“الهويات القاتلة” دعوة لكلمة سواء

يفتك بالجسد السوري، اليوم، أمراض خطيرة تتطلب عناية خاصة، شديدة ومركزة، والخوف، كل الخوف، أن تتحول هذه الأمراض إلى أمراض مزمنة، وعضال، لا شفاء منها، تهدد الجسد السوري بالموت والفناء والتحلل، وبلغة أخرى تهدد سورية بالحرب الأهلية والتقسيم.

فقد أظهرت تداعياتُ أحداث محافظة السويداء في الجنوب السوري، وقبلها أحداث مناطق الساحل، مع استمرار مشكلة شمال شرق سورية، تفشي مرض الطائفية والمذهبية بشكل مخيف ومرعب، وغير مسبوق، أصبح معه تعريف الذات السورية، وولائها، بشكل عصابي، مرضي، بدلالة الجغرافيا والانتماء ما دون الوطني، مترافقاً ذلك مع استعداد كامل لدى الكثيرين من أبناء هذه المناطق للجهر والمناداة بالانفصال عن الكيان التاريخي للوطن الأم، أو رفض التعاون مع نظام دمشق الحالي، والمطالبة بنظام لا مركزي إدارياً وسياسياً، ودون خجل أو مواربة من خلال الاستعانة بالخارج على ذلك، وما رفع أعلام الكيان الصهيوني وشكره، لدى فئة قليلة، إلا دليل على ذلك، رغم أنه مازال يحتل أراضٍ سورية، ويرتكب كلَّ يوم جرائم إبادة في فلسطين ويلاحق قادته كمجرمي حرب مطلوبين للعدالة الدولية.

ثمة أسباب كثيرة، تقف وراء الظاهرة الحالية، التي تجتاح جميع المكونات، ولا تقف عند مكون واحد، أهمُّها وأبرزها سياسات النظام البائد التمييزية، عبر عقود مديدة، وزرع الشقاق بين مكونات المجتمع السوري، وصولاً لتهتك النسيج الاجتماعي بحسب الصورة البشعة التي نراها اليوم، هذا، إضافة إلى العامل التاريخي في فشلنا المرير بإقامة دولة المواطنة التي تتجاوز كلَّ الانتماءات الضيقة والقاتلة وتجعل من الإنسان غاية عليا، ومن الحرية قيمة مثلى.

في هذا السياق لا يمكننا تجاهلُ العامل الخارجي ودوره وتأثيره في تأجيج هذه الصراعات وإذكائها بصورة دائمة ومستمرة، وبالتماس المباشر مع واقعنا اليوم، لا يمكننا نكران ريبة بعض القوى والمجموعات، ومخاوفها، منذ لحظة التغيير في 08 كانون أول/ ديسمبر الماضي باعتبار أن ما حصل أتى إلى السلطة بمجموعة لا تروق لهم لا بالعقيدة ولا بالانتماء، ولا بالتوجه والثقافة والولاء، وما ضاعف من سعار الولاءات القاتلة كثيرٌ من أخطاء السلطة الجديدة، وعدم تمكنها، لأسباب عديدة، من حسن التصرف والتعامل مع ركام الملفات والأزمات المعقدة والمركبة التي ورثتها عن نظام الأسد، المخلوع، والهارب.

الحالة المرضية للجسد السوري لا تقف عند طيف واحد من “الأقليات” فهي كالحمى تجتاح كل “الملل” و”النحل”، سواء بالفعل أو رد الفعل، والأخطر أن يصل المرض إلى الغالبية “السورية” التي هي، بكل المعاني والمفاهيم، الأمة بذاتها وأن يصبح سلوكها عنفياً وإقصائياً، أو متطرفاً وتكفيرياً كما يحلو الوصف والقول لبعضهم، نقول ذلك، ونحن نؤمن إيماناً عميقاً لا يتزعزع، بضرورة التغلب على أمراضنا، والشفاء والبراء منها، ولأنه بغير ذلك لن ينجو أحد منا، وليس هناك من منتصر، أو غالب ومغلوب.

نكرر ما قلناه مراراً، وفي هذه الزاوية وغيرها، إننا ندعو إلى حوار وطني جاد وحقيقي، ومعمق، حول كافة مشكلاتنا وعللنا، نخرج منه إلى عقد اجتماعي، وطني، جديد يرسم معالم دولة سورية، دولة عدالة ومساواة، قانون ومواطنة، التي ضحينا كلنا لأجلها، ودون مراهنات وأوهام لا تجيد قراءة المشهد السوري وامتداداته الإقليمية، وظلاله الدولية، ولا تملك رؤية واقعية لحالنا بعد أكثر من 14 سنة من التضحيات لانتزاع حريتنا وكرامتنا.

إن الحوار الوطني الذي ندعو له لا ينطلق من فراغ ودون ثوابت، ولا يعني تقديم التنازلات للقوى المحلية أو الإقليمية، فوحدة سورية فوق أي اعتبار، وأمنها وسلطتها على أراضيها، واستثمارها لثرواتها لا يجوز المس فيها، وكل ما هو ذو صلة بالأمور السيادية للدولة السورية، التي يجب أن تخضع للاحترام والاعتراف من مختلف الأطراف.

ندعو لحوار وطني فوق الانتماءات الضيقة والقاتلة، يوقف السعار والهياج الطائفي ويجرمه، ويضع حداً لخطاب الكراهية الرائج والمنتشر بين عموم السوريين، مؤتمراً يتعلق بالحقوق والواجبات، لإرساء السلم الأهلي مروراً بالعدالة الانتقالية وترسيخ قواعد متينة لدولة وطنية حديثة وعصرية، وليس لمحاصصات طائفية ومذهبية ستوصلنا حتماً إلى دولة فاشلة، معطلة.

إن الانتماءات الضيقة لن تبني سوى كيانات هزيلة ضعيفة تبحث عن الحماية والمساعدات والمؤونات.

أيها السوريون، سلطة ومكونات، تعالَوا إلى كلمة سواء تقينا الأخطر والأسوأ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى