
تشهد مناطق شمال شرقي سوريا حالة من الترقب منذ توقيع اتفاق 10 من آذار بين الحكومة السورية وقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، والذي كان يفترض أن يدمج الهياكل العسكرية والمدنية لـ “قسد” ضمن مؤسسات الدولة السورية. ورغم مرور أكثر من ستة أشهر على هذا الاتفاق الذي وُصف بأنه “تاريخي”، تشير المعطيات إلى أن عملية التنفيذ متعثرة بشكل كبير.
ونصّ الاتفاق على إعادة سيطرة دمشق على المعابر الحدودية والمطارات وحقول النفط، وضمان حقوق المكونات، ودمج مقاتلي “قسد” ضمن الجيش الجديد بحلول نهاية العام. هذا الإنجاز الذي جاء بعد سقوط نظام الأسد أواخر 2024 اعتُبر فتحاً في مسار إنهاء ملف “قسد” في سوريا.
غير أن التنفيذ لم يسر وفق المأمول. فعلى الأرض، حدثت اشتباكات متفرقة أكدت هشاشة التفاهم، وأعلنت وزارة الدفاع السورية مقتل جنود لها في ريف حلب بنيران “قسد” واتهمتها بـ“استهداف منهجي للمدنيين والعسكريين”. واتخذت أنقرة الموقف ذاته، إذ صرحت وزارة الدفاع التركية في 25 من أيلول أن “قسد لا تلتزم باتفاق 10 من آذار… مما يهدد السلام والاستقرار الإقليمي”.
وفي هذا السياق، قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في خطابه أمام البرلمان، أمس الأربعاء، إن بلاده “دعمت منذ البداية وحدة الأراضي السورية، واليوم أيضاً نقف بحزم ضد خطط تقسيم سوريا”، مشيراً إلى أن تركيا “أطلقت جميع قنوات الدبلوماسية لمنع أي كيان إرهابي على حدودها”، لكنه حذّر قائلاً: “إذا بقيت هذه المبادرات بلا استجابة، فإن موقف تركيا وسياستها واضحة”.
دمشق: “قسد” تماطل وتطرح “غطاءً انفصالياً”
من جانبه، رأى الرئيس السوري أحمد الشرع أن التباطؤ في تنفيذ الاتفاق يجري بشكل متعمد. وقال قبيل مشاركته في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة: “هناك أجنحة داخل قسد وحزب العمال الكردستاني تعرقل مسار التسوية”، مؤكداً رفضه مطالب قسد المتعلقة باللامركزية. وأوضح أن القانون السوري رقم 107 “يضمن أصلاً نسبة 90 بالمئة من اللامركزية الإدارية”، معتبراً أن هذه المطالب ليست سوى “غطاء للنزعة الانفصالية”.
وأكد الشرع أن اتفاق 10 من آذار شكّل للمرة الأولى مساراً للحل يحظى بدعم كل من الولايات المتحدة وتركيا، لكنه أشار إلى أن “قسد” “تجاهلت دعوة عبد الله أوجلان لحل نفسها وأصبحت تشكل تهديداً للأمن القومي في تركيا والعراق”. ولفت إلى أن أنقرة امتنعت في السابق عن شن عمليات عسكرية ضد قسد استجابة للجهود السورية، لكنه ألمح في الوقت ذاته إلى أن “صبر تركيا قد ينفد مع نهاية العام إذا لم يتحقق الاندماج”.
وبالتوازي، ضغطت تركيا على “قسد” لتسريع خطوات الدمج، إذ حذّر الرئيس رجب طيب أردوغان في كلمته أمام الأمم المتحدة من أن الفشل في دمجها قبل كانون الأول قد يدفع أنقرة لعملية عسكرية جديدة. ورغم ذلك، بدت قيادة “قسد” وكأنها تتبع سياسة مماطلة محسوبة لإطالة أمد الوضع الراهن.
وقد يرتبط هذا التباطؤ بعاملين أساسيين، الأول الغموض المحيط بدعوة زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان وموقفه من سلاح “قسد”، وهو ما وفر لها مظلة سياسية للاستمرار في وضعها القائم، والثاني الحسابات الداخلية في تركيا المرتبطة بمسار السلام مع الأكراد، والتي تجعل أي عملية عسكرية ضد “قسد” مغامرة قد تهدد هذا المسار.
ضبابية موقف أوجلان
أحد أبرز أسباب تريّث “قسد” هو الموقف الضبابي لزعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان من مسألة نزع سلاح “قسد” واندماجها. ففي أواخر شباط الفائت، وجّه أوجلان من سجنه دعوة تاريخية لوقف الكفاح المسلح وحلّ حزب العمال الكردستاني، فيما عُرف بمبادرة “السلام والمجتمع الديمقراطي”.
لكن هذه الدعوة – وبرغم شمولها عناصر الحزب داخل تركيا – لم تتضمّن بشكل صريح أي إشارة إلى “قسد” أو وحدات حماية الشعب (YPG) التابعة لها في شمالي سوريا. حيث نقل أعضاء وفد حزب العدالة والمساواة الديمقراطي (DEM) الذين التقوا أوجلان تأكيده أنَّ “سوريا وروجآفا خطٌ أحمر بالنسبة لي.. فهي قضية منفصلة”. وذلك بحسب نقل موقع (Independent Türkçe) عن بروين بولدان الرئيسة المشاركة لحزب الشعوب الديمقراطي الكردي في تركيا.
هذا الموقف الضمني، رغم دفعه نحو سلام تاريخي في تركيا، لا يدعم صراحةً نزع سلاح “قسد” أو إنهاء وضعها شبه المستقل في سوريا، مما وضع “قسد” في موقف متريّث إزاء تسليم سلاحها. وأثار هذا الغموض قلقاً كبيراً لدى أنقرة. فتركيا تنظر إلى “قسد” كامتدادٍ لحزب العمال الكردستاني، وأي استثناء لها من عملية السلام يُبقي تهديداً أمنياً قائماً.
وقال الباحث التركي عمر أوزكيزيلجيك في حديثه إلى موقع “تلفزيون سوريا”: “إن الغموض في الموقف تجاه قسد هو في الحقيقة ربما أكبر تحدٍّ أمام هذا المسار. حتى اليوم لم تُستخدم عبارة واضحة وصريحة تجاه قسد. وهذا يشكّل خطراً كبيراً من ناحية احتمال فشل عملية نزع سلاح حزب العمال الكردستاني. لكنني أعتقد أن هذا تُرك غامضاً بشكل واعٍ ومقصود. وقسد بدورها تدرك هذه المناورات”.
وطالب دولت بهتشلي، زعيم حزب الحركة القومية التركي (MHP) وحليف الرئيس أردوغان، بتوضيح يبدد الشكوك، وشدّد في بيان مكتوب في 2 من أيلول على أن دعوة أوجلان للسلام “لا تستثني قسد ووحدات حماية الشعب”، داعياً تلك القوات إلى “إظهار الولاء لإمرالي (مكان اعتقال أوجلان) والتحرك وفقًا لبيان 27 شباط”.
الحسابات التركية.. معادلة السلام الداخلي تكبح الحرب الخارجية
ويُعزى العامل الثاني الذي يمكّن “قسد” من المماطلة إلى المشهد السياسي داخل تركيا. فبعد سنوات من الجمود، انطلق مطلع العام الجاري مسار حل سياسي جديد بين أنقرة وحزب العمال الكردستاني، بدعوة غير مألوفة من زعيم القوميين دولت بهتشلي نفسه. واستجاب الحزب لدعوة أوجلان في 27 من شباط، معلناً بشكل رمزي حل هيكله التنظيمي وإتلاف أسلحته إيذاناً بإنهاء الكفاح المسلح الذي استمر 40 عاماً. وهذه التطورات دفعت أطرافاً تركية للتحذير من أن أي تصعيد عسكري جديد ضد “قسد” في سوريا قد ينسف جو الثقة الهش الذي بدأ يتشكل داخلياً.
وفي هذا الإطار، قدّم مراد يشيل طاش، مدير مؤسسة الأبحاث السياسية والاقتصادية والاجتماعية (SETA)، عرضاً خلال الاجتماع الثاني عشر لـ “لجنة المصالحة الوطنية والأخوة والديمقراطية”، وهي لجنة برلمانية خُصصت منذ آب للإشراف على مرحلة ما بعد الصراع مع حزب العمال الكردستاني وصياغة تعديلات تشريعية تراعي الواقع الجديد.
وأشار يشيل طاش في عرضه، إلى خطورة ربط مسار نزع سلاح حزب العمال الكردستاني بشكل كامل بالتطورات في سوريا، موضحاً أن ذلك “قد يخلق مشكلات في استمرارية المسار”. ومشدداً على أن الساحة السورية تظل “حاسمة من أجل استمرارية المسار في المرحلة المقبلة”.
وأضاف يشيل طاش، بحسب ما نقل موقع (T24) التركي أن نتائج الدراسات التي أجريت حول العلاقات مع سوريا أظهرت وجود نموذجين مؤثرين بشكل مباشر على المسار التركي، الأول يتمثل في الإقليم الذاتي الذي أنشئ في شمال سوريا بعد عام 2012، والثاني الاتفاق الموقّع بين دمشق و”قسد” في 10 من آذار الفائت. واعتبر أن النموذج الثاني “يخلق مزيداً من الاستقرار ومزيداً من السلام”.
ويرى أوزكيزيلجيك أن “قسد” تبني استراتيجيتها على قراءة خاطئة للمشهد، وقال: “يعتبرون أن عملية نزع سلاح حزب العمال الكردستاني في تركيا بمثابة مسار حل، غير أن الأمر ليس كذلك. ليس هناك عملية تفاوضية، بل مسار أحادي الجانب لنزع السلاح. لكن لأنهم يرونه مسار حل، افترضوا أن تركيا لن تنزل عسكرياً إلى الميدان”.
“قسد” ورهان المعادلة المعكوسة
وصرّح علي باباجان رئيس حزب الديمقراطية والتقدم (DEVA) محذراً من تبعات أي “خطوة متهورة” في “الملف الكردي” الإقليمي. وأكد باباجان في حوار مع وكالة (ANKA) التركية أن إنهاء دوامة الإرهاب والعنف سيفتح باباً لـ“مناخ جديد من السلام” في المنطقة، لكنه نبّه إلى ضرورة التنبه لـ“المخاطر ذات الصلة بسوريا”، قائلاً: “علينا أن نكون حذرين جداً، لا سيما بشأن المخاطر المتركزة في سوريا”.
وقال باباجان: “إذا تحوّل الوضع في سوريا لا قدّر الله إلى صراع داخلي، خاصةً إن كانت تركيا طرفاً فيه، فستتوقف العملية (السياسية) الداخلية”. وأوضح أنه من الصعب إتمام عمل لجنة المصالحة الوطنية في أنقرة من دون التوصل لحل نهائي بشأن مصير قسد في سوريا، في إشارة إلى مدى ترابط المسارين السوري والتركي.
من الجانب الكردي التركي، كانت الرسالة مماثلة. بروين بولدان شددت على أن أي عمل عسكري تركي ضد “قسد” سيقابل برفض قاطع من الأكراد ويهدد بنسف جهود السلام: “على تركيا أن تكون إلى جانب الأكراد بشأن روجافا. استبعاد الأكراد وتدمير مكاسبهم لن يعود بأي فائدة على تركيا. أكبر هاجس لدى الشعب الكردي هو روجافا. حتى لو اتخذت تركيا خطوات في اتجاه الديمقراطية، فإن أي عملية ستُشن على روجافا ستكون دماراً كبيراً للأكراد. لا يقبل الأكراد ولا السيد أوجلان بذلك. إذا حلّت تركيا المسألة على أساس ديمقراطي ودستوري، فستكون تركيا هي الرابح”.
وأضاف أوزكيزيلجيك أن الواقع مقلوب تماماً: “إذا لم تندمج قسد في مؤسسات الدولة السورية، فإن عملية نزع سلاح حزب العمال الكردستاني ستتعرض للتخريب، وهذا سيُفسد المسار داخل تركيا أيضاً. أي أن المعادلة تُقرأ بشكل معكوس. ومن منظور تركيا، هناك وضع واضح: إذا قيّمت أنقرة أن مسار اندماج قسد لا يتقدّم ولن يتقدّم، فستستخدم الخيار العسكري. ويمكننا أن نقول هذا بشكل صريح”.
واشنطن بين ضغوط الحلفاء وتجنّب التصعيد
وفي حين تنشغل دمشق وأنقرة بالضغط على “قسد” لتسريع الاندماج، تمارس واشنطن هي الأخرى دوراً موازناً. فهي، من جهة، لا تريد انهيار التفاهمات الهشة بين “قسد” والجيش السوري خشية أن يؤدي ذلك إلى فراغ أمني تستفيد منه خلايا تنظيم الدولة (داعش). ومن جهة ثانية، تحرص على عدم إغضاب أنقرة، حليفها في الناتو، عبر غضّ الطرف عن أي مشروع انفصالي. هذا التوازن الأميركي يمنح “قسد” هامشاً إضافياً للمناورة، لكنه يتركها أيضاً أمام ضغوط متزايدة لتنفيذ التزاماتها.
يمكن القول إن قادة “قسد” يعولون على هذه المعادلة المعقدة، وهي جزء من استراتيجية مدروسة أكثر من كونها مجرد تعثر ميداني. فالغموض الذي يكتنف موقف عبد الله أوجلان من سلاح “قسد” منحها مظلة سياسية غير مباشرة، فيما وفّرت عملية السلام الجارية داخل تركيا غطاءً إضافياً يحدّ من احتمال مواجهة عسكرية واسعة ضدها. وبين ضغوط دمشق وأنقرة وتحفظات واشنطن، تواصل “قسد” اللعب على حافة التوازن، ساعيةً إلى كسب الوقت وترسيخ حضورها، بانتظار أن تتضح ملامح التسوية النهائية لمستقبل سوريا ودور الأكراد فيها.
المصدر: تلفزيون سوريا