
بعد أكثر من عقد من الحرب والمواجهات تقف سوريا اليوم أمام تحدٍ وجودي يتمثل في إعادة بناء ما تهدم، ليس فقط من بنى تحتية ومؤسسات، بل من روابط وقيم وأحلام وآمال.
وفي قلب هذا التحدي، يبرز التعليم العالي كأحد أهم ركائز إعادة الإعمار، ليس بوصفه قطاعاً خدمياً فحسب، بل باعتباره أداة استراتيجية لإعادة تشكيل المجتمع السوري وبناء مستقبل أكثر استقراراً وازدهاراً وديمومة، والسؤال الذي يمكن طرحه: الفرصة الآن سانحة لإعادة بناء هذا القطاع الحيوي والذي يعد أساساً لتحقيق الاستقرار والتنمية في البلاد، هل هذه القضية خياراً للتفكير والدراسة أم ضرورة لا مجال لتجاهلها؟
“أزمة التعليم العالي في سوريا“
تعرضت الجامعات السورية خلال سنوات الحرب والصراع إلى دمار واسع، طال المباني والمختبرات والمكتبات والسكن الطلابي، وأدى إلى تهجير آلاف الطلاب والأساتذة، وانقطاع العملية التعليمية في العديد من المناطق، ولم يستثن النظام المهزوم قطاع التعليم العالي من وحشيته وسطوته، فقد أدخل العسكرة والسلاح والاعتقالات إلى الحرم الجامعي وجند اتحاد الطلبة والتنظيمات الحزبية لتكون من أدواته في تدمير هذا القطاع الحيوي والهام.
فقدان الاعتراف الدولي ببعض الشهادات السورية يشكل عائقاً كبيراً أمام الطلاب الذين يسعون لمواصلة تعليمهم أو الانخراط في سوق العمل العالمي، ما يفاقم عزلة الأكاديميين السوريين ويحد من فرصهم في تطور مهاراتهم وقدراتهم..
ومارست هذا الدور كثير من سلطات قوى الأمر الواقع على امتداد الساحة السورية آنذاك، وتجاوزت الأزمة الحقيقية الجانب المادي، إذ امتدت إلى تدهور جودة التعليم العالي، وتراجع مستوى البحث العلمي، وتسيس المناهج وانفصالها عن واقع المجتمع واحتياجاته المتغيرة.
كذلك، فإنّ فقدان الاعتراف الدولي ببعض الشهادات السورية يشكل عائقاً كبيراً أمام الطلاب الذين يسعون لمواصلة تعليمهم أو الانخراط في سوق العمل العالمي، ما يفاقم عزلة الأكاديميين السوريين ويحد من فرصهم في تطور مهاراتهم وقدراتهم، وكذلك يحد من المساهمة في إعادة بناء وطنهم.
التعليم العالي كرافعة لإعادة الإعمار
في ظل هذه التحديات التي تواجه سوريا بعد التحرير، يصبح الاستثمار في التعليم العالي ضرورة وطنية لا تحتمل التأجيل، فإعادة بناء سوريا لا يمكن أن تتم من دون كوادر مؤهلة في مجالات حيوية مثل الهندسة، الطب، التكنولوجيا، والعلوم البيئية، وهي تخصصات ترتبط مباشرة بإعادة بناء البنية التحتية وتحسين الخدمات الأساسية.
لكن الأهم من ذلك هو إدراك أن إعادة الإعمار ليست عملية تقنية فقط، بل هي أيضاً عملية اجتماعية وثقافية وسياسية، وهنا تبرز أهمية العلوم الإنسانية والاجتماعية، التي يمكن أن تسهم في ترميم النسيج المجتمعي، وتعزيز قيم الحوار والتسامح، وفهم تعقيدات الهوية السورية المتنوعة ويمكن للجامعات أن تكون فضاءً للتعددية والانفتاح، لا مجرد مصانع للشهادات وإفراز خريجين لرفد سوق العمل.
وفي تجارب سابقة عديدة لعبت الجامعات ومؤسسات التعليم العالي دوراً مهماً في إعادة بناء رأس المال الاجتماعي من خلال المشاركة والتفاعل والاتجاهات والقيم المشتركة.
دور الحكومة من الترميم إلى التحول
تقع على عاتق الحكومة السورية مسؤولية كبيرة في إعادة بناء منظومة التعليم العالي، ليس فقط من خلال إعادة تأهيل المباني وتوفير التجهيزات، بل عبر تبني رؤية استراتيجية شاملة تضع التعليم العالي في قلب مشروع وطني للتنمية المتوازنة والمستدامة.
وهذا يتطلب إصلاحاً جذرياً في السياسات التعليمية، يشمل تحديث المناهج لتواكب التطورات العلمية والتكنولوجية، وتطوير آليات تقييم جودة الخدمات التعليمية، وتعزيز استقلالية الجامعات، وتوفير بيئة محفزة للبحث العلمي والابتكار، كما يجب أن تكون هناك سياسات واضحة لدعم الأساتذة والطلاب، وتوفير فرص التدريب والتطوير المهني، والحد من هجرة العقول والعمل على استقطاب الكفاءات المهاجرة.
المجتمع الدولي شريك لا غنى عنه
لا يمكن لسوريا أن تنهض بمنظومة التعليم العالي بمفردها، فالدعم الدولي ضروري، سواء من خلال تقديم المساعدات المالية والفنية والمشورات والدعم العلمي، أو عبر برامج التبادل الأكاديمي والطلابي التي تتيح للطلاب والأساتذة السوريين الانفتاح على تجارب تعليمية دولية متنوعة تثري معارفهم وتصقل مهاراتهم.
كذلك، التعاون مع الجامعات والمؤسسات التعليمية العالمية يمكن أن يسهم في تحسين جودة التعليم، وتعزيز فرص الاعتراف الدولي بالشهادات السورية، وفتح آفاق جديدة للبحث العلمي المشترك، كما يجب علينا إدراك أن التعليم هو جسر للتواصل بين الشعوب، ويمكن أن يكون أداة فعالة لبناء السلام وتعزيز الاستقرار.
يجب أن تكون الجامعات السورية فضاءات للابتكار والتعددية، حيث يلتقي الطلاب من مختلف الخلفيات ليتعلموا معاً، ويتبادلوا الأفكار، ويعملوا من أجل مستقبل مشترك..
إعادة بناء التعليم العالي في سوريا ليست مجرد عملية ترميم لما تهدم، بل هي فرصة لإعادة التفكير في دور الجامعة في المجتمع، وإعادة تشكيل العلاقة بين المعرفة والتنمية، وبين التعليم والمواطنة.
يجب أن تكون الجامعات السورية فضاءات للابتكار والتعددية، حيث يلتقي الطلاب من مختلف الخلفيات ليتعلموا معاً، ويتبادلوا الأفكار، ويعملوا من أجل مستقبل مشترك، وإن تعزيز قيم التسامح والتعاون داخل الحرم الجامعي يمكن أن يسهم في بناء مجتمع أكثر تماسكًا واستقرارًا، ويمنح الأجيال القادمة الأدوات اللازمة لتحقيق أحلامها.
أخيراً يمكننا القول إن التعليم العالي هو المفتاح الذي يمكن أن يفتح أبواب الغد لأجيال سوريا وإذا كانت الحرب قد دمرت الكثير، فإن إعادة بناء التعليم يمكن أن تعيد الأمل، وتؤسس لنهضة حقيقية تنطلق من العقل والمعرفة، ويجب أن نعمل جميعاً، أفراداً ومؤسسات، محليين ودوليين، على دعم هذا القطاع الحيوي، لأنه لا مستقبل لسوريا من دون تعليم، ولا تنمية من دون جامعة، ولا سلام من دون معرفة.
المصدر: تلفزيون سوريا