من كوبلنز الألمانية إلى فرانكفورت يتنقل حقوقيون سوريون ومعتقلون سابقون في سجون النظام السوري، كي يكونوا شاهدين على ثاني محطات طريق المحاسبة “الطويل”. وهذه الرحلة لها “ميزة مختلفة ومشاعر فريدة” لم يسبق وأن عاشوها في بلدهم سوريا، رغم أنهم كانوا يتمنون حصولها، بحسب تعبيرهم.
وبدأت، صباح الأربعاء، محاكمة الطبيب السوري، علاء موسى أمام محكمة ألمانية بتهم خطيرة، منها القتل والتعذيب الذي وقع بحسب لائحة الاتهام على معتقلين سوريين، في أثناء تلقيهم العلاج بالمشفى العسكري بمدينة حمص وسط البلاد.
وتشمل قائمة الاتهامات بحق “موسى” البالغ من العمر 36 عاما، تعذيب سجناء في مستشفى عسكري، وفي سجن تابع للمخابرات العسكرية في مدينة حمص بين عامي 2011 و2012.
كما وجه المدعي العام الألماني تهمة القتل العمد بحقنة طبية، وإلحاق أضرار جسدية ونفسية خطيرة بالمعتقلين المعارضين.
وتأتي هذه المحاكمة بعد أيام من صدور حكم المؤبد بحق العميد السابق في مخابرات النظام السوري، أنور رسلان، بعد إدانته بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، من قبل محكمة في مدينة كوبلنز الألمانية.
ويصنف حقوقيون وضحايا سوريون هذه المحاكمات بأنها “خطوة أولى في طريق العدالة الطويل”، كما يعتبرونها “محطة يمكن البناء عليها كركائز للمحاسبات المستقبلية، والتي لم يقطع منها الأمل حتى الآن”.
“لها رمزية كبيرة”
على مدى السنوات العشرة الماضية من انطلاقة الثورة السورية قصد الملايين من السوريين دول مجاورة وأوروبية كمحطات لجوء، للخلاص من الحملات الأمنية والعسكرية التي أطلقها النظام السوري وحلفاؤه في عموم محافظات البلاد.
وكان من بين هؤلاء الآلاف من المعتقلين السابقين في المعتقلات الأمنية، والذين مورست بحقهم عمليات تعذيب وإهانة نفسية وجسدية، بحسب ما تقول عدة تقارير حقوقية لمنظمات دولية وأممية.
وعلى الرغم من صدور هذه التقارير، والتي وثقت انتهاكات النظام السوري بشتى أصنافها، من تعذيب وقتل وحرق، إلا أنها بقيت حبيسة الصناديق، دون تحرك دولي فعلي لإيقاف الجرائم بحق الشعب السوري.
وبذلك يكون حكم المؤبد بحق رسلان، قبل أيام، والمحاكمة التي تستهدف الطبيب علاء موسى الآن خطوة لم يسبق وأن شهدها الناجون وآخرين من السوريين.
الصحفي السوري شيار خليل معتقلٌ سابق وأحد الناجين من معتقلات النظام السوري، بعد اتهامه بالانتماء لـ”جماعة إرهابية” كان قد وصل إلى فرانكفورت في الساعات الماضية، قادما من مكان إقامته في العاصمة الفرنسية باريس.
وقف خليل منذ صباح الأربعاء أمام باب محكمة فرنكفورت حاملا لافتة تتضمن صورة للطبيب “محمد بشير عرب”، والذي كانت سلطات النظام السوري قد اعتقلته في عام 2011 من مدينة حلب، وتخفيه قسريا إلى الآن.
يقول الصحفي السوري لموقع “الحرة”: “نقف اليوم لكي نكون شاهدين على أولى جلسات المحاكمة بعلاء موسى. هذا الطبيب مارس عمليات تعذيب وقتل، ووصلت بجزء منها إلى سكب الكحول على عضو تناسلي لأحد المعقلين، ومن ثم أضرم النار فيه”.
ويضيف خليل: “محكمة علاء موسى لها رمزية كبيرة كونها جاءت بعد حكم رسلان. ليست عدالة كاملة لكنها خطوة مهمة للسوريين، خاصة أن الطبيب تحول إلى جزار”.
وتم توقيف موسى في 19 يونيو عام 2020، في ولاية هسن الألمانية، بناء على مذكرة توقيف صادرة عن قاضي تحقيق ألماني، ويشتبه بقيامه بتعذيب 18 شخصا على الأقل.
وكان قد ارتكب هذه الانتهاكات في مستشفيين عسكريين في حمص (وسط) ودمشق، وفي سجن سري تابع لأجهزة الاستخبارات العسكرية في حمص، ما بين أبريل 2011 ونهاية عام 2012.
ويشير الصحفي السوري إلى أن رمزية المحاكمة تأتي أيضا “من كونها دفع لأهالي المعتقلين، بأن السعي مستمر وراء هؤلاء المجرمين الذين قدموا إلى أوروبا وأصبحوا خارج سوريا، ظنا منهم أنهم سيهربوا”.
“هذه القضية لن ننساها. هي قضية عليا وحقوقية وإنسانية. لها أهميتها الكبيرة لدى السوريين”.
ويتابع خليل: “الخطوة مهمة أيضا لنرفع صوتنا عاليا ونشجع الأهالي للمطالبة بمعتقليها، لاسيما أن المنصات السياسية وعلى ما يبدو نسيت الأمر، ونست من هم في سجون نظام الأسد”.
“جرائم ضد الإنسانية”
وكان علاء موسى قد غادر سوريا، منتصف عام 2015، ووصل إلى ألمانيا على غرار مئات آلاف السوريين آنذاك، عندما فتحت المستشارة الألمانية حدود بلادها أمامهم.
وبعد ذلك استأنف ممارسة الطب في مستشفى أحد المنتجعات الألمانية حتى اعتقاله.
وأطلقت ألمانيا، منذ العام 2011، تحقيقا حول الجرائم المرتكبة في سوريا، وجمعت وثائق وشهادات حول هذه التجاوزات.
وتستند هذه الدعاوى إلى المبدأ القانوني للولاية القضائية العالمية، والذي يسمح للدولة بمقاضاة مرتكبي الجرائم الإنسانية الخطيرة، ولا سيما جرائم الحرب أو الجرائم ضد الإنسانية، بغض النظر عن جنسيتهم، وموقع ارتكاب هذه الجرائم.
فضل عبد الغني أحد السوريين الذين وصلوا إلى فرانكفورت أيضا، وهو مدير لـ”الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، التي توثق منذ سنوات انتهاكات النظام السوري والقوى المحلية الأخرى في البلاد.
واعتبر عبد الغني أن محاكمة فرانكفورت “مميزة، لأننا نتحدث عن طبيب يعذب في المشافي العسكرية. هذه المشافي جزء من الأفرع الأمنية، والنظام السوري حولها لتكون بمثابة فرع أمني، كما هو الحال لمحكمة الإرهاب”.
ويقول الناشط الحقوقي لموقع “الحرة”: “النقطة المهمة فيها أن الادعاء الألماني اتهم موسى بارتكاب جرائم ضد الإنسانية. هذه إدانة لمنظومة النظام السوري ككل”، واصفا إياه بـ”طبيب المسالخ البشرية”.
من جهته، ومن أمام محكمة فرانكفورت قال ميشال شماس، ناشط في مجال حقوق الإنسان، وعضو “لجنة الدفاع عن معتقلي الرأي والضمير”: “اليوم تاريخي يضاف إلى اليوم التاريخي الذي حدث الأسبوع الماضي بصدور الحكم على أنور رسلان العقيد السابق في المخابرات الجوية”.
ويضيف شماس لموقع “الحرة”: “هي تاريخية ومهمة لأنها تثبت أننا لا نستهدف المجرمين لانتماءاتهم الطائفية أو من كونهم منشقين. نستهدفهم لأنهم ارتكبوا جرائم حرب وضد الإنسانية”.
وزاد الحقوقي السوري: “علاء موسى درس الطب لكي يخفف من معاناة وآلام الناس ويداويهم. بدلا من ذلك زاد من آلامهم بقيامه بعمليات تعذيب. من المفارقة أن يقوم طبيب بالتعذيب وضابط أمن يقوم بذات الإجراء أيضا!”.
“انتظار في فرانكفورت وترقب لبرلين”
وسبق وأن حكم القضاء الألماني في فبراير 2020 بالسجن أربع سنوات ونصف على إياد الغريب (44 عاما) بتهمة المشاركة في اعتقال 30 متظاهرا على الأقل في دوما كبرى مدن الغوطة الشرقية قرب دمشق، في سبتمبر أو أكتوبر 2011، ومن ثم نقلهم إلى مركز اعتقال تابع لأجهزة الاستخبارات.
ويعتبر إياد الغريب المسؤول الأدنى رتبة في ذات القضية المتعلقة بأنور رسلان، وكان قد وصل إلى ألمانيا في 2018.
ووفق الحقوقي السوري، ميشال شماس: “بعد ثلاثة أشهر من الآن وفي مايو المقبل ستبدأ محاكمة مجرم آخر، وسبق وأن ارتكب جرائم عندما كان ينتمي للميليشيات الفلسطينية في سوريا”.
ويقول شماس: “يدعى موفق وكان يتبع لأحمد جبريل. ستتم محاكمته في برلين”.
بدوره يوضح المحامي والحقوقي السوري، أنور البني أن محكمة فرانكفورت “وضعت جدولا للجلسات حتى الشهر الثالث من العام الحالي. تم تحديدها بـ20 جلسة”.
ويضيف لموقع “الحرة”: “هناك شهود فيزيائيين، ومن المتوقع أن يزيد عددهم عن 9”.
ويتوقع البني أن يكون الزمن المحدد لمحاكمة علاء موسى أقل من محاكمة الضابط، أنور رسلان، وذلك يرتبط بأن “عدد الشهود والضحايا أقل”.
ويتابع الحقوقي السوري: “حكم علاء موسى بما أنه يوجد حالة قتل فسيكون مؤبدا أيضا، لأن القتل بالقانون الألماني لشخص واحد حكمه مؤبد. محكمة فرانكفورت لن تأخذ وقتا طويلا”.
أما مدير “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، فضل عبد الغني فيشير إلى أن محكمة فرانكفورت ستجري جلسة أو جلستين في الأسبوع، وذلك حتى شهر مارس المقبل.
ويوضح عبد الغني: “الطبيب سيكون له محامي دفاع، وله الحق في استدعاء الناس. هذا الأمر لا يتمتع به المواطن السوري في سوريا التي يسيطر عليها نظام الأسد. هناك لا يوجد قضاء. المواطن يعتقل ويخفى قسريا”.
وتنبع أهمية محاكمة موسى من أنها تلقي الضوء على ممارسات تعذيب يقوم بها عناصر النظام السوري ليس في المعتقلات والسجون فحسب، بل في المستشفيات التي ينقل إليها من تعرضوا للتعذيب لتلقي العلاج، بحسب، محمد العبد الله، المدير التنفيذي للمركز السوري للعدالة والمساءلة، ومقره العاصمة الأميركية واشنطن.
ويقول العبد لله لموقع “الحرة” إن الاتهامات التي ينتظرها موسى شملت أيضا “القيام بإجراء جراحة على معتقل نقل للمستشفى العسكري بحمص بدون تخدير”، وأيضا “سكب الكحول وإشعال النار بعضو تناسلي لمعتقل آخر”.
وتشمل الأدلة في القضية إفادات زملاء لموسى في المستشفى، قال العبد الله إن بعضهم “سافر إلى ألمانيا لتقديم شهادته في القضية”.
المصدر: الحرة. نت