لم يحظَ السوريون بفرصة زمنية كافية لبناء هُويّة وطنية كاملة وناجزة، فعندما انفصلت بلاد الشام عن الإمبراطورية العثمانية المنهارة، كانت العروبة طاغية على عقول السوريين، ومن أسباب ذلك، أو من مظاهره، استيرادُ الأمير فيصل بن الشريف الحسين ملكاً على سورية الناشئة. وحتى العروبة لم تكن متخلّقة كانتماءٍ هوياتي بالمعنى الراهن للهويّة القائمة على المواطنة، لأنّ الدولة لم تكن قد تشكّلت بعد، إثر الاستقلال أو الانفصال، ولم يعْدُ ما كان قد جرى سوى محاولات لبناء دولة من عدم، وقد توقفت هذه المحاولات مع مجيء الانتداب الفرنسي الذي قضى على الحلم والمحاولات كلها.
كان التقسيم الأول ضربةً قاصمةً لنواة الهويّة العربية، من حيثُ هي تشكيلٌ ثقافي حضاري، يجمع أقواماً وشعوباً طالما اشتركت عبر مئات السنين بوحدة الجغرافيا والتاريخ، والمصالح، واللغة، والقيم، فبدأ الحلمُ كبيراً، وأخذ يتقلّص على مقاس الجسد المقسّم بخرائط “سايكس بيكو”، وبعد أن كانت الدولة الحلمُ تضمّ فلسطين ولبنان والأردن، باتت محصورةً برقعة جغرافية أصغر من أن تُقنع أهلها ذاتهم بحدودها الجديدة الغريبة. لا يزالُ قسمٌ وازنٌ جداً من السوريات والسوريين يئنّ من وطأة هذا الجرح الغائر في نفوسهم، رغم مرور مائة عامٍ عليه. لم يقتنع كثيرون منّا بعدُ أنّ الواقع أقسى من الأحلام، وأنّ ما ترسمه القوّة والمصالح الدولية أكبر مما تحمله ضمائر البشر وأبقى، وأنّه لا مجال لتغييره إلا بتغيّر هذه الظروف.
ثمّ جاء التقسيم الثاني ليزرع بذرة الشك بين مكونات الشعب السوري ذاته، فلم يعد السؤال الآن هل نحن عربٌ أم سوريون، وهل نشترك باللغة والتاريخ والثقافة والمصالح أم لا، بل هل نحن أكثريات وأقليات دينية وطائفية وقومية! غاب الكل، وحضر الجزء، ثم غاب الجزء وحضر الفتات، والفتاتُ لا يصنع كياناتٍ قابلة للعيش، ولا ينتج انتماءً لهوياتٍ مكتملة، ولا يحرّض على استقرار ذهني ونفسي مجتمعي. يوجِد الفتاتُ والتشرذمُ بحثاً دائماً عن التجميع والبناء والوحدة، وهذا يجعل السعي نحو الاستقرار أمراً دائماً من دون الثقة بإمكانية الوصول إليه، ولأنّ البشر لا يمكن أن يعيشوا فرادى، بل لا بدّ لهم من جماعاتٍ ينتمون إليها، ولأنّ الجماعات تصنع الهوية المشتركة بين أفرادها المتقاربين بما يجمعهم، فقد تشكّلت هوياتٌ صغرى أو محلية، وتكرّست هوياتٌ عشائريةٌ وقبلية وطائفية قبل أن تُبنى الدولة ذاتها.
تنازعَ السوريينَ هاجسُ الفرقة، فبقوا متفرّقين، منهم من يرى في الكيان السياسي المتحقق بعد سلب اللواء وإعادة توحيد الدويلات في سورية السياسية الراهنة مجرّد محطةٍ نحو سورية الكبرى. ومنهم من يراها خطوة نحو وطن عربي ودولة عربية كبرى. ومنهم من يراها مزرعة لا أكثر، استولى عليها في غفلة من الزمن لصوصٌ وشراذمُ باسم الأيديولوجيا القومية وفق شعاراتٍ لا تسمن ولا تغني من جوع. وما قام به اللصوص أولئك هو نهبُ الأصول ومنع استنباتها مجدّداً، فلم يبق من أسس الدولة مرفقٌ لم ينخره الفساد، ولم يبق من جسد الأمة جزءٌ لم ينهشه الصدأ والاهتراء.
أصبحت تلك المزرعة، مع الأيامِ، طاردة للكفاءات من أهلها، لا بل مع تقادم الزمن على سلطات الاستبداد باتت طاردة للجميع، بشراً ورؤوس أموالٍ وأفكاراً، وحتى الأحلامُ باتت تنفُرُ من هذه الأرض. وعندما لا يحلمُ الناس في بلدهم، أو عندما يتعذّر عليهم الحلم فيها، فإنه يكون من المستحيل عليهم تشكيل هُويّة جامعة، فلا المواطنة، بما هي إطارٌ من العلاقة الجدلية بين الحقوق والواجبات، موجودة لتجمعهم وتُنْشِئ هويتهم، ولا حماسة لديهم لبناء علاقة مع الآخرين ممن لا تربطهم بهم سوى علاقات الإكراه والإجبار على السكن المشترك، إنها دوّامةٌ متكاملة من الضياع والفقد وخيبة الأمل.
ما الذي يجمع الكرد والعرب الآن في سورية، بعد كثيرِ الدماء التي سالت منذ عشرة أعوامٍ وأكثر؟ ما الذي يمكن أن يجعل العلوي مقبولاً في السويداء أو في حمص أو في درعا أو دير الزور؟ وهل يمكن للشيعي العيش في دوما أو حرستا؟ وهل يمكن لابن الزبداني السفر إلى جبلة؟ هذا الخوف الممزوج برائحة الدماء والبارود، هذا الشقّ الفاغر فمه بفعل الحراب والسكاكين، هذه الحفر المملوءة بالجثث، لا يمكن أن يلغيها أو يرتقها أو يطمرها شيء بعد الآن، فكيف سنبني هُويّة سورية بعد كل هذا الخراب؟ سؤال اللحظة الراهنة والمستقبل القريب والبعيد، ويجب الإجابة عليه أو محاولة ذلك على الأقل.
والآن، يمكن القول إنّه قد حان الوقت للتفكير بحلول لهذا الضياع، صحيحٌ أنّ الحرب قد أتت على منطق التفكير السليم قبل أن تأتي على البشر والحجر، لكنها فتحت الأذهان على أسئلة وجودية كبرى في الوقت نفسه، والإجابة عليها بحاجة لإعادة الاعتبار لمجموعة من القيم والمبادئ التي لا غنى عنها لتأسيس هويّة وطنية سورية جديدة. وهنا يجب أن يتكامل الجهد في السعي إلى بناء الهوية مع السعي إلى الخلاص من الاستبداد وإعادة بناء الدولة. البحثُ عن المشتركات الموجودة أصلاً، ومن ثمّ إبرازُها وإظهارُ قيمتها، والبحث عن المصالح المشتركة أيضاً، وهي كثيرة جداً، والبحث عن عناصر الفرادة لجعلها قيماً أصيلة تضيف للهوية السورية، ولا تنتقص منها، ومن ثمّ الاتفاق على أسس حماية هذه العناصر وتطويرها وتعزيزها، هذا كلّه جزء من الطريق إلى بناء الدولة والأمة والهوية.
لا شيء يمنع من أن تكون للسوريين هويات فرعية إلى جانب هويتهم الوطنية السورية القائمة على مبدأ المواطنة المتساوية، فالعروبة قيمة ثقافية حضارية مضافة للعرب السوريين، وكذلك أي انتماء قومي آخر، كردي أو تركماني أو شركسي أو أرمني أو شيشاني أو غيره، والإسلام قيمة عليا جامعة للمسلمين، وكذلك المسيحية واليهودية. لا شيء يمنعني من الفخر بعروبتي وبإسلامي، انتماءين ثقافيين حضاريين، وبانتمائي لمدينتي درعا أو دير الزور أو حمص أو دمشق، ما دمت أجد في هُويتي السورية وعاءً جامعاً يربطني بالدولة، وبغيري من المواطنين على قدم المساواة. والشيء نفسه بالنسبة لغيري من السوريات والسوريين، فالتنوّع إذا قام على أسس متينة من الاحترام المتبادل والاعتراف الحقيقي هو ثراءٌ ونعمة لا خواءٌ ونقمة.
لقد آن الأوان للعمل على بناء الهُوية الوطنية السورية، بالتكامل مع الهويات الفرعية الأخرى لأهل سورية، وإن لم نفعل الآن، سنبقى ضائعين في البحث عن الهويّة المفقودة، وسيستمر تيهنا دهوراً لا يعلم مداها سوى الله.
المصدر: العربي الجديد