طالعتنا وسائل الإعلام في الشهر الماضي عن بداية اتفاق بين هيئة التنسيق الوطنية، أحد مكونات هيئة التفاوض، ومجلس سورية الديمقراطية والذي يعتبر الواجهة السياسية لحزب الإتحاد الديمقراطي الجناح السوري لحزب العمال الكردستاني والذي شكل في منطقة شرق الفرات ما يسمى “الإدارة الذاتية”، هذه الإدارة التي تم الإعلان عنها مطلع العام 2014، والتي ادعت بأنّها ستأخذ على عاتقها النهوض بمهام الحكم المحلي في مناطق تبلغ مساحتها نحو ثلث مساحة سورية، وتضم عدة ملايين من البشر، ينتمون إلى قوميات وأديان مختلفة، بالاعتماد أساساً على دعم ملموس من جانب “التحالف الدولي” الذي تقوده الولايات المتحدة.
وإن كان البعض قد خفي عنه، كيف تم نقل السيطرة بين عصابات الأسد وعصابات «حزب العمال الكردستاني» عبر واجهته السورية «حزب الاتحاد الديمقراطي» الذي سُلّمت إليه معظم مناطق الجزيرة السورية في بدايات الثورة ضمن صفقة التسليم والاستلام وتلقى الدعم المادي والسلاح من عصابات الأسد مباشرة. كما كان هناك نوع من توزيع العمل والأدوار بين إدارة ذلك الحزب لتلك المناطق، وأجهزة العصابة الأسدية الإدارية والأمنية التي استمرت، وما زالت مستمرة، في عملها ضمن المناطق المعنية؛ بصيغ وأشكال تتناسب مع قواعد اللعبة وأهدافها، وهو ما صرح به بايق بخصوص طبيعة العلاقة الودية القائمة بين حزبه وعائلة الأسد؛ والذي أكد أيضاً فضل حزبه، على النظام حينما منع خروج منطقة الجزيرة عن سلطت عصابات الأسد.
إن تجربة “الإدارة الذاتية” هي في جوهرها تجربة مشتركة ساهم فيها نظام عصابات الأسد و”حزب العمال الكردستاني” عبر أدواته السورية. هذه التجربة بنيت أساساً وفق منطق القوة والعنف والترهيب والتفرد بالقرار، واستخدمت لتحييد الكرد السوريين بشكل أساسي عن الثورة، وهو ما انعكس سلباً على سكان المنطقة الذين اختار الكثير منهم الهجرة إلى الخارج هرباً من تردي الأوضاع في المنطقة. فضلاً عن انتفاء مزاعم التمثيل لكل مكوّنات المجتمع المحلي، حيث ظل “المكّون الكردي” هو المتحكّم في القرارات الرئيسية على غرار “المكّون العلوي” في الدولة الأسدية، بينما يتم زج ممثلين شكليين عن بقية المكوّنات في بعض الإدارات، من أجل إعطاء انطباع مخادع عن احترام مبدأ التعددية. والواقع أن المتحكّم غالباً ليس مواطناً سورياً كردياً، بل هم قادة جبال قنديل من غير السوريين، ما يجعل حزب “الاتحاد الديمقراطي” مجرّد تابع للحزب الأم المتمثل في “حزب العمال الكردستاني – PKK”.
وعلى الرغم من أن منطقة الجزيرة السورية كانت لفترة قريبة تعد “سلّة غذاء” سورية، فضلاً عن غناها بالنفط والغاز، إذ تضم أكبر حقول وآبار البترول في البلاد. فإن ما يسمى بــ “الإدارة الذاتية” التي تحتكر هذه الموارد، تعجز عن تأمين الحياة الكريمة لأبناء هذه المنطقة التي تسودها أزمات معيشية تُوصف بــ “الخانقة”، عمّقها رفع أسعار مواد رئيسية، أبرزها الخبز والمحروقات، مما يجعل سكان الجزيرة السورية يعانون من وضع معيشي بائس، كما يعانون من غياب شبه تام للخدمات الضرورية، وتراجع مرعب في النظام الصحي. أما القطاع التعليمي، فقد بات، خاصة بالنسبة إلى الكرد، أشبه بدورات محو الأمية بفعل مناهج تفتقر إلى أبسط المعايير التربوية والمعرفية؛ فضلا عن غياب الكوادر التدريسية المؤهلة بذريعة «تكريد» التعليم. هذا إلى جانب عدم وجود أي جهة وطنية أو إقليمية أو دولية تعترف بشهادات الخريجين من الكرد، الأمر الذي سيكون مؤداه جيش من أنصاف المتعلمين لينضموا إلى العاطلين عن العمل، ويصبحوا هدفاً للتجنيد السفربرلكي الذي بات كابوساً أنهك، وينهك، الناس؛ ودفع، ويدفع، بالكثيرين منهم نحو الهجرة انقاذاً لأبنائهم وبناتهم من تجنيد تفرضه عليهم سلطة لا تمتلك أية شرعية. كما أن الكثيرين من الناس يخرجون بهدف انقاذ أبنائهم من الأمية المحتمة، طالما ظلت الأمور على حالها.
إلى جانب ذلك فإن ما يسمى بــ “الإدارة الذاتية” تفرض على النازحين المقيمين في مناطق سيطرتها تأمين “كفيل” من أحد السكان الأصليين، ضمن شروط تختلف من منطقة إلى أخرى. وتتطلب ورقة الكفيل قيام أحد السكان الأصليين المقيمين في القرية أو البلدة، بكفالة النازح أمام المجلس المحلي، وذلك بإحضار ورقة من “الكومين” الذي تعينه “الإدارة الذاتية”، وحيث أن عدد النازحين يفوق عدد السكان الأصليين، وهذا ما يجعل من تأمين الكفيل أمراً مستحيلاً، مما فتح مجال الابتزاز لأبناء سورية في تنقلهم ضمن مدنهم وقراهم بحثاً عن الأمن والأمان ولقمة العيش الكريم.
إننا نعتقد بأن غالبية القيادات الكردية السورية كانت تحلم باستنساخ تجربة كردستان العراق، التي تختلف تمام الاختلاف عن الواقع الكردي السوري على مستوى التاريخ، والجغرافيا، هذا إلى جانب وجود شخصيات كاريزماتية تمكّنت من فرض احترامها على القوى السياسية العراقية الداخلية والقوى الإقليمية والدولية. وهذا ما تبلور منذ بداية الثورة السورية، وما يؤكد ذلك السعي هذه القيادات بدفع من قيادة إقليم كردستان العراق في حينه، إلى تشكيل ما سمي “المجلس الوطني الكردي” الذي طالب بالاعتراف الدستوري بالهوية القومية الكردية وبـ “الشعب الكردي الذي يعيش على أرضه التاريخية”، وإنشاء المدارس الكردية، إضافة إلى تحقيق اللامركزية السياسية في الحكم في سياق وحدة الأراضي السورية.
إن الكثير من الكرد المنتمين للحاضن الوطني السوري يرفضون تماماً “الإدارة الذاتية” التي يقودها حزب العمال الكردستاني، ويعتبرها مجرد وهم وخديعة كبرى من قبل عصابات الأسد. كما يرفضون اعتبار “الإدارة الذاتية” على أنها إدارة كردية، ويرفضون اعتبارها كياناً سياسياً سورياً، بل هي مليشيا عسكرية محتلة مثلها مثل المليشيات الإيرانية والعراقية واللبنانية. كما العديد من القوى الوطنية، الطامحة للتغير والانتقال بسورية إلى دولة مدنية ديمقراطية تعددية، ترى بأن الصيغة المناسبة للحالة السورية هي اللامركزية الإدارية، بنظام وطني ديمقراطي، يرتكز على مبدأ المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات لجميع السوريين. قوى التغير الوطني الديمقراطي، لا تخفي رفضها للامركزية السياسية أو “الفدرالية” التي تطالب بها القوى الكردية والتي تنتهي إلى تقسيم وتفتيت البلاد.
منطقة الجزيرة هي أولاً وأخيراً جزء من الوضعية السورية العامة؛ وستظل أوضاعها متشابكة مضطربة طالما أن الموضوع السوري العام لم يجد طريقه إلى الحل؛ ولكن هذه المنطقة تظل مفتاح الوحدة الوطنية السورية، إذا تمكّن سكانها من جميع الانتماءات عبر قواهم وفعالياتهم وشخصياتهم الوطنية من تجاوز الفتن التي تُحاك لهم؛ واستطاعوا مجدداً تأكيد تفاهمهم وحرصهم على العيش المشترك القائم على القبول بالآخر المختلف ضمن إطار الوحدة الوطنية.
المصدر: إشراق