في عالم مُتعولم، تنسجم الأحداث القائمة بشكلٍ مُباغَت وحَثِيث لتهزّ أركان النظام العالمي الحالي، فالأنظمة السّابقة الّتي حاولت إسقاط النّظام الرأسمالي، على غرار الشيوعيّة والفاشيّة قد شهدت اخفاقًا مُرّاً، فهل يُصبح هنالك-مع تزايد القهر الاجتماعي والتدهور المناخي-نظام عالمي جديد يُطيح نسيج الرأسماليّة، يجمع بين العدل الاجتماعيّ والماليّ والمُناخيّ، قائم على المسؤوليّة الاجتماعيّة للشركات، ويُماثل إلى حدّ ما الفكر الماركسي؟
الرأسماليّة ضمّت تَمَكُّن أصحاب المال والأعمال بجَبَرُوت الاعلام بالهيمنة على مسارات عالمنا المُشترك. بكبسة زرّ أصبح المال محض سلعة تخفق في الأجهزة الحاسوبيّة، تُقيم في البنوك، تعمل دون كلل، وتسهر على إعادة إثابة العالم بالشكل الّذي تشاء، تترأّس الطّبقة الوسطى والفقيرة على مسرح الحياة، كما تؤثّر في المناخ ومواردنا الطبيعيّة. وفي ظلّ الهيمنة الشاملة اختصر أصحاب المال والمؤسّسات الماليّة إلى إِسْتِئْثار المؤسّسات الاعلاميّة، موجِّهةً بعواصف الرأي العام نحو غاياتها الخفية وتنفيذ مخطّطاتها، إذ تأتي لتنفيذ سلطة المال بقداسة، ونحن هنا أمام أزمة نظام شامل يحيز لطبقة واحدة دون سواها، تُلقي بأوامرها على ظلال المُجتمع والطبيعة. الرأسماليّة منذ أن استكبرت معجّجة بالوهم والزيف والتدمير وعبوديتها الحديثة تسحب العالم إلى مناطق يرتجف فيها بريق الانسانيّة. هَهُنا تتربّع فئة قليلة من بارونات المال أطلقت بيادق المال، حيث تستحوذ حِيَازَة طاغية على جموع مُعتمدين على قصر الذاكرة بغسيل الأدمغة والرق النظيف، فضلًا عن الكذب الصّادق.
في كلّ زمان جديد تتلمّس بارونات المال إلى تلميع سماء شخصيّات السلطة من أجل التأثير بالمفاهيم الاجتماعيّة بتعلّة القداسة الاجتماعيّة وبلوغها مرحلة مُخيّرة بتقليم أفكار الأفراد، يشطحون على أوتار الرأي العام، من خلال منحهم الحصانة وقوّة المال والسّيطرة على منابر الإعلام. في ظلّ هذا النّظام المنغلق على إرضاء أمراء الثروة، ننزلق، من حقبة لأخرى، إلى زيفنا الحقيقي كبحر من الخيبات، ومن مأزق إلى مأزق، إلى مصيرنا الحتمي، دون النّظر إلى الحلول الجامعة للإنسانيّة باحترام الطبيعة الّتي تحتضننا. يتغنّى هذا النّظام الوحشي بشعارات وادّعاءات تجلّي ديمقراطيّتها، غير أنّ الرأسماليّة والديمقراطيّة مفهومان لا يتوحّدان، تتأرجحان كقوى متباينة، ولا حتّى يندمجان شيئًا. على وقع هذه الزمنيّة البربريّة، تُعدّ جِنَايَة المال من أجل المال محض نشاطًا اقتصاديًّا عاديًّا لكونه ليس عُرضة للمُساءلة أو المُحاكمة، وكلّ ما يحدث هو يحدث من أجل رقصة السوق وانعاش الاقتصاد الّذي لا يخضع لمعايير أخلاقيّة، على حساب الخصال الانسانيّة للأفراد والتعدّي على قوانين الطبيعة الّتي توحّدنا في وقت دائم تعاني فيه الشعوب من الفقر وقلّة الوعي وغسيل الفكر. وهذا ما هو موجود وما علينا أن نعتاد عليه، دون تردد، من زمن إلى آخر، دون اتّباع منهج وقائي. إذا ليس ثمّة سانحة لإلهام هذا النّظام للخير، ولكن في قُدرتنا تخفيفه أو حتّى تلقيحه بتبنّي برامج المسؤوليّة الاجتماعيّة للشركات في ميدان المؤسّسات الماليّة.
إِتَّكَأَ المرمى الأوّلي للمؤسّسات الماليّة على الربح دون النّظر إلى مَآب سَهْو الجوانب الانسانيّة المُعقّدة ولاسيّما التحدّيات التي تمثلّ تداعياتٍ يوميّة وآفاقًا مستقبليّة للمُجتمعات معتمة. مفهوم المسؤوليّة الاجتماعيّة للشركات ينبض بتَعَهُّد الشركات إلى إمضاء التنميّة المستدامة والتعاون الفاعل في الالتفاف على الجوانب الاجتماعيّة والبيئيّة على حدٍّ سواء، بارتقاء جودة الحياة في المجتمعات بمذهب أخلاقي، وإنقاص النفوذ البيئي المرفوض لنشاطها، ختامًا بتوطيد مفهوم العدالة الاجتماعية، على خلاف تحقيقها المالي الخاصّ.
تطرح الاستثمارات اللا مسؤولة إلى هيكلة المدخّرات في مشاريع أو أنشطة تُشارك في مُغَالاَة تَضْييق الموارد الطبيعيّة وتُفضي ضررًا جسيمًا بالبيئة وتُلحق تغيّرات مناخيّة خاملة. قد تضمّ الاستثمارات في صناعة الفحم أو استخراج النفط والتعدين أو تمويل مشروعات تُفضي إلى انبعاثات غازات الاحتباس الحراري. وفي كثير من حالات منح القروض تتجاهل البنوك الاعتبارات البيئيّة. كارثة تشرنوبيل الّتي جدّت في سنة ستّ وثمانين وتسع مائة وألف كانت واحدة من أردأ الفجائع النووية الّتي شهدها التاريخ، حيث أَحْدَثَ اِنْبِجَاس المفاعل النّوويّة في قِيَامَة مقادير عَارِمة من المواد الاشعاعيّة إلى الجوّ، بلغت سماء روسيا. تَوَقَّعَت مُنظّمة السلام الأخضر بهلاك ثلاثة وتسعون ألف شخص مَغَبَّة الإشعاعات المنبثقة عن الحادث. وأقرّت المنظمة الطبية الألمانية ضد الأسلحة النووية عن إصابة أربعة آلاف شخص بسرطان الغدة الدرقية في اقليم الحادثة. خلّفت هاته الحادثة في ذيلها العديد من الآثار الصحية والبيئيّة الجسيمة. تاركة على خلفيّتها بصمة، تُماثل الواقعة الأليمة في فوكوشيما. ألخّص إلى القول أنّه كان هنالك تورّط مباشر للمؤسسات مالية لتمويل هذا النّوع من المشاريع. بإمكان المؤسّسات الماليّة والبنكيّة اتّخاذ تحرّكات للحدّ من انبعاثات الاحتباس الحراري والانتقال إلى اقتصاد أخضر، عن طريق تمويل مشاريع مستدامة مثل الطاقات المُتجدّدة كطاقة الشمس وطاقة الرياح والطاقة الحراريّة. إيلاء العملاء بدائلًا مبتكرة للاستثمار المستدام، مثل الصناديق الدالة نحو الاستدامة والسندات الخضراء. منح قروض بفوائد مخفضة للعملاء ليسدّوا بها مسارات مشاريعهم التي تُجسّد الالتزام بحراسة أمان الطبيعة. كما يمكن أن تتّخذ المُؤسّسات الماليّة مُبادرات خاصّة لتحقيق الريادة في مجال حدّ الانبعاثات المرتبطة بالتنقّل، كتمكّن نفسها من اعتماد تكنولوجيات حديثة تشمل تنظيم المؤتمرات عبر الفيديو، والاستغناء عن الورق الحراري ببدائل تكنولوجيّات حديثة. تلمّ هاته الدعاوى الفذّة بين الفعاليّة في العمل وحسّ المسؤولية تُجاه البيئية.
على خُشوع وجلال، شهد العالم آنذاك انتفاضة مستعرة ضدّ النظام الرأسمالي رَجَّت أريكة قوى الرأسماليّة، عقب الأزمة الماليّة العالميّة لعام ألفين وثمانيّة. ما جعل لهذا العِصْيان فاعليّة خاصّة هو صُدَاح الشّباب المقهور الّذين تكبّدوا بجلاء درجات عاليّة من البطالة والخصاصة القائظة، تجمعهم أجورًا زهيدة تجعلهم يحورون ويدورن في قرص مشتعل من الحاجة العويصة، في ذلك المكان العملي الّذي يفتقر إلى أدنى مُقوّمات السّلامة والأمان بَيْدَ شعورهم المستمرّ بحالة الخطر. إنّ شيح بارونات المال همّ من يُديرون لوائح العالم إلى أقصى الأصقاع، وهم أيضًا من صمّموا مناهجه لتجزيء الشباب والطبقة والمتوسّطة والفقيرة وتفتيتها، بغياب الشهادة الصحفيّة تتراءى حقيقة أنّ الاعلام ذاته مُشتري من أُمراء الثورة. في لوحة ضبابيّة عن الحقيقة يُقدّمون احصائيات خاطئة عن عدد الذين يتخبطون في بحر البطالة والفقر. الرأسماليّة كنظام اقتصادي للحدّ من الفقر قد حقّقَ فشلًا ذريعًا بكلّ المقاييس اللامنتظرة. تبقى مُوثّقة بأنّها قد قلّلت من مُتوسّط الفقر في العالم بمعدّل سبعين في المائة غير أنّ الوضع الحقّ يُقاتل في حلبة مُنَاقِضة تمامًا. بوسع المُؤسّسات الماليّة والبُنوك أن تلعب دورًا شفّافًا واشرافي في الحدّ من الفقر من خلال تبنّي استراتيجيّة برنامج المسؤولية الاجتماعيّة للشركات لتقليل من آلام الفقر وصقل مصير الفئات الهشّة، من خلال توفير الخدمات البنكيّة للفئات الاقتصاديّة الّتي تجد إِعْتِيَاصا في لِحَاق الخدمات المصرفيّة التقليديّة كحسابات التوفير الميسّرة والقروض ذات الفائدة المنخفضة والّتي تبدو حلاً يفتح آفاقًا شتّى للمجتمعات المَطْرُودة، فضلًا عن الاستثمار في المشاريع التنمويّة الرياديّة الّتي تروم إلى تعزيز لُطْف عيش المجتمعات وخلق مشاريع صغرى خاصّة للفئات المُهمّشة والتعويل على ذواتهم من أجل عالم أكثر عدالة وتضامنًا. كما يلوح أنّ التثقيف المالي يتساوق ببراعة مع فنّ التوجيه باعتباره جزءًا لا يتجزّأ من الاستثمار الذكي وقيادة الحصّة المُقترضة.
في الجانب الأخر من الحكاية هنالك أطراف ثريّة ثراءً فاحشًا تتحكّم بشيطنة من زمان لزمان ومن مكان لمكان بأطراف أخرى فقيرة تحيا حياة لا تملك فيها حتّى مصيرها.
: جزء من سيرتي الروائيّة زمن التّعب المُزمن الصادرة بألمانيا عن دار الدراويش للنشر والترجمة
“الرأسماليّة أخفقت في تثبيت الإنسانيّة. حقّقت التطوّر التكنولوجي على حِساب الجانب الإجتماعي. أطراف تعيش في ترف اجتماعي بخنق أطراف أُخرى من أجل الربح. هذا ما يُسمونه صُعود التّقسيم الطبقي. هُنالك حُفرة ضخمة أنشأتها اللوبيّات لكي يسقط الفقراء فيها ويستعبدونهم. نشترك كلّنا في العالم نفسه، لكنّ هُنالك طبقة من الغيوم الشفّافة تفصلنا عن بعضنا البعض. الفُقراء يلتقون بالفُقراء والأغنياء ببعضهم. فالأغنياء يجلبون الفقراء إلى زوبعة الإنتاج بدون استهلاك. شيئًا فشيئًا وجد العُمال أنفسهم قد بيعوا بالكامل. يتقاضون رواتبهم حتّى يتمكّنوا من العودة إلى العمل من الغد دون إحراز تقدّم في حياتهم. الراتب يُمغض كاللبان ويُزقّم منه قضمات صغيرة جدًّا طيلة شهر. أُلغيت العبوديّة كجريمة شكلًا لكنّها حاضرة مضمونًا. المُوظّف لا يمارس الحُريّة، بل الخُضوع والطّاعة. ممّا يعني إِسْتِحْواذ شخص على آخر. الإنسان الّذي يجلس في قمّة هرم السلطة يحرم أولئك الّذين يجلسون أدناه للرفع من مردوديّته. على حِساب انسانيّتهم. يُجرّد المسؤول العامل من صفاته ليتّخذ سِمة الرقيق. يُقنعه أنّه لا شيء. فرّقوهم إلى نصفين. نصف مالك للنّصف الآخر. شخص يستعمل شخص آخر. ألُغيت العبوديّة لكنّها أخذت مُتَعَرِّجات أخرى أرقّ وأنظف. في غابر الزمن كان يُعرف العبد بشكله أمّا بعد الثورة الصناعية فيُعرف بمضمونه. رقيق الأمس يُباع بشكلٍ دائم أمّا رقيق اليوم فيُكترى لعشر ساعات. كان هُنالك سوق للعبيد، اليوم يُوجد مكان عمل للعبيد”
إذا كان لا يمكننا توفير مشاريع صغرى لكلّ الفئات، يعمل برنامج المسؤوليّة الاجتماعيّة للشركات على تلطيف تلك العواصف والأجواء الرماديّة للرأسماليّة بدمج روح الموظّفين وتعزيز ظروف عملهم ليغرس فيهم بعض السكينة، ومن بين بعض الخطوات الّتي لهم اتّخاذها لهذا المرمى الانساني السّامي: اشراك الموظفين في اتّخاذ القرارات الجوهرية بحياتهم المهنية، وتقليص ساعات العمل لدعم التوازن المرجو بين نواحي العمل والحياة الشخصيّة، زيادة الرواتب، توفير الفحص الطبي الدوري، وبعثهم في دورات تدريبيّة خارج حُدود أوطانهم.
كما لكلّ وجهٍ مرآةٍ مُعاكسة تُضلّل مساءها، يتراءى الغسيل الأخضر كمرآة مناقضة للحقيقة تتخفّى خلفها البنوك، فبينما تنشر عدّة بنوك فرنسيّة تقارير سنويّة عن منجزاتهم تُجاه البيئة والحدّ من الانبعاث الكربونيّ، تُقام عدّة دعاوى قضائيّة ضدّ هاته البنوك، حيث يبرز بنك بي إن بي باريبا بوصفه الرائد في ساحة المسؤولية الاجتماعيّة للشركات كطرف في هذا المشهد، ليموّل شركة مكلّفة بإزالة الغابات، وهذا يعكس سلوكًا مُشينًا وفاضخًا، كمّا وُجّهت له سابقًا غرامة ماليّة ضخمة لكونه موّل مشروعًا بأحد البلدان النّاميّة ولم يحترم المعايير الأخلاقيّة المنصوصة عليها القوانين القائمة. هل يتجلّى النّظام العالمي الجديد كقطعة حلوى تُهدى إلينا، كالأطفال نتذوّقها برقّة، إلى أن نُصادف بداخلها آلة حادّة بالغة الصّغر تُسيح بظنوننا إلى العدم مُخلّفة شهقة دمّ قاتلة.
المصدر: – تدوين نيوز