منذ فجر بزوغ الهوية السورية في مطلع القرن العشرين وتحولها من مجرد فكرة إلى رابطة وطنية في العهد الفيصلي بين 1918 – 1920 لم تنشأ الهوية السورية معارضة للهوية العربية بل مكملة لها، وقد عبرت في العهد الفيصلي عن الرابطة الوطنية لمشروع الدولة في بلاد الشام (سورية الكبرى) والذي جسدته الدولة العربية السورية( المملكة العربية السورية كما أسماها المؤتمر السوري العام وكما وردت في دستور 1920) فالهوية السورية في نشأتها الواقعية كانت هوية المواطنين العرب الذين اختاروا هذه البقعة الجغرافية والتي رسمت حدودها التوازنات الدولية الخارجة عن إرادتهم، وقبلوا بتلك الحدود كوطن ريثما تتغير التوازنات الدولية ويتاح لهم تحقيق هدفهم في وحدة عربية أشمل، وهذا ماعبر عنه شكري القوتلي حين رفع العلم السوري في يوم الجلاء قائلًا: لن يرتفع عليه علم سوى علم الوحدة العربية .
لم تكن الهوية العربية النابعة من العمق التاريخي – الثقافي والذي يشمل اللغة والإسلام والأدب والفنون والفكر تشعر بمنافسة الهوية السورية النابعة من فكرة المواطنة والدولة .
ورضا السوريين بعلمهم ونشيدهم ودولتهم بحدودها ودستورها استمر يترسخ عبر الأجيال دون أن ينفي انتماءهم العربي، فالهويتان تأتيان من مصدرين مختلفين متكاملين، أما كيف فهم البعض العلاقة بينهما فهو أمر آخر .
في المرحلة الأولى وأعني بها مرحلة بزوغ الهوية السورية في العهد الفيصلي لايمكن أن تجد تمايزًا واضحًا بين تيار فكري – سياسي سوري وتيار فكري – سياسي قومي عربي، وحتى التيار الإسلامي الإصلاحي كان يتقبل دون تردد الهويتين العربية والسورية.
فالشيخ رشيد رضا رئيس المؤتمر السوري العام كان إسلاميًا إصلاحيًا وعروبيًا وسوريًا بذات الوقت، وكذلك الشيخ كامل القصاب الزعيم الشعبي ورئيس اللجنة العليا للدفاع. لم تكن هناك أي مشكلة في أن تكون إسلاميًا وعروبيًا وسوريًا في تلك الحقبة التاريخية الهامة عندما كان السوريون أحرارًا في اختيار انتماءاتهم وهوياتهم .
وفي عهد الانتداب ومع السيطرة العسكرية والادارية لفرنسا على سورية وتقسيمها إلى خمسة دول ومحاولة توليد خمسة هويات على أسس طائفية ومناطقية صعدت الهوية السورية كهوية مواجهة وطنية للمشروع التقسيمي الفرنسي، وتمكنت بعد كفاح مرير من إفشال ذلك المشروع وترسخت كهوية وطنية في خضم ذلك الكفاح السلمي – السياسي والعسكري – الثوري .
وهكذا خرجت سورية من عهد الانتداب باسم الجمهورية السورية لتؤكد انتصار الهوية السورية على الهويات التقسيمية التي حاولت فرنسا اصطناعها وترسيخها دون جدوى .
لكن ذلك لم يكن يعني قط في الوجدان الشعبي استبدال الهوية العربية أو إسقاطها، وشهدت المرحلة اللاحقة مدًا شعبيًا كاسحًا باتجاه الوحدة العربية بلغ ذروته في وحدة مصر وسورية عام 1958 .
ومع ذلك المد نشأت وتعاظمت التيارات القومية العربية لكنها مالبثت أن انتكست مع انتكاسة الوحدة والانفصال عام 1961 .
دخلت سورية مع العام 1963 في مرحلة مختلفة تمامًا عن تاريخها السابق، تضمنت تحول الحكم إلى حكم عسكري – استبدادي عمل لإفراغ مفهوم الوحدة وتشويهه، وتكريس العزلة والانفصال والمتاجرة بالفكرة القومية، والتمييز في التعامل مع الأكراد السوريين، وتسبب كل ذلك في التمهيد لتيار ثقافي يرى تناقضًا بين الهوية العربية والهوية السورية، مستندًا إلى ممارسات النظام الذي يحكم سورية منذ ستين عامًا .
لكننا نرى اليوم أن الهوية العربية ليست حقيقة تاريخية عميقة الجذور لايمكن تجاوزها فقط، ولكنها الدرع والملاذ للهوية السورية أيضًا، ففي مواجهة الواقع الانقسامي على الأرض، والذي تحاول بعض الدوائر الغربية تكريسه، تنهض الهوية العربية لحماية وحدة سورية كما نشاهد في (ثورة العشائر العربية) في شرق سورية وشمالها، وفي السويداء أيضًا، حين يعلو صوت الشيخ الجليل حكمت الهجري قائلاً نحن سوريون ونحن عرب، والهوية العربية لاتجد تناقضًا مع الهوية السورية كما كانت في نشأتها، وليست موجهة بحال من الأحوال ضد الهوية الكردية، بل تجمعها بها الهوية الوطنية السورية والتاريخ المشترك أيضًا .
الهوية العربية ليست حقيقة لاتقبل النفي أو التجاهل فقط لكنها ضرورة مصيرية لدعم الهوية السورية ذاتها، فتجريد الهوية السورية من عمقها العربي يضعها في موقف أضعف تجاه أي دعوة انفصالية، والتهديد الواقعي لوحدة سورية يأتي من تصعيد الطائفية قبل أي شيء آخر، تلك الطائفية التي تحتاج لمواجهتها ليس فقط الهوية السورية، ولكن الهوية العربية التي تشكل الجامع اللغوي والثقافي والتاريخي لجميع الطوائف في سورية .