
لم يكن الهجوم الذي نفّذه مسلّح من تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) قرب مدينة تدمر في محافظة حمص، والذي استهدف دورية سورية – أميركية مشتركة، وأدّى إلى مقتل جنديَين أميركيَين ومترجم وإصابة آخرين، حادثاً أمنياً معزولاً، ولا مجرّد خرق تكتيكي في منطقة صحراوية شاسعة، بل يحمل في طيّاته رسائل ودلالات استراتيجية تتجاوز المكان والزمان، وتعيد طرح سؤال “داعش” بوصفه تنظيماً فاعلاً قادراً على استثمار لحظات الانتقال، واختبار هشاشة الترتيبات الأمنية الجديدة في سورية ما بعد التحوّل السياسي.
في هذا الإطار، لا يمكن قراءة هذا الهجوم بمعزلٍ عن السياقات والرسائل المتعدّدة التي سعى “داعش” إلى إيصالها في هذا الوقت بالذات، سواء على مستوى حضوره الميداني، أو في ما يتّصل بإعادة تموضعه في سياق التحولات السياسية والأمنية التي تشهدها سورية بعد إسقاط نظام بشار الأسد في ديسمبر/ كانون الأول 2024.
في مستوى أول، يؤكّد الهجوم رسالة بدائية لكنها شديدة الأهمية والخطورة، مفادها بأن “داعش” ما زال موجوداً رغم هزيمته جغرافياً عام 2019، ورغم كل الضربات التي تعرّض لها التنظيم في السنوات الماضية، إلّا أنّه ما يزال يحتفظ بقدرة عملياتية وبخلايا نائمة في البادية السورية، تسمح له بالضرب في توقيت حساس ومكان رمزي كتدمر التي لا تعد مجرّد جغرافيا صحراوية، بل عقدة استراتيجية تربط البادية بالعمق السوري. وبالتالي؛ يعكس اختيارها لتنفيذ الهجوم فهماً دقيقاً لرمزية المكان وضعف السيطرة المستدامة عليه.
يفتح الهجوم الذي نفّذه تنظيم داعش الباب أمام التشكيك بقدرة الإدارة السورية الجديدة شريكاً أمنياً موثوقاً
على المستوى الثاني، يرسل الهجوم رسالة تتعلق بالتعافي وإعادة التنظيم. لذا؛ لا يمكن فصل هذا الهجوم عن سلسلة عمليات متفرّقة شهدتها سورية في الأشهر الماضية، التي تشير في أحد جوانبها إلى نمط تصاعدي إلى حد ما في نشاط “داعش” في محاولة لاستثمار بعض الثغرات الأمنية، وتفاوت مستويات التنسيق، وانشغال الإدارة السورية الجديدة بإعادة ترتيب أولوياتها السياسية والعسكرية، ليعيد بناء خلاياه الصغيرة المرنة.
وعلى المستوى الثالث، والأكثر مباشرة، يحمل الهجوم رسالة واضحة عن استعداد التنظيم للمواجهة، سيّما أنّ هذا الهجوم يأتي في سياق أمني وسياسي شديد الحساسية، يتزامن مع تحسّن ملحوظ في العلاقات السورية – الأميركية، وانضمام سورية رسمياً إلى التحالف الدولي لمحاربة “داعش”، وهو ما يضع “داعش” في موقع ردة الفعل العقائدية والسياسية بوصفه تنظيماً بنى سرديته تاريخياً على منطق “الحرب مع الجميع”، لذا يرى التنظيم في هذه المستجدات إعلان مواجهة صريحة، ما يدفعه إلى الرد المبكر بهدف تكريس معادلة ردع نفسية تتجاوز أثرها العسكري المباشر.
وعلى المستوى الرابع، يحمل الهجوم رسالة تعبر عن ثبات أيديولوجي موجّه في المقام الأول إلى جمهور “داعش” المحتمل، في محاولة منه لإعادة إنتاج سرديته العقائدية في مواجهة ما يعتبره تحولات براغماتية لخصومه، ومن خلالها يسعى التنظيم إلى القول إنّه بخلاف الإدارة السورية الجديدة التي غيّرت خطابها وتحالفاتها، لم يغيّر مبادئه ولا أولوياته.
الإدارة السورية الجديدة مطالبة بأن تضع الأمن في صدارة أولوياتها، لا بوصفه إجراءً تقنياً، بل بصفته شرطاً تأسيسياً لأي مشروع استقرار مستدام
وعلى المستوى الاستراتيجي، يفتح الهجوم الباب أمام التشكيك بقدرة الإدارة السورية الجديدة شريكاً أمنياً موثوقاً، وهذا الأمر لا يتعلق بقدرات ميدانية فحسب، بل بمنظومة متكاملة تشمل العقيدة الأمنية والهياكل والكوادر، وهو ما قد يدفع الشركاء الدوليين وفي مقدمتهم الولايات المتحدة إلى إعادة تقييم مستوى الجاهزية السورية في مواجهة تهديدات غير تقليدية تعتمد على حرب العصابات.
ومن جهة أخرى، قد يوفّر هذا الهجوم فرصة لتحالف غير معلن من الخاسرين والمتضرّرين من التحوّل السوري في 8 ديسمبر (2024) لزيادة الضغط السياسي على الإدارة السورية الجديدة وإرباك المشهد الداخلي.
بالمحصلة، يمكن القول إنّ هجوم “داعش” لا يمثّل عودة حقيقية للتنظيم كما كان، بل هو تذكير بأنّ التنظيم لم يخرج من المعادلة السورية بعد، وأنّه قادر على تشكيل تهديد مزعج وطويل المدى للإدارة السورية الجديدة، وقادر على تعطيل مسارات التعافي إن أُسيء تقديره. وبالتالي؛ فالإدارة السورية الجديدة مطالبة بأن تضع الأمن في صدارة أولوياتها، لا بوصفه إجراءً تقنياً، بل بصفته شرطاً تأسيسياً لأي مشروع استقرار مستدام، مع ضرورة إعادة النظر بالترتيبات الأمنية والعسكرية التي صيغت على عجل خصوصاً في البادية والمناطق الهشة وبلورة مقاربة أمنية – سياسية شاملة تربط بين الأمن والاستقرار والتنمية بوصفها مسارات متلازمة لا يمكن فصلها. ومن دون ذلك، سيبقى التنظيم قادراً على الحضور من هامش المشهد السوري، مستثمراً كل فراغ أمني، وكل ارتباك في أولويات الحكم. فالتحدي الذي يفرضه لا يكمن في قدرته على استعادة السيطرة الجغرافية بقدر ما يتجلّى في قدرته على إنهاك الدولة الجديدة واستنزاف مواردها، وتقويض ثقة الشركاء الدوليين بها، وإعادة إنتاج نفسه فاعلاً تخريبياً في لحظات التحوّل.
المصدر:العربي الجديد






