مؤخّراً، كأن بعض النخبة التركية عاد إلى مفاهيم عثمانية، تتحدّث عن الحدود الجنوبية الشرقية، وتذكر حتى» الميثاق الملي»، الذي أقرّه آخر اجتماع لمجلس المبعوثان العثماني- عام 1920- قبل صرفه من الخدمة. يذكر هذا الميثاق أن الحدود الجنوبية الشرقية لتركيا تضمّ حلب والموصل وغيرهما، وهذا يبرّر تمدّد العمليات العسكرية هناك، لتغدو تطويراً لاتفاق أضنة الذي عقدته الأجهزة الأمنية في سوريا وتركيا منذ أواخر القرن الماضي، ويسمح لتركيا بملاحقة «أعدائها» داخل الحدود لمسافة خمسة كيلومترات.
والشيء بالشيء يُذكر: ربّما كان السيد المسيح؛ حين قال لأحد الأشخاص مُعَمِّماً «أنكر أباك وأمك… واتبعني»؛ يقصد أن هنالك هويّة جديدة وثقافة جامعة حديثة للمُخاطَب، تغنيه عن هويّته المكتسبة بالنسب، أو تضعف من مكانتها على الأقل. وكثير من الانتماءات التي تقدمت مع تقدّم التاريخ كانت كذلك.
هنالك أحاديث كثيرة ومتشعبة بين السوريين خصوصاً، حول» الهوية» و»الهوية الوطنية» مع إضافة صفة «الجامعة» أحياناً، و»الهوية السورية».. عاريةً. هذا حديث كان مكتوماً تحت ضغط أصوات مارشات عسكرية عالية منذ أوائل القرن الماضي. ليس هناك بلد عربي كان بعض أهله لا يدعمون الانتماء إليه، كما في سوريا، قلب العروبة النابض. لم يكن نادراً أبداً أن يقول السوري حين يُسأل عن انتمائه في أوروبا أو على الحدود: «أنا عربي»؛ كما قالها محمود درويش قديماً، ولم يقل» أنا فلسطيني»، كما درج لاحقاً. كأن السوري سابقاً كان يشعر بنوع من العار إن قال «أنا سوري». يهرب إلى القول» أنا عربي سوري» بعدما قام نظام الانفصال عن مصر باللجوء إلى هذا التعويض السحري، وأطلق على البلاد اسم «الجمهورية العربية السورية». لم يأبه أحد آنذاك بحَرَج الذين ليسوا عرباً، أو لا يريدون أن يكونوا إلّا سوريين وحسب. ما زالت ظاهرة من نوع «الغروتسك» أن يقول كردي أو آشوري مثلاً «أنا عربي سوري». لم تنضج حدود سوريا على شكلها الحالي حتى عام 1937 تقريباً، وكان آخر تعديل آنئذٍ «سلخ» لواء إسكندرون بالاتفاق بين الفرنسيين والأتراك. أرادوا كسب تركيا إلى جانبهم في الحرب العالمية المقبلة. «ولاية سوريا» أو الشام العثمانية كانت تضمّ سوريا من جنوب معرة النعمان لتمرّ في حماة وحمص ودمشق وصولاً إلى خليج العقبة؛ وتستثني البادية و»متصرفية الزور» أيضاً، بالإضافة إلى ولاية حلب وغربها وشرقها. ما حدث بالنسبة للحدود وقتها – بين الأعوام 1918و1924 كان عاصفاً. لكنّه الزمن الحديث، والدول – الأمم الحديثة، والقانون الدولي.
في إرث تلك الأيام، لم يجد السوريون حلّاً لمشكلة الهوية إلّا بالدعوة لتمليك فردٍ من الأسرة الهاشمية ملكاً عليهم؛ الأمير فيصل من السلالة الشريفية التي كانت تحكم مكة حتى تغلّب عليها سلطان نجد. كلّ دعوات وأفكار المفاوضات مع البريطانيين وغيرهم كانت من عند النخبة السورية – العراقية، التي قصم جمال باشا ظهرها بإعداماته قبيل ذلك. ولكنّ ما حدث بالفعل كان تأسيساً على اتفاق سايكس – بيكو ثمْ تعديلاته العملية. ومن يومها والسوريون يفرغون غضبهم في رأس هذين الشخصين. حالياً، أصبح الحفاظ على ما ورثناه من ذلك العهد هدفاً صعباً، وغدا من الضروري أن يُقال إن انتماءنا سوري، وأن» الأمة» سوريةٌ في هذه الدولة كما في كلّ العالم، ولسنا سوريين من «أمة عربية». هذا لا ينفي الرابط الثقافي العميق بين العرب كلّهم، ولو بشكلٍ متفاوت في شدّته. لو استطعنا أن نحافظ على ما جاءنا من أيام الاستعمار والانتداب وسايكس بيكو كنا سنكون محظوظين، نحن المعلَّقين بين أسنّة الحراب وعليها حتى الآن.
السوريون هم من تضمّهم تلك الحدود، ولا اعتبار للقول إن هنالك سوريين أكثر وسوريين أقلّ. لو فعلنا ذلك سنصطدم جميعاً، كحادثة سير جماعية في منزلق جبلي على طريق يملؤها الثلج المتراكم وقد استحال جليداً. يقول بعض «العرب السنة» بعد أن زالت الفوارق بين المفهومين، إنهم «الأمة» والباقين هامشيون وعملاء وأعداء، بل يستنبطون نوعاً مستحدثاً من مفهوم أهل الذمة معه هؤلاء. يقول السريان إنهم الأصل، وقد جاء اسم سوريا من تاريخهم ولغتهم، والآشوريون مثلهم. يقول الكرد إن كردستان أقدم وأوسع من كل ما يعترف به الآخرون، ويعمّمون غضبهم من التهميش «العربي» إلى غضب من الانتماء السوري نفسه…
سوريا منطقة انتقالية، لجأ إليها كثيرون عبر التاريخ، وبقي فيها كثيرون وهم على الطريق بين بلاد وبلاد. العروبة والإسلام السني هي الطابع العام للسكان، في تداخل في المدن خصوصاً، مع آخرين من كلّ الأطياف. صحيح أن أنظمة التهميش المتتالية استطاعت تقليص نسبة تلك الأطياف بين السكان بنجاح، إلّا أن انتماء الكلّ بقي إلى سوريا، ولو كان بعضهم في أقصى الأرض.
وبمناسبة الحديث عن الأكثريات والأقليات، راج في زمن الثورة السورية الثاني؛ عندما بدأت ألوانها تَحُوْل وتتغيّر؛ حديث عن العشائر والقبائل واسع النطاق، يقول بعض أهله إن سبعين في المئة من أهل سوريا هم من القبائل والعشائر. فحلّ المعضلة السورية ينبغي أن يأتي من إدراك ذلك والاعتماد عليه. ينسى هؤلاء مسار سوريا التاريخي في المدنية والمدينية، وأن العمود الفقري لتلك البلاد قائم شاقولي في مدن يمتد تاريخها إلى عشرات القرون. ذلك العمود الفقري كان وما زال يضم معظم السوريين أساساً، وأهم خصائصهم الروح الفردية والطموح والحرية والكرامة، التي امتهنها حكم حزب البعث وآل الأسد حتى سواد المجزرة. هنالك من يفتخر بنسبه الأصلي حتى في أعمق الأحياء المدينية، بل إن معظم عائلات تلك البيئة تصل بنسبها إلى الشريفية، مع أن كثيراً منها ليست بالأساس عربية. إن النسق الغالب هو نمط المدينة، وحلّ المسألة السورية لا بدّ أن يستند إلى هذه الحقيقة – وحقيقة التنوّع – من أجل تسهيل وتحسين فرص ذلك الحلّ وطبيعته، مهما امتدّت الحرب التي تستقوي بأكثر العصبيات إثارة للحمية وللحماسة في القتال.
من بين الأمثلة على حالة التراجع التي وصلت إليها سوريا، بعد مجازر الأسد ونهر الدماء التي سالت، وجلاء نصف أهلها من حيث كانوا، وخراب البلد واجتماعه واقتصاده وسياسته ودولته؛ ما رأيناه من أطروحات تردّ على دعوة إلى الجنوح للسلم والحوار بعد التهديدات التركية الراهنة بـ»عملية عسكرية واحدة أو على مراحل» في شمال سوريا كله، ثمّ استخدام تلك المنطقة لإعادة اللاجئين وتوطينهم على الحدود هناك، في عمق يتناسب مع أمان «المنطقة الآمنة» التي تريدها الحكومة التركية. أشدّ الاعتراضات على ذلك النداء كانت ممّن يقول إن المقصود منه هو الدفاع عن قوات سوريا الديمقراطية وحسب، وإن هذه ما هي إلّا واجهة لحزب العمال الكردستاني التركي المصنف إرهابياً من كثير من الدول، وإنه يغفل المطالبة برحيل ذلك الحزب الغريب، ومن ثمْ رحيل «قسد» و»مسد»، المحتلين الذين جاؤوا من «الخارج». النداء مرفوض من هذا البعض لذلك السبب، لا تمرّره لديهم لغته السلمية ولا دعوته إلى استبدال أجواء الحروب والحركات الديموغرافية وتحطيم فرص سوريا بالحياة بالحوار وتحكيم القانون الدولي والقانون الإنساني وتأمين أجواء تساعد على حسن الجوار بين من اعتادوا عليه منذ زمن طويل. لا يتنافى هذا المنطق مع الاعتراف بوجود أيدٍ لحزب العمال الكردستاني التركي، المعتصم في أعالي جبال قنديل العراقية، في شمال سوريا، وعلى هامش مجلس سوريا الديمقراطية التي يشكّل نواتها حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي/ السوري مهما اختلفنا معه)، مع قوى أخرى ومجموعات ليست قليلة من العرب والسريان وغيرهم. لكنّ محاربة حزب العمال ومواجهته ينبغي لها أن لا تكون على حساب سوريا والسوريين. تلك ذريعة نعرف أمثلة تشبهها في تاريخنا السوري والعربي عموماً. إن المطالبة بإنهاء وجود ونفوذ وتأثير حزب العمال من الأرض السورية مطلب حق له مكانه، ولكنّ المنطق السياسي يحتّم أحياناً فصل الأمور وتركيزها حتى يكون الإجماع عليها أكثر سهولة ويسراً، ولكلّ وقت أذانه! وبؤرة الاهتمام الحالية هي التهديد الداهم.
أخيراً، تكاد السياسات الانتخابية تخرب العالم الحديث بانفلاتها المفتوح، من الولايات المتحدة إلى تركيا وغيرهما، وينبغي لذلك أن يحفز على ثورة سياسية دولية توقف هذا الخطر! وتكاد الاستراتيجيات الانتخابية في تركيا أن تكون مغلِّفاً خفيّاً لكل الاستراتيجيات.
المصدر: القدس العربي