جائزة نوبل.. حين تتحوَّل الثقافة إلى أداة ناعمة في الصراعات العالمية

حمدان العكله

منذ مطلع القرن العشرين، قدَّمت جائزة نوبل نفسها بوصفها احتفاء بالإنجاز الإنساني الكوني، وهذا أمر يستحقُّ الاهتمام والتقدير، لكننا لو نظرنا في العمق لوجدنا أنَّ هذه الجائزة عبارة عن أداة لترسيخ قيم المركز الأوروبي، وفرض معايير محدَّدة لما يُعتبر تقدَّماً أو إبداعاً، فاللجنة التي تختار الفائزين تنطلق في أحكامها من شبكة معقدة من التصوُّرات الثقافية والسياسية، التي تجعل من الإنسانية مرادفاً للنموذج الغربي ذاته، وبذلك يمكن أن نقول إنَّ هذه الجائزة تشكِّل انعكاساً للسياسية والثقافة معاً.

وحين نتمعَّن في قائمة الحاصلين على الجائزة عبر العقود الماضية نرى بوضوح كيف تُستخدم لتثبيت سردية أخلاقية محدَّدة، فقد مُنحت نوبل “السلام” لزعماء غربيين رغم تورُّطهم في سياسات قمعية أو استعمارية، كما حدث مع هنري كيسنجر، عام 1973، وفي المقابل كانت تُحجب عن مثقَّفين أو حركات تحرُّر؛ لأنَّهم لا ينسجمون مع الصورة المريحة التي يريد الغرب تقديمها عن الخير والإنسانية.

القيمة الكبرى لجائزة نوبل لا تكمن في مبلغها المالي أو في الميدالية الذهبية التي يحصل عليهما الفائز، بل في الشرعية الرمزية التي تمنحها، فالفوز بها يعني أنَّ اسمك أصبح جزءاً من ذاكرة الإنسانية الرسمية، غير أنَّ هذه الإنسانية ليست بريئة، فهي مصاغة وفق رؤية سياسية واقتصادية معيَّنة.

ربَّما يشاع في الأوساط الثقافية أنَّ غياب العرب والسوريين عن جوائز نوبل (باستثناءات نادرة) يعود إلى ضعف البحث العلمي أو إلى تخلُّف المؤسسات الثقافية، لكنَّ التفسير أبعد من ذلك بكثير..

في الأدب مثلاً، كثير من الفائزين تمَّ تكريمهم والإشادة بنصوصهم الأدبية؛ لأنَّ نصوصهم انسجمت مع مزاج سياسي معيَّن أو لأنَّها دعمت قضايا تتماشى مع سرديات الغرب حول الحرية وحقوق الإنسان، ولعلّ منح الجائزة في الأعوام الأخيرة لكاتبين مثل أولغا توكارتشوك (بولندا) وأني إرنو (فرنسا)، يعبِّر عن رغبة المؤسسات الغربية في تأكيد قيم الليبرالية الأوروبية بمواجهة تصاعد اليمين القومي داخل القارة.

وهذا يدفعنا للتفكير في الثقافة التي طالما كانت ميداناً للصراع الناعم بين الأمم، وجائزة نوبل تعمل على اعتبارها أداة دبلوماسية ثقافية، فهي وسيلة لإعادة توزيع الرمزية والاعتراف داخل النظام الدولي ولا تعني التكريم الفردي على الإطلاق، ذلك لأنَّ الدولة أو الكاتب أو العالِم الذي ينال الجائزة يصبح تلقائياً ممثِّلاً للقيم التي يريد الغرب إبرازها، حتى وإن كانت أعماله أكثر تعقيداً أو نقداً ممَّا تسمح به شروط الجائزة.

وبذلك يمكن القول إنَّ نوبل تشبه الجوائز السينمائية الكبرى مثل “أوسكار”، التي تُستخدم لتوجيه الرأي العام العالمي نحو اتجاهات سياسية وثقافية معينة، لكنَّ نوبل تتميَّز بخطورتها على الرأي العام؛ لأنَّها تأتي من فضاء العلم والأدب، أي من المجالات التي يُفترض أن تكون فوق السياسة ولا تحتكم بأحكامها.

وربَّما يشاع في الأوساط الثقافية أنَّ غياب العرب والسوريين عن جوائز نوبل (باستثناءات نادرة) يعود إلى ضعف البحث العلمي أو إلى تخلُّف المؤسسات الثقافية، لكنَّ التفسير أبعد من ذلك بكثير، فالجائزة تعمل ضمن منظومة اعتراف مغلقة، تحدِّد من يستحق أن يكون صوتاً إنسانياً ومن يُترك على الهامش.

حين فاز نجيب محفوظ بنوبل عام 1988، لم يكن ذلك تتويجاً للأدب العربي بقدر ما كان احتفاءً بصورة الكاتب العربي المعتدل الذي لا يصطدم بالغرب ولا بالأنظمة الحاكمة، منذ ذلك الوقت لم يُكرَّم كاتب عربي آخر، رغم الثورات والتحوُّلات الهائلة التي عرفها العالم العربي بعد ذلك الزمن، والسبب لا يتعلق  بالإنتاج الأدبي، بل في الخيارات السياسية والثقافية التي تحكم دوائر الاعتراف في الغرب.

أمَّا في سوريا، فالوضع أكثر تعقيداً، فبلدٌ يعيش واحدة من أكبر المآسي الإنسانية في القرن الحادي والعشرين أنتج مئات الكتَّاب والفنانين والمفكِّرين، الذين نقلوا تجربة السوريين إلى العالم، لكنَّهم ظلُّوا خارج الرؤية الرسمية للجائزة، هذا التجاهل ليس بريئاً، بل يعكس حدود التعاطف الغربي الذي لا يريد أن يرى في المأساة السورية سوى مادة للشفقة والتعاطف غير الرسمي، وذلك لئلا تكون الجائزة مدخلاً لمساءلة النظام الدولي نفسه.

تُمارَس نوبل القوة الناعمة عبر الاعتراف، والجوائز إحدى أدواتها الأكثر فعالية، فمنح نوبل لشخصية معينة يعني دمجها ضمن منظومة الشرعية العالمية، وهذا ما يجعل الجائزة جزءاً من سياسة الهيمنة، لا بمعناها الاستعماري المباشر، بل من خلال الهيمنة الرمزية التي وصفها بيير بورديو من خلال فرض معايير الاعتراف، والتحكُّم في تعريف القيمة والجدارة.

نحن، في العالم العربي، ما زلنا نتعامل مع جوائز مثل نوبل بعين الانبهار، لا النقد، ننتظر اعترافاً بإنجازاتنا يأتي من الخارج، ولا نتساءل عمَّن يملك سلطة الاعتراف هذه، لذلك ربما حان الوقت لبناء مؤسساتنا الثقافية الخاصة، ولتطوير معايير تقدير تُعبِّر عن قيمنا وتجاربنا..

من هنا يمكن قراءة نوبل قراءة مغايرة، وذلك حين نترجمها بوصفها آلية ناعمة لإعادة إنتاج مركزية الغرب، حتى وهي تحتفي بالآخرين، فحين تُمنح الجائزة لكاتب إفريقي أو آسيوي، يكون ذلك غالباً لأنَّه يعبِّر عن الاختلاف المقبول الذي يعزِّز مبدأ التنوّع الغربي بعيداً عن الاستقلال الفكري الحر الذ قد يهدِّد السردية الكبرى.

وهذا لا يعني بحال أنَّ كلَّ الفائزين بالجائزة قد تواطؤوا مع هذه البنية الفكرية، أو أنَّ الجائزة بلا قيمة. على العكس، والدليل على ذلك أنَّ بعض الفائزين استخدموا مكانتهم بعد الفوز لنقد النظام العالمي نفسه، مثل جوزيه ساراماغو أو ألكسندر سولجينتسين.

ونحن، في العالم العربي، ما زلنا نتعامل مع جوائز مثل نوبل بعين الانبهار، لا النقد، ننتظر اعترافاً بإنجازاتنا يأتي من الخارج، ولا نتساءل عمَّن يملك سلطة الاعتراف هذه، لذلك ربما حان الوقت لبناء مؤسساتنا الثقافية الخاصة، ولتطوير معايير تقدير تُعبِّر عن قيمنا وتجاربنا، بعيداً عن مركزية الغرب التي تسعى إلى تحويلنا إلى متلقِّين دائمين.

ختاماً، جائزة نوبل ليست شرّاً مطلقاً ولا خيراً مطلقاً، إنَّها مرآة تعكس صورة العالم كما يريد الغرب أن يراها، وحين ننظر إليها من موقعنا العربي أو السوري نرى أنفسنا غائبين ومستبعدين من مشهد الإنسانية الرسمية الذي يؤثِّر في الرأي العام العالمي، ما يضعنا أمام تحدٍّ حقيقي وهو أن نسعى دائبين لنحوِّل هذا الإقصاء إلى دافع لإعادة بناء خطابنا الثقافي وفق شروطنا، حينها لن ننتظر الاعتراف من أحد، بل سنمنح نحن الاعتراف لأنفسنا ولمن يشاركنا الرؤية، عبر إنتاجٍ فكريٍّ وإبداعيٍّ أصيل يُعبِّر عن إنساننا وواقعه، ويضعنا في موقع الفاعل لا المفعول به في المشهد الثقافي العالمي.

المصدر: تلفزيون سوريا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى