعن اتجاه الجيش لتعزيز قدراته من الطيران المسير لمواجهة التهديدات الداخلية والخارجية.
كما أعلن عن قرب تشكيل المجلس الأعلى للقوات المسلحة تحت قيادته، كبديل عن المجلس السيادي، ويليه في التراتبية العسكرية رئيس أركان الجيش الفريق أول محمد عثمان الحسين، ثم الفريق أول شمس كباشي؛ وهو ما يجعل من “حميدتي” مجرد عضو في مجلس يهمين عليه قيادات الجيش دون امتيازاته السابقة كنائب لرئيس المجلس السيادي.
تحركات خارجية
خارجياً؛ استفزت تحركات حميدتي في أفريقيا الوسطى ومناوشاته على الحدود مع تشاد بالتعاون مع قوات “فاجنر” الروسية الولايات المتحدة الأمريكية ودولا غربية؛ وهو ما أعطى ضوءًا أخضرا بشكل ضمني للعسكريين من أجل تحجيم نفوذه.
وتضيف المنصة: “من جهة أخرى؛ استشعر النظام المصري خطر تنامي نفوذ قائد مليشياوي مثل حميدتي على الأمن القومي المصري، حيث ترى القاهرة أن الجيش السوداني هو صمام الأمان بالنسبة لمصر، وهو المعبر عن تقاليد الدولة وليس قائد الميليشيا التي تتورط وتوظف في صراعات في عدة دول”.
فدعمت القاهرة واستضافت المجموعة المدنية الرافضة للاتفاق الإطاري لعرقلة تنفيذه بالتوازي مع تعميق العلاقة المستمر مع قيادة الجيش، وإن كان الدور المصري وحده ليس حاسما في ترجيح موازين القوة بالسودان في ظل قدرة أطراف أخرى على الضغط على الجيش اقتصاديا مثل السعودية والإمارات، أو سياسيا مثل الولايات المتحدة، التي ربما لا تنوي ممارسة ضغوط فورية على البرهان؛ باعتبار أن إضعاف حميدتي المقرب من روسيا يمثل مصلحة أمريكية.
دعم إماراتي
وتشير “أسباب” إلى أن حميدتي يستند على الدعم الإماراتي والعلاقات المعقدة مع روسيا؛ فمع تفاقم حدة الأزمة بينه وبين البرهان في فبراير/شباط الماضي زار الإمارات لمدة أسبوع لبحث تطورات الوضع ومآلاته، وقبل بدء الاقتتال بيومين زار الرئيس الإماراتي محمد بن زايد القاهرة للقاء نظيره المصري عبدالفتاح السيسي؛ وهو ما قد يشير إلى محاولة أبوظبي الضغط على الجيش السوداني عبر حليفه المصري للتفاهم مع قائد “الدعم السريع” والتخلي عن إجراءات تهميشه.
كما عمل الإعلام المحسوب على الإمارات خلال الأيام الماضية على إعادة تأهيل صورة حميدتي باعتباره الداعم لعملية التحول للحكم المدني في مواجهة تمسك البرهان ببقاء نفوذ الجيش وتحالفه مع “فلول” نظام البشير من الإسلاميين.
وعلى الرغم من أن “حميدتي” هو من أطلق شرارة المواجهة العسكرية، فإن هذا لا يعني أنه يتمتع بأفضلية في تشكيل المشهد الحالي. فالواقع أن تحرك الدعم السريع جاء كخطوة استباقية للتصدي لإجراء تقليم أظافره، وهو ما يعكس قناعة حميدتي أنه بلا خيارات بعد أن صارت المواجهة وجودية بالنسبة لمستقبله.
تميل موازين القوة العسكرية لمصلحة الجيش؛ نظرا لتسليح قوات الدعم السريع المتوسط، وصعوبة استمرار قدرتها على القتال في مواجهة الجيش. ومع هذا؛ فليس من المرجح أن تنتهي المواجهات سريعا، ربما باستثناء العاصمة التي من المرجح أن يحسم الجيش سيطرته عليها.
لكن يظل التهديد الأبرز هو أن انتهاء مخطط دمج قوات الدعم السريع في الجيش وميل قياداته لتفكيك هذه المنظومة بدلا من احتوائها، يعني على الأرجح تحول “الدعم السريع” إلى مليشيا إقليمية متمردة، خاصة في مناطق نفوذها غربي السودان؛ مما يزيد من التهديدات المتعلقة بتماسك ووحدة البلاد، التي تعاني أصلا من تداعيات انحسار ظل الدولة مقابل تعميق الولاءات الجهوية والقبلية والعرقية.
المصدر: الخليج الجديد