سورية إلى أين..؟

ليست المخاطر على سورية حديثة العهد.. ولا هي وحيدة المصدر. ولا هي بسيطة التركيب. لا هي خارجية فقط ولا داخلية فقط. ليست أمنية فقط ولا سياسية أو حياتية فقط. ليست ثقافية أو اجتماعية فقط.. هي خليط متشابك من هذا كله. مشهد معقد التركيب متشابك التحديات متعدد المصادر. فلا سبيل لخلاص وطني إلا برؤية وطنية شاملة تشخص الواقع السوري كما هو وتحدد أولويات العمل الوطني وفق الظروف الراهنة والإمكانيات المتوفرة. تحدد أعداء سورية ومصادر قوتهم وأدواتهم في العمل. كما تحدد مصادر قوة العمل الوطني المخلص الانتماء إلى سورية الشعب والوطن والمشكلات التي تعيقها وتمنعها من الفعل والفعالية؛ ثم تضع برنامجًا مرحليًا تنفيذيًا تشارك فيه كل أطراف القوة الوطنية وأولها وفي طليعتها القوى الشعبية السورية أكانت منظمة في مؤسسات أو كانت متعددة التوزع الجغرافي والاجتماعي.

الأخطار الوجودية:

تواجه سورية أخطارًا وجودية واضحة ونافذة؛ تهدد وجودها من الأساس بدءًا من خطر انتفاء وحدة شعبها كجماعة وطنية واحدة متشابهة التكوين والتطلعات وانتهاء بخطر تفكيكها إلى دويلات ما يعني تفجيرها من الداخل ككيان سياسي – اجتماعي تاريخي موحد..

هذه الأخطار الوجودية تتصل اتصالًا وثيقًا وعميقًا بالتدخلات الخارجية التي تعبر عن أطماع دولية في سورية التاريخ والجغرافيا والمقدرات والدور الإقليمي.. هذه التدخلات التي تفتك بالجسد السوري وتكاد تتلاعب به إلى الحد الذي ربما يجعلها قادرة ولوحدها، على تحديد مستقبل الوطن السوري..

وعلى سبيل التذكير فقط فإن التدخلات الدولية قد بدأت تحقق أدوارها الوظيفية منذ بدايات القرن العشرين. ومنذ أن اقتطعت دول الاستعمار الغربي أجزاء كبيرة من سورية ووهبتها للجمهورية التركية الوليدة؛ وفق معاهدة سيفر سنة 1923 ثم اقتطاع لواء الإسكندرونة وإلحاقه بتركيا سنة 1939؛ وخطر التدخل الدولي ماثل للجميع عيانيًا وعمليًا. ولم يكن اغتصاب فلسطين إلا إضعافًا لسورية وتصغيرها تمهيدًا للانقضاض عليها. وعلى ضوء هذا تفهم مبادرة الضباط الوطنيين السوريين بطلب الوحدة الفورية مع مصر سنة 1958.. وعلى ضوئها أيضًا يفهم التكالب الدولي والإقليمي والمحلي لإسقاط الوحدة تمهيدًا للانقضاض على سورية وتقسيمها واقتسامها بين قوى النفوذ الأجنبي..

في كل تلك المراحل كان المجتمع السوري متماسكًا والشعب السوري موحدًا متجانسًا. رغم سنوات الدويلات التي أقامتها فرنسا رغمًا عن الإرادة الشعبية والتي ما لبثت أن فشلت وسقطت..

إلى أن أوصل النفوذ الأجنبي ذاته إلى حكم سورية – عبر سلسلة من التحولات والتحضيرات – نظامًا قام واستمر على عصبية طائفية أدت فيما أدت إليه إلى شرذمة الشعب السورية وتصنيع عصبيات دون الوطنية؛ طائفية وعرقية ومذهبية ومناطقية.. وهي التي تتلاعب بالأقدار السورية تحركها تدخلات وأدوات النفوذ الأجنبي والتدخلات الدولية..

إن أكثر من نصف قرن من انتفاء سلطة القانون أنتجت نوعًا من التباعد بين المواطن السوري والثقة بالدولة صاحبة السلطة في تطبيق القانون دون فساد أو محسوبيات..

إن أكثر من نصف قرن من القهر والقمع وتسلط أجهزة أمنية فاسدة؛ أوصلت المواطن السوري إلى نوع متأصل من رهاب القوة والنفور من أية ممارسات أمنية خارج نطاق القانون وحدود تطبيقه السليم..

إن أكثر من نصف قرن من إباحة المجتمع السوري لأجهزة القهر والقمع، أوصلت الكثيرين إلى الاستنجاد بقوى خارجية طلبًا للخلاص والحفاظ على الذات..

إن قرنًا كاملًا من الأطماع الأجنبية بما تملك من إمكانيات هائلة أنتجت تصنيع أدوات محلية تتمسك بالتدخل الأجنبي وتطلب حمايته تحت وهم الخلاص والحفاظ على الذات..

كما أن تدهور الأوضاع المعيشية والحياتية طيلة سنوات عديدة؛ أفسح المجال أمام القوى الطامعة المتربصة بالوطن السوري؛ لاستقطاب فعاليات ونخبًا وشخصيات تحت غطاءات مختلفة باتت اليوم تتبع القوى الدولية وترتهن لها ولسياساتها وما ترسمه لمستقبل سورية..

ويأتي دور الكيان الصهيوني الذي هو بالضرورة عدو خطير لسورية؛ فكان أن امتدت أياديه الخبيثة والعدوانية إلى الداخل المستباح والأدوات الرخيصة المرتهنة للنفوذ الأجنبي..

هكذا تسلمت الإدارة الجديدة مجتمعًا مفككًا وعصبيات انقسامية متأصلة ونخبًا تائهة ومشتتة وأدوات عسكرية متوزعة جغرافيًا تأتمر بالخارج الممول والمؤسس. ورثت جيشًا منحلًا ودولة مضمحلة وأزمات حياتية واقتصادية متضخمة وخزينة مفرغة بالسرقات والنهب. الأمر الذي وضعها في مرحلة مركبة معقدة من الواقع السوري وهي المقيدة بكل تلك الاعتبارات والوقائع..

إن الشهور التسعة التي انقضت من عمر الإدارة الجديدة بعد أن خلصت الشعب السوري من أخطر كابوس عرفه في حياته الممتدة؛ تظهر قدرًا من الارتباك في التعاطي مع كل التحديات والمخاطر التي تواجه سورية. كما قدرًا من تشوش الرؤية وضبابية المشهد وهو الذي أدى ويؤدي إلى ممارسات لا تصب في نهج إنقاذ سورية وحمايتها وبناء دولتها الوطنية.. يبدو هذا مرتبطًا بعدم امتلاك رؤية وطنية جامعة مانعة شاملة لمجمل الوضع السوري وتعقيداته. وقد كان من الممكن والضروري جدًا أيضًا؛ وضع مثل تلك الرؤية من خلال مؤتمر شعبي للحوار الوطني يضم الجميع ويسمح بالتفاعل الإيجابي البناء بين الجميع ليكون مبعث ثقة الجميع ومحل رجائهم وضمان مشاركتهم أيضًا. وهذا ما لم يوفره مؤتمر الحوار الذي نظمته الإدارة الجديدة على عجل ودون دراسة أو تحضير كافيين..

ثم كانت ممارسات غير مقبولة لبعض التشكيلات الأمنية الأمر الذي عزز عدم الثقة بين الكثيرين وعزز من مواقع ولهجة القوى المرتهنة للخارج والرافضة لأي مشروع وطني توحيدي جامع..

إن بناء جيش وطني ومؤسسات أمنية واضحة المعالم سورية الرؤية والمنهج وطنية الهوية والانتماء ، تشكل المقدمة الأساسية لاستعادة ثقة المواطن بالدولة واستعداده للتسليم لها بدورها المركزي ومسؤوليتها الوطنية. ولا يزال مثل هذا الهدف جوهرًا مطلوبًا للتأسيس لمرحلة من الانفراج الداخلي يتبعها الاستقرار والاطمئنان..

ولن تتحقق ثقة المواطن بالدولة ما لم يكن تطبيق القانون في كل الممارسات والمواقف هو السيد والحكم. إن أية ممارسات تحمل شبهة انحياز أو فئوية أو شخصانية، إنما تعزز فقدان ثقة المواطن بالدولة ونهجها وتوجهاتها. وهو الأمر الذي لا يصب في خدمة بناء دولة المواطنة وسيادة القانون..

إن تقييمًا شاملًا لكل مراحل ” الثورة ” وما حصل فيها أمر في غاية الأهمية لتحديد مكامن الخطأ وهواجس الظلم ومجالس الارتهان ومواضع الشبهة والمتاجرة والفساد؛ ومن ثم معرفة وتحديد من الذي ضحى لأجل الشعب والتغيير ومن الذي نافق وتاجر وكسب وإرتهن.. أهمية هذا في كونه المدخل السليم للاستعانة بالمخلصين الشرفاء الأكفاء من أبناء الوطن؛ في عملية التغيير وبناء السلطة الجديدة. إن معيار الولاء الحر للوطن هو الذي ينبغي التزامه والعمل به حتى لا تفتح آفاق جديدة للعودة إلى ممارسات شبيهة بما كان يعاني منه الشعب..

إن الأزمة الحياتية الخانقة التي يعيشها الشعب تستوجب أولوية قصوى؛ تواكب أولوية طمأنة الشعب على أمنه وحقوقه ومشاركته في تقرير مصيره وصنع مستقبله. إن حل المشكلات الحياتية اليومية لا تتم بالمشاريع الكبرى الاستهلاكية الفاخرة ولا بالتسويات الاقتصادية غير الواضحة.. وإنما بالاستعانة بالمختصين المخلصين من العقول الاقتصادية السورية لوضع برنامج متكامل للنهوض الاقتصادي..

وعلى ما يبدو فإن بعض الممارسات في تشكيل مؤسسات الدولة لا تأخذ بالاعتبار الكفاءة والولاء الوطني بحيث تتدخل فيها اعتبارات أخرى مختلفة سوف تحمل نتائج عكسية على مستوى المسيرة الوطنية في البناء والتغيير..

ومما لا شك فيه أن مصدر القوة الأساسي المتوفر ليس هو علاقات بالدول ولا بالخارج أيا كان، وإنما هو الشعب السوري بقواه الشبابية الحية وبقواه التي قدمت تضحيات ضخمة فداء لأهداف الثورة الشعبية. إن هذه القوة الشعبية هي القادرة وحدها على حماية التغيير والبناء السليم وهي وحدها الكفيلة والقادرة على تصويب أي خلل أو ضعف أو تشوه في مسيرة التغيير؛ والقادرة على ترشيد الممارسة وحماية التجربة من عوامل الضعف أكانت في التكوين الداخلي أو في الممارسات الخاطئة؛ وهي وحدها القادرة على محاصرة مفاعيل التدخلات الأجنبية وتحجيم آثارها وبالتالي تعزيز مساهمة الإدارة الجديدة في تغيير حقيقي وبناء متوازن مستقر ومستمر. مع العلم أن التغيير والبناء مسؤولية الشعب كله وما لم تفعل الإدارة إطارات المشاركة الشعبية الحقيقية فلن تستطيع لوحدها مواجهة كافة الأخطار والتحديات..

وعلى رغم الأخطاء الكثيرة، فلا نرى أن التصدي للإدارة الجديدة هو المنهج الأفضل والأفعل؛ فكل قوى الأعداء جاهزة متربصة بفعالياتها الخارجية وأدواتها المحلية؛ للانقضاض على سورية وتفعيل انقساماتها وتحويلها إلى كيانات متناحرة أو في أحسن الأحوال الاحتفاظ بالشكل التوحيدي لنظام يقوم على المحاصصات الطائفية والعرقية بحماية أجنبية تامة مع ما يعني ذلك من تفكك وانهيار يمتد عقودًا. كما هو حال العراق وقبله لبنان..

إن مسؤولية مصيرية تقع على عاتق كل أطراف القوة الشعبية بكل توجهاتها وانتماءاتها لتوحيد صفوفها وتفعيل دورها الإيجابي ومشاركتها كرقيب وحسيب ..حتى لا نندم جميعًا على أي تقصير أو انفعال أو تقاعس..

إن تفكيك العصبيات الانقسامية والرغبات الكيانية ليس أمرًا بسيطًا أو يسيرًا ولكنه جزء أساسي في مسيرة التغيير والبناء. وهنا مسؤولية الأغلبية على استيعاب تلك المشاعر وإعادة صهرها في بوتقة وطنية وهذا لا يتم إلا في إطار رؤية وطنية توحيدية جامعة وليس وفقًا لأية عصبية أكانت أصيلة أو إنتقامية أو انفعالية..

فالمخربون يستعدون وقوتهم لا يستهان بها. فماذا نحن فاعلون؟؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى