
يعيش الإنسان العربي ظروفًا استثنائية في حياته ومتطلبات أمنه ومعيشته كما في مجال وعيه ومعرفته وبالتالي قدرته على اتباع الطريق السليم الذي يحميه أولا ثم يضمن له حياة مستقرة وطمأنينة يستطيع في ظلها ممارسة عمله بحرية واستقرار. وهذا الجانب المتعلق بمجالات المعرفة والوعي وتوجيه الرأي أو صناعته هو الأخطر بلا شك ..فعلى ضوئه يتخذ الإنسان مواقفه من شؤون الحياة وشجونها وما تتعرض له من تحديات وأخطار تحتاج منه التصدي لها سلبا أو إيجابا : رفضا او قبولا ..وعلى ضوء ما يتمتع به أو يتاح له من معرفة بالحقائق وخلفيات الأحداث وطبائع ما يقف خلفها من مصالح وارتباطات وقيود ؛ فإنه يتصرف قولا وفعلا ليكون حاضرا أو غائبا..حاضرا إن إتخذ مواقف قولية وعملية مما يجري حوله من أحداث..وقد يتخذ موقفا قوليا فقط حين لا يجرؤ على المواقف العملية سواء بسبب الخوف من القمع والقهر والاضطهاد أو بسبب غياب الأطر المؤسسية التي تستطيع تحويل وعيه الى عمل وتحويل مواقفه القولية إلى حركة تنفيذية..وقد لا يستطيع أو يجرؤ حتى على إتخاذ مواقف قولية فقط بسبب من القمع القائم على مصادرة كل حق في التعبير حينما لا يكون مواليا أو منسجما مع رغبة قوى الأمر الواقع السائدة المتحكمة..وهنا يصبح غائبا تماما عن أي فعل أو حتى قول..فيمتنع عن ألإعلان عما يريد قوله أو يعتلج في صدره من عواطف وإنفعالات أو حتى عما يراه مصلحة حياتية أو ضرورة وجودية له ولمجتمعه وبلده وهويته..فيصبح إنسانا هامشيا أو مهمشا لا دور له ولا رأي وبالتالي يفرض عليه ما يراد له من قوى النفوذ والتأثير وصناعة الوعي وتوجيه الرأي العام حسبما تقتضيه ضرورات السياسة وأصحابها ومصالحها ..وهذا حال معظمنا أو الكثيرين منا..ولعل هذا يفسر بعض جوانب العجز الشعبي العربي الراهن حيال ما تتعرض له فلسطين من عدوان تدميري منهجي متصاعد خطير..
ليس هذا فقط بل إن الإنسان العربي – عموما – يتعرض لضغوط هائلة في شتى مجالات الحياة ؛ لإبقائه مغيبا مهمشا أو هامشيا غائبا..سواء بسواء..النتيجة أن يبقى مستبعدا لا يملك شيئا من الفعالية حتى وإن أراد..فهو إما أن يبقى خارج إطار الحساب والفعل والتأثير – رغما عنه – أو ينخرط في إطارات من الفعل السلبي الذي يسلبه إرادته فيسوقه إلى حيث تريد مصالح السياسة له أن يكون..فيبقى مستبعدا مهمشا ..والأخطر من كل هذا أن يصبح مشاركا في الفعل المضاد لمصلحته الحقيقية ومستقبله الصحيح دون وعي منه بل عن جهل ناجم عن قصور في المعرفة وفي القدرة على التقدير نتيجة الكم الهائل من التسويق التجميلي المزخرف الذي يتعرض له يوميا فيأخذه إلى حيث يريد الآخرون منه ..فيصبح قوة فعل مضافة إلى قوة من يقفون في مواجهته يستخدمونها لمزيد من القهر والقمع ومصادرة الرأي وإغتصاب العقل وسرقة الموارد وتشتيت القدرات وتعزيز السلبية والإنقسام..
إن القوى المعادية لتقدم الإنسان العربي ، المحلية والإقليمية والدولية ، تتناغم أدوارها وتتكامل لتحقيق ذلك التهميش المتعمد لدور الإنسان وفعاليته الإجتماعية والوطنية..يتحقق لها ما تريد من خلال إغراقه بكم هائل من مشكلات الحياة اليومية التي تضمن أمرين أساسيين :
الأول : إستنزاف كامل طاقاته الذهنية والحركية في تلبية إحتياجاته الحياتية وما يتفرع عنها وما تستدعيه من إستنفار كامل..
الثاني : إلهاؤه عن التفكير والإهتمام بالقضايا الوطنية العامة التي تجري حوله وتحدد مصيره ومستقبله..وحتى إن أراد ذلك فلن يستطيع..
وحتى إن توفرت له معرفة حقائق الأمور والأحداث لن يستطيع القيام بأي فعل لكونه مستنزفا أو خائفا أو مضطهدا محاصرا مستهدفا..فكيف إذا كان مغيبا عن الحقائق مستهدفا في وعيه فضلا عن وقته وجهده وطاقته وفكره..وهذا ما هو قائم مع الأغلبية الساحقة من أبناء بلادنا ..
إن نظرة عامة فاحصة لما يقدم للإنسان العربي من معرفة وافكار ومعلومات ورؤى وتحليلات ؛ تفسر ما يتخبط فيه من ضياع وتشتت وعجز عن الفعل وسلبية عامة تجاه أحداث مصيرية تحدد مستقبله وتهدده لعقود قادمة..
ففي مقابل آلاف المصادر المتنوعة التي تسوق لما يسمى ” السلام ” كمقدمة لتحضير نفسي للإنسان العربي لتقبل فكرة وجود دولة الكيان الصهيوني كدولة طبيعية في المنطقة يمكن التعامل معها أقله كأمر واقع لا يمكن تجاهله ولا يمكن تغييره حتى إن أراد ، وفقا لمعطيات القوة وموازينها ؛ لا يوجد سوى أقلية ضئيلة من المصادر المقابلة التي تشرح خطورة المشروع الصهيوني على كل العرب وليس على فلسطين فقط أو بعض العرب دون غيرهم..
اقلية ضئيلة ممن ينبهون الناس من أوهام السلام المزعوم وإستحالة تحقيقه حتى وإن ” أردناه ” خيارا لحياتنا ومستقبل بلادنا العربية ..
حتى أن المصادر الفلسطينية ذاتها ليس فيها ما يكفي لشرح المشروع الصهيوني وأبعاده الإستعمارية الشاملة للبلاد العربية جميعا وهويتها ووحدة مصيرها ومواردها..
كما ليس فيها ما يكفي لخلق وعي شعبي عربي مضاد لأوهام السلام ومخاطر التطبيع وسلبياته الكثيرة على المصالح العربية فضلا على الوجود العربي الشامل..
لم يكن هكذا هو الحال في سنوات خلت قبل عقود..فقد كانت مؤسسات فلسطينية- مؤسسة الدراسات الفلسطينية التي عرفت أوج إزدهارها وأهميتها تحت إشراف الراحل المرحوم أنيس صايغ – تتبع منظمة التحرير تغطي الحاجة المستمرة لمثل هذا الشرح عن المشروع الصهيوني وأخطاره وزيف إدعاءاته الدينية والتاريخية فضلا عن إرتباطه بالحركة الإستعمارية وإنبثاقه من رحمها وعمله في خدمة أهدافها التخريبية..وكانت مؤسسة الأرض تحت إشراف الراحل المرحوم حبيب قهوجي ؛ وما تصدره من نشرة دورية وكتب وأبحاث تلبي جانبا اساسيا ومهما من ذلك الشرح المطلوب بما في ذلك دراسة ومعرفة أحوال العدو السكانية والعسكرية والسياسية.. ومنذ أتفاق أوسلو المشؤوم تضاءل عملها جميعا حتى يكاد يكون شبه محصور في اوساط أكاديمية ضيقة بعيدا عن الإنتشار في الأوساط الشعبية..الأمر الذي ترك فراغا لا يزال قائما وبحاجة ماسة لملئه وسد فجوة في الفكر السياسي العربي الراهن وما يتعلق منه تحديدا بالصراع العربي الفلسطيني..
وقد أدى مثل هذا الفراغ الفكري – الثقافي إلى صعود تفسيرات دينية لطبيعة الصراع ظلت قاصرة عن رؤية أبعاده الإستعمارية الشاملة فحصرته في الجانب الديني فقط..وهذا ما ساهم في تغشية عيون كثيرة عن رؤية الخطر الصهيوني بأبعاده المتكاملة..حتى أن الحركات ذات الطابع الديني والتي تناهض المشروع الصهيوني وتقاتله وتتصدى له ؛ أغفلت أهمية نشر وعي شعبي متكامل بخطر العقيدة الصهيونية وأبعادها وخلفياتها المدمرة والتوسعية الشاملة..
لدرجة أن أية دراسات شاملة عن المشروع الصهيوني موجهة للإنسان العربي لم تصدر عن أحزاب وقوى ” المقاومة ” فأبقت مفاهيمها ضمن أطر المقولات الدينية الشعائرية العامة( رغم التضحيات الكبيرة التي قدمتها )..وهو ما سمح لقوى إقليمية غير عربية بتوظيفها لخدمة أهداف بعيدة عن تحرير الأرض والإنسان بل أحكمت رباطه إلى مفاهيمها الدينية البحتة مما ساهم – ولو جزئيا – في منع توسيع إطارات شعبية للمقاومة الشاملة للمشروع الصهيوني..
وكان لغياب أو ضعف الشرح الوافي لبيان خطر المشروع الصهيوني على جميع الأمة أرضا وشعبا وموارد وهوية ومقومات ؛ أن نجحت مساعي حصر الصراع بالجانب الفلسطيني وبالتالي تحميل مسؤولية ردع العدوان للقوى الفلسطينية وحدها..وهذا بدوره ساهم ولو جزئيا في إزاحة بعض أجزاء الشعب العربي عن مسؤولياتهم التاريخية المصيرية في مواجهة الخطر الصهيوني تحت وهم أنه شأن فلسطيني بحت..
إن ما تقوم به مصادر نشر الوعي المزيف بالسلام مع العدو الصهيوني ، من مؤسسات إعلامية واسعة الإنتشار وعظيمة الإمكانيات والتأثير ؛ وما يتبعها ويكملها من مراكز دراسات وأبحاث ومن نخب ثقافية وقوى وفعاليات أقتصادية ترتبط مصالحها بمصالح الرأسمالية العالمية صاحبة النفوذ الخطير في كل ميدان ومجال ؛ يزين للناس الرغبة في السلام تحت دعاوى الأمر الواقع والتعب والحاجة للراحة والإستقرار والخلاص من كل منغصات الحياة الآمنة المطمئنة ؛ مستغلا حاجتهم للأمن والأمن وخاصة أؤلئك الذين انهكتهم قوى القهر والسلطان فأفقدتهم القدرة على التحمل وصرفت عنهم كل أسباب القوة ومقومات المناعة؛ الأمر الذي جعلهم يتقبلون مرغمين أفكار السلام والإعتراف والتطبيع مع كيان العدو ودولته ..
إن اختلالا خطيرا في موازين القوة والقدرة والإمكانيات، ما بين قوى الأمر الواقع ومن يواجهها من قوى الوعي والتأثير الوطني المضاد ؛ لصالح الأولى ؛ يسمح لها بإمكانية التأثير النفسي والفكري على الكثيرين ممن تنقصهم الثقافة المتكاملة التي تخلق وعيا وإلتزاما ؛ فتضعهم في خانة المتعبين القابلين بقبول الأمر الواقع ووجود دولة تسمى ” إسرائيل ” في ” الإقليم ” كما يستخدم دعاة ” السلام ” عوضا عن القول في البلاد العربية..وهذا التعبير بحد ذاته يحمل أعترافا وقبولا بدولة العدو..
إن مهمة ملحة ملقاة على عاتق كل عربي مؤمن بفلسطين أرضا عربية حرة وكل فلسطيني يرفض احتلال أرضه ؛ تتمثل في إعادة الوعي العربي بحقيقة المشروع الصهيوني..وهذا يتطلب أولا تصحيح مفهوم المقاومة وتحريره مما علق به من شوائب في السنوات الأخيرة ؛ ومؤسسات بحثية عربية ذات توجه تحرري مقاوم متكاملة مع قوى شعبية تسعى للتقدم العربي القائم على تحرير الأرض وتحرير الإنسان معا..
المصدر: كل العرب