جائزة للسلام لأهل غزّة

نجيبة بن حسين

 

أثير أخيراً جدل بشأن جائزة نوبل للسلام، وعمّن ستُعطى له. وتصدّرت أسماء مرشّحين وسائل الإعلام وأحاديث كثيرين. ولعلّ أكثر ما تردّد استحقاق الرئيس الأميركي دونالد ترامب هذه الجائزة، وهو المتلّهف لنيلها، وكلّفه ذلك ما كلّفه من عناء التحوّل من رجل حرب إلى رجل سلم، على ما يصف نفسه، وابتزاز حلفائه لترويجه ومنحه تزكيتهم ومباركتهم، ليضفي شرعيةً وهميةً لما يشيعه عن أحقيته لنيل هذه الجائزة. ولعلّ أغلب داعميه لم يكونوا على قناعة تامّة بأحقيّته لها، بل كان دعمهم له نابعاً من خوف من غضبه أو تملّقاً له واسترضاءً لرئيس أكبر دولة، مصاب بجنون العظمة، ولا يكترث لا بالقوانين ولا بالأعراف الدولية، بل إن منطق القوة والجبروت والمصالح هو الذي يقود أفكاره كلّها، ومواقفه واصطفاءه حلفاءه، وليس للسياسة المرتكزة على المبادئ والقيم الإنسانية، وليس للتضامن الدولي وإشاعة السلام أيُّ وزن في حساباته. والحال أن الجائزة تُمنح لمن آمن بهذه القيم وسعى إلى نشرها، بما أتيح له من وسائل وآليات، تتراوح بين الفكر والعمل وتطويع السلطة والنفوذ لإحلال السلم والأمن والتآزر بين الشعوب في العالم.

حين تُقاس جائزة نوبل للسلام بموازين القوى، تفقد معناها الأخلاقي والمعرفي

برهن ترامب، منذ تولّيه رئاسة الولايات المتحدة للمرّة الثانية على سعيه إلى تطبيق رؤىً وسياسات تمثّل نقيضاً لما تشيعه جائزة نوبل للسلام من قيم ومبادئ، فانتهج سياسات اقتصادية حمائية وتضييقية، بثّت البلبلة والاضطراب في الأسواق العالمية، وزعزعت مكتسبات الاقتصاد العالمي المبني على الانفتاح والتجارة الحرّة، بفرض رسوم جمركية شططاً على واردات الولايات المتحدة، ورفع شعار “أميركا أولاً”، مغلّباً مصلحة بلاده على ضرورة التعاون الدولي ومؤازرة الشعوب والبلدان الفقيرة، فأوقف العمل ببرامج ومؤسّسات تهدف أساساً لإغاثة المنكوبين والمُجوَّعين وضحايا الحروب والكوارث والفقر في مناطق عدّة في العالم. وفي ما يتعلّق بإحلال السلام في العالم، لا يخفى على أحد دعمه المطلق آلة الحرب والإبادة الجماعية الإسرائيلية في قطاع غزّة، بالغطاء السياسي الدولي، وبالتزويد بالسلاح والمساعدات المالية واللوجستية، وهو دعم يرتقي إلى مصاف التواطؤ (والمشاركة المباشرة) في جريمة الإبادة الموجبة للتتبع والعقاب بمقتضى القانون الدولي، لتماديه في إمداد الحرب على غزّة مادياً ومعنوياً. أمّا في حرب روسيا وأوكرانيا، فقد عجز هذا الرئيس، المتبجّح برغبته في إنهاء كل الحروب، عن وضع نهاية للحرب الضروس التي تشنّها روسيا على أوكرانيا منذ أزيد من ثلاث سنوات، بل لقد أخذت الحرب في عهده في التمدّد جغرافيا، والتمطّط زمنياً، لتطاول مسيّراتها دولاً أوروبية، ولتخرق سيادتها وحرمة أجوائها. وباءت كل محاولات الرئيس الأميركي لإحلال السلم في المنطقة بالفشل الذريع، بل تذبذبت تصريحاتُه وتراوحت مواقفه بين دعم طرف على حساب الآخر أو نقيضه، ما يشي بغياب استراتيجية واضحة وعقلانية لإحلال السلم وفضّ النزاعات وطغيان الارتجال والمزاجية على مساعي الرجل لحلحلة الأوضاع.
لم تحلْ هذه السياسات التعسّفية الدولية، وهذا التستّر القبيح على جرائم الحرب وجرائم الإبادة الجماعية في غزّة، وهذا الفشل الذريع في إنهاء الحرب الروسية الأوكرانية، دون إصرار الرئيس ترامب على أحقيته في الجائزة، وقد شجّعه على ذلك تكالب كثيرين على الدعاية لشخصه، وحشد المناصرين له من رؤساء دول وشخصيات مرموقة، فمن قادة أوكرانيا وروسيا وكمبوديا وباكستان إلى رؤساء دول إفريقية، جاءوا إليه خصّيصاً لتقديم الولاء، وعرض ترشيحه لنيل الجائزة، علّهم يحصدون في مقابل ذلك نصيباً من الرضى، ونزراً من الإعانات والاتفاقات التي لا تغني خزائنهم ولا تسمن شعوبهم من جوع وفقر. وكان الرئيس المصري عبد الفتّاح السيسي قد صرّح أيضاً في 9 أكتوبر/ تشرين الأول 2025 إن الرئيس ترامب يستحقّ جائزة نوبل للسلام، لنجاح جهوده الحثيثة في وقف الحرب في قطاع غزّة. والحال أنه كان على علم ويقين بمخطّطات ترامب للتهجير القسري لسكّان غزّة، والاستحواذ على أرضهم، وتحويلها إلى “ريفييرا الشرق الأوسط”. وكانت مصر والأردن من أولى الدول التي فكّر فيها ترامب لترحيل الشعب الفلسطيني إليهما، ولتوطين الأزمة الإنسانية المتفاقمة وانعدام الاستقرار فيها عبر مخطّط جهنّمي يرمي إلى نصرة الكيان الصهيوني وتصفية القضية الفلسطينية، على حساب أمن الجوار من العرب، واستقرارهم، وفي نفي تامّ حقّ الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره في أرضه، ولعدالة قضيته.

الأجدى إنشاء “جائزة غزّة للسلام”، سلام يولد من معاناة الشعوب وإرادتها

إن رئيساً مهووساً بالعظمة، مسكوناً بداء النرجسية والمركزية، دأب على سماع هذا الإطراء الذي أثار زهواً فيه، وأذكى خيلاءه، سيصدّق أنه الأجدر بهذا التتويج، والأغلب أن هذا من أسباب سعيه المحموم و”المحمود” إلى إبرام اتفاق ينهي الحرب على غزّة، أيّاماً فقط قبل إعلان الفائز بجائزة نوبل السلام، وكأنّ الأمل لا يزال يداعبه بأن يظفر بهذا التتويج، إن تمكّن من إنهاء هذه الحرب رغم إخفاقه في إيجاد حلّ للحرب الروسية الأوكرانية، لكن آماله ذهبت أدراج الرياح، ولم يستطع تحقيق وهم صدّقه ورفع رايات السلم المضرّجة بالدم والخديعة من أجل الحصول عليه.
يقودنا هذا إلى القول إن هذه الجائزة، إن كان هناك من يستحقّها، فهم أهل غزّة، المرابطون في أرضهم، والمتشبّثون بها رغم ما أذاقهم إياه الكيان الصهيوني المجرم، والمتواطئون معه، من قتل وتدمير وتجويع ودمار شامل طاول كل شيء، وامتد سنتَين من دون هوادة. هذا الشعب الفلسطيني هو الأجدر بهذه الجائزة، لأنه آمن بأن سلماً مستداماً وتكريساً فعلياً لحقّ الشعوب في الوجود والحياة، لن يكتب لهما أن يتحقّقا إلا بصموده ورفضه مخطّطات التهجير القسري من أرضه، وتكبّده معاناة وقهراً يعجز البشر عن تحملّهما. لقد برهن للجميع أنه الحامل الحقيقي لراية السلام في العالم، لأنه لم يركع ولم يهادن، ولم يستسلم، ولأنه يدافع عن حقّ مشروع دفع من أجله الغالي والنفيس، ولأنه آخر قلاع الصمود والنضال ضدّ الإمبريالية الصهيوأميركية، التي تهدف إلى نهب ثروات الشعوب وإذكاء لهيب الفتنة والفرقة والتشظّي بينها، ليسهل عليه الهيمنة عليها، وتركيعها، خدمةً لنفوذه ومصالحه، وجعلها في تبعية دائمة له.
لقد أسقط أهل غزّة، رغم قلّة عددهم وعتادهم، المسلّمات والأراجيف كلّها، التي تقول إن في وسع من يملك القوة تحريف الحقائق وقهر إرادة الشعوب وفرض وقائع مشوّهة وباطلة، فلم تستطع قوات الاحتلال الإسرائيلي، رغم ما تملكه من قوة وجبروت، أن تسوّق سردية “الدفاع عن النفس” أو أن تستخدم رواية الضحية مطيةً لتبرير جرائمها في غزّة والضفة الغربية. ولم تتمكّن، رغم ما أنزلته بالقطاع من دمار وجوع وموت وخراب، أن تكسر إرادة الشعب الفلسطيني أو إذلال مقاومته، بل تواتر صدى ما يقع على غزّة من مظلمة تاريخية في العالم بأسره، وتناقلته شعوب الأرض، وألحق عاراً وخِزياً لا يُمحى، وسيلاحق الكيان المحتلّ المزروع في الأرض والتاريخ لأجيال وأجيال، وستتتبّع العدالة الجنائية الدولية قادته من مرتكبي جرائم الإبادة التي لا تتقادم بمرور الزمن، بل لقد استرجعت القضية الفلسطينية بريقها وبُعدها الإنساني، بعد أن سعى كثيرون طوال العقود الماضية إلى طمسها وإخماد صوت الحقّ والمقاومة الذي تمثّله، والهرولة وراء قطار التطبيع والاتفاقات الإبراهيمية المذلة للشعوب العربية. أحبط صمود الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة المؤامرات والخطط كلّها، التي أحيكت في العلن والخفاء لتصفية القضية الفلسطينية قضيةَ تحرّر وطني ذات بعد إنساني عالمي.
صدحت الشعوب في أصقاع العالم بالحرية لفلسطين، ورُفع علمها في كل الأرض، ولا يستبعد عاقل أن يتحوّل العلم مع الكوفية شعاراً للحرية والانعتاق، وأن يتحوّل الشعب الفلسطيني أيقونةً للنضال والكفاح، وستُسرد قصص بطولاته وتضحياته وملاحمه الإنسانية نماذجَ يُستشهَد بها للتدليل على إرادة الشعوب التي لا تقهر، وعلى انتصار الحقّ والعدل، وإن بلغ الظلم أقصاه والقوة منتهاها. أليس الهدف الأسمى الذي جعل الشعب الفلسطيني يصمد ويثبت ويتحمّل هذا الألم كلّه، والقهر والحصار، عزمه على إحلال السلام الدائم في أرضه بعدم التفريط فيها، لأن سلاماً بلا أرض حمائمَ قصّت أجنحتها، ولأن الأرض كالعرض؛ لا شرف ولا كرامة ولا أمان من دونهما. فمن الأحقّ بجائزة نوبل السلام، صاحب الأرض المستميت في الدفاع عنها، أم الرئيس ترامب الذي سعى إلى معاضدة الكيان الغاصب لسلب هذه الأرض وطرد أهلها منها وطمس معالمها؟

الهيمنة الغربية تصوغ دلالة السلام بما يخدم مصالحها، لا بما يخدم العدالة

كما أن من الجائز التساؤل عن القيمة المعنوية والاعتبارية التي تمثّلها جائزة نوبل للسلام في خضمّ ما أضحت تثيره من جدل حول الأشخاص الحائزين عليها، ومدى استحقاقهم لها، بالنظر إلى الجهود والرسائل التي يؤدّونها لإحلال سلام فعلي ومستدام، وبالنظر كذلك إلى مدى تجرّد الجائزة من الاعتبارات الأيديولوجية، وتحرّرها من سطوة موازين القوى العالمية. أضف إلى ذلك أنه قد لا يكون لها أيّ معنى أو جدوى في عالم لا تزال تُرتكَب فيه مجازر وحشية، وإبادة جماعية، وتطهير عرقي يعود بنا إلى ما قبل التاريخ، ويجب تبعاً لذلك أن يسائل القائمون على منحها أنفسهم إن كان هناك ما يبرّر منح هذه الجائزة في عالم تسوده القوة، ويُشرعن فيه العنف، وتُبرّر فيه الحروب، وتُهدَر فيه مبادئ السلم والأمن والعدالة، وكأن الجائزة، في نهاية المطاف، لا تعدو أن تكون صورة أخرى من صور الهيمنة الغربية على مفاهيم السلام ودلالاته، سلام توجّهه البوصلة الغربية، وتحدّد مساراته بما يتماشى مع أطروحاتها ومناهجها ومعاييرها، وبما يخدم مصالحها وهيمنتها قيمياً ومعرفياً على بقية العالم. ويكفي أن نعلم أنه من المفارقات أن الرئيس الأميركي كان من ضمن قائمة من 300 شخصية رُشّحت لنيل الجائزة، ويكفي أن ندرك مصدر إحداث الجائزة نفسها حتى يبطل العجب، وندرك رجاحة هذا الطرح. فمنح الجائزة ينبع من إحساس بالذنب لما اقترفه مانحها في حقّ الإنسانية من خطأ جسيم، ورغبة منه في التكفير عمّا خلّفه فيها من أدوات حرب ودمار وخراب، وذلك بإحداث جائزة تحثّ على السلام، وتكافئ الداعين إليه من المقدّمين لأعظم فائدة خدمةً للإنسانية. فألفريد نوبل، المهندس والكيميائي السويدي هو مخترع الديناميت، وصاحب مصانع للأسلحة و”تاجر موت”، بيّض صناعته وتجارته للسلاح بإحداث جوائز للعلم والسلام تخلّد ذكراه، وتمحو ما علق بها من عار وخزي. استعمل ما جناه من ثروة متأتية من صنع الحروب وتأجيجها لتمويل الجائزة، ما يجعلنا نجزم في خاتمة هذا القول إن مقام أهل غزّة أرفع بكثير من جائزة نوبل للسلام، ويجدر بناء على ذلك أن تتأسّس جائزة جديدة للسلام، تجسّد السلام الحقيقي الذي يُصنَع بدم الشعوب، ويُصاغ بإرادتها، ويُولد من رحم معاناتها، ويطلق عليها “جائزة غزّة للسلام”.

 

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى