
منذ منتصف أيلول/سبتمبر الجاري، تلاحقت المواقف الأمريكية التي تصبّ في صالح دمشق بعد المؤشرات التي ظهرت إثر أزمة السويداء على وجود تراجع في موقف واشنطن، فقام المبعوث الأمريكي إلى سوريا توماس براك برعاية خارطة طريق بخصوص محافظة السويداء شاركت فيها الأردن بصفتها دولة ضامنة، إلى جانب الحكومة السورية، مع غياب أي إشارة إلى الهيكل الإداري والعسكري الذي تشكّل في المحافظة بعد المواجهات التي شهدتها شهر تموز/يوليو، حيث تضمّنت تأكيداً على وحدة الأراضي السورية.
بعد أيام من الإعلان عن خارطة الطريق، استضافت واشنطن وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، بعد مباحثات أجراها قائد القيادة المركزية الأمريكية براد كوبر في دمشق مع الرئيس أحمد الشرع. وتخلّل هذه التطورات إقالة دبلوماسيين أمريكيين عاملين في منصب إسطنبول الإقليمية التي تتابع الملف السوري، حيث أشارت المعلومات التي رشحت عن الأسباب إلى أنّ براك غير راضٍ عن تعاطي هؤلاء الدبلوماسيين مع دمشق خلال مفاوضات دمج قسد ضمن الدولة السورية.
أبلغ تعبير عن استياء قسد أو “الإدارة الذاتية” من الموقف الأمريكي تمثّل في تصريحات أطلقها ألدار خليل، أحد أبرز القيادات الكردية شمال شرق سوريا، والتي وصف فيها براك بأنّه قليل الخبرة، وأنّ الأسلوب الذي يعتمده لا يساهم في إيجاد حلول.
أولويات إدارة ترامب في المنطقة
منذ حقبة إدارة جو بايدن طرأت متغيرات واضحة على أولويات الولايات المتحدة في المنطقة، وبالتحديد في أعقاب اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية مطلع عام 2022، والتي تحوّلت بشكل تدريجي إلى مواجهة غير مباشرة بين موسكو وواشنطن وحلف شمال الأطلسي، وهذا دفع العديد من الدول الأوروبية، كما هو حال واشنطن، إلى مراجعة سياساتهم تجاه تركيا، ومن ضمنها تقليص أو إيقاف دعم قسد. لكن مع وصول ترامب إلى البيت الأبيض ركّز بشكل أكبر على تقويض نفوذ إيران انطلاقاً من مقتضيات أمن إسرائيل، ونظراً لأنّ طهران بوابة محتملة للنفوذ الصيني في المنطقة.
يعوّل ترامب بشكل واضح على الدورين التركي والسعودي لملء الفراغ الإيراني، خاصة في سوريا والعراق، ومن جهة أخرى فإنّه يطمح لإبطاء اندفاعة دول الخليج وتركيا باتجاه تطوير العلاقات مع الصين، ولذا فإنّه يبدي حرصاً على مراعاة الحساسية التركية بخصوص ملف قسد، بالإضافة إلى خوضه مباحثات مع أنقرة من أجل حلّ ملفات عالقة، فمن المنتظر أن يعقد الرئيسان الأمريكي ترامب والتركي رجب طيب أردوغان محادثات على هامش اجتماعات الجمعية العمومية للأمم المتحدة لنقاش صفقات طيران حربي مجمّدة.
وفي سياق العمل على تقليص إدارة ترامب للنفوذ الإيراني في المنطقة، فهي تُظهر دعمها للإدارة السورية الحالية التي تفصل بين إيران والمنافذ على البحر المتوسط، سواء عبر منع إيران من إقامة نفوذ لها في سوريا، أو منعها اتصالها مع لبنان، وتعتبر عملية رفع العقوبات الأمريكية عن سوريا أقوى حزمة دعم للعلاقات بين إدارة ترامب ودمشق.
في شهر آب/أغسطس الماضي، أجرت إدارة ترامب تغييرات في فريقها الدبلوماسي ضمن عدة دول في المنطقة، وغالبية التعيينات الجديدة من خلفية أمنية، وهي جزء من استراتيجية الإدارة المتعلقة بالتضييق على إيران. ولا يخفى على واشنطن أنّ قسد تحتضن تيارات ترتبط بشكل مباشر بحزب العمال الكردستاني، ولديها ارتباطات مع إيران منذ عام 2013، بل إنّ هذه التيارات، وخاصة القيادات غير السورية، تعتبر صاحبة قرار فيما يتعلق بمصير شمال شرق سوريا، وربما هذا يغذّي عدم حماسة إدارة ترامب لاستمرار دعم قسد على حساب دمشق.
سلوك إسرائيل العدواني وأثره على الإقليم
من الواضح أنّ تصاعد القلق الإقليمي من سلوك إسرائيل العدواني، خاصة بعد استهداف وفد حركة حماس في الدوحة في 9 أيلول/سبتمبر الجاري، يدفع الدول الإقليمية لإعادة تقييم أولوياتها. وفي هذا السياق أتت المصافحة الحارة بين الرئيسين التركي والإيراني في قمة شنغهاي الأخيرة، بعد مرحلة توتر بين طهران وأنقرة تلت سقوط بشار الأسد. كما أنّ حزب الله اللبناني بات يرسل رسائل إيجابية تجاه السعودية، وهذا يعبر عن نهج أوسع تنخرط فيه طهران، يهدف إلى تقليل التوتر مع دول المنطقة، تحسّباً لموجة مواجهة جديدة مع إسرائيل.
تُعتبر إيران داعماً مهماً لبعض تيارات قسد المرتبطة بحزب العمال الكردستاني، ضمن تحالف أوسع يشمل أيضاً حزب الاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة بافل طالباني المسيطر على السليمانية. وقد انتقدت أنقرة سابقاً بشكل علني الدعم الإيراني لقسد، لكن المؤشرات توحي برغبة إيرانية في التهدئة مع تركيا في ظل التصعيد الإسرائيلي، ومن المحتمل أن يتطوّر الموقف الإيراني لدرجة الكفّ عن أي سلوك يعرقل عملية التسوية بين العمال الكردستاني وتركيا، التي انطلقت إثر إعلان عبد الله أوجلان التاريخي، شهر شباط/فبراير الجاري، بالتوقف عن العمل المسلّح.
الدول العربية، وخاصة السعودية وقطر والأردن، تبدي حساسية بالغة تجاه مشاريع التقسيم في سوريا، والتي باتت تجاهر تل أبيب في دعمها. وفي هذا السياق مانعت الأردن فكرة فتح معبر حدودي بينها وبين محافظة السويداء التي تطالب بعض القوى فيها بالحكم الذاتي، وأكّدت أنّها حريصة على علاقات جيدة مع دمشق. وهذا الموقف ينسحب أيضاً على قسد التي ظهرت للعلن اتصالاتها مع تل أبيب إثر سقوط نظام الأسد.
إنّ تراجع الدعم الدولي والإقليمي لقسد لا يعني بالضرورة تأييد تفكيكها، ومن الواضح أنّ واشنطن تدفع باتجاه اندماجها ضمن الدولة السورية وجيشها الجديد، ولذا لا تزال توفر لها دعماً مالياً، وإن كان قد تقلّص بنسبة جيدة عن الأعوام السابقة، وربما أنّ هذا النهج مرتبط بالرغبة بعدم ترك المجال أمام قوى أخرى للاستثمار في التنظيم ودفعه باتجاه الفوضى.
المصدر: تلفزيون سوريا
عندما تعتمد سلطة أمر الواقع على دعم قوى إستعمارية خارجية لتثبيت سلطتها لتكون بندقية مستأجرة لهذه القوى تنتهي بنهاية دورها، والتجارب تحدثنا كما تم بإفغانستان وكذلك مع مسعود البرزاني عندما حاول الإستقلال، أمريكا أجندتها بدأت بالتغيير تجاه سلطة أمر الواقع بالجزيرة السورية قسد/مسد مع تطورات مسيرة الحكومة الجديدة بدمشق، هذا التراجع إنعكس دولياً، فإلى أين تسير؟.