
احتضنت العاصمة الفرنسية باريس اجتماعاً غير مسبوق بين وفدين من سوريا وإسرائيل، ضمّ ممثلين عن وزارتي الخارجية والاستخبارات في الجانبين، بوساطة أميركية، تزامناً مع تصاعد التوتر جنوبي سوريا والتطورات الأمنية في محافظة السويداء.
وأكد مصدر دبلوماسي سوري أن الاجتماع استمر أربع ساعات، وناقش التصعيد العسكري الإسرائيلي الأخير في الجنوب السوري، إضافة إلى الأوضاع الأمنية في السويداء. وحمّلت دمشق إسرائيل مسؤولية التصعيد، لكنها أبدت استعدادها المشروط للعودة إلى اتفاقية فضّ الاشتباك لعام 1974، في حال توفرت ضمانات دولية.
وشدد الوفد السوري على ثوابت وطنية، وعلى رأسها وحدة الأراضي السورية ورفض أي وجود أجنبي غير شرعي، كما طالب بانسحاب إسرائيل من مواقع متقدمة على الحدود، مشيراً إلى استعداد مبدئي لمواصلة الحوار.
ولعب المبعوث الأميركي توماس باراك دور الوسيط في المحادثات، وحاول تحقيق توازن بين التنسيق مع إسرائيل ودعم المؤسسات السورية الرسمية، حيث قال في تغريدة على منصة “إكس”: “الدبلوماسية النشطة هي الطريق الذي تسلكه واشنطن للخروج من الأزمة”، مضيفاً أن “سوريا المستقرة تُبنى على أساس جيران أقوياء”.
تفاؤل مشوب بالحذر
رأى الدكتور زكي لبابيدي، رئيس مكتب سوريا في المجلس السوري الأميركي، أنه رغم أن ما رشح عن الاجتماع “مبشّر”، إلا أنه يجب الحذر من أن إسرائيل لا تلتزم بالقوانين الدولية ولا بالتفاهمات، مشيراً إلى أن الاحتلال الإسرائيلي قصف القصر الرئاسي في دمشق وهدد باغتيال الرئيس الشرع بشكل علني.
ولفت لبابيدي، في لقاء مع تلفزيون سوريا، إلى النفوذ الإسرائيلي الكبير داخل الإدارة الأميركية، وإلى ضغوط تمارسها أطراف داعمة لإسرائيل، ما يضعف أي جهود تهدئة حقيقية تقودها واشنطن.
واتهم لبابيدي أيضاً إسرائيل بتسليح مجموعات مسلحة في السويداء لخلق فوضى داخلية وإشعال حرب أهلية تخدم مصالحها، محذراً من أن ذلك قد يحدث فعلاً ما لم يتداركه السوريون.
فرنسا تدخل على خط الملف السوري
من جانبه، قال الكاتب والمحلل السياسي حسن النيفي إن فرنسا تسعى للعب دور سياسي محوري في الملف السوري بعد سقوط نظام الأسد وتغيّر موازين القوى في المنطقة، مشيراً إلى أن اختيار باريس مكاناً لعقد الاجتماع جاء بناءً على رغبة فرنسية.
وأوضح النيفي، في لقاء مع تلفزيون سوريا، أن الاجتماع حمل طابعاً استكشافياً، ولم يترك أثراً واضحاً سواء في نتائجه أو فحواه، ولم يكن خالياً من النوايا المزدوجة، مضيفاً: “يمكن وصف المباحثات بأنها كانت بمثابة جس نبض، حيث عبّر كل طرف عن تطلعاته ومطالبه”.
وأشار النيفي إلى أن الاجتماع لم يُسفر عن نتائج ملموسة، مرجحاً أن يكون مجرد خطوة تمهيدية نحو توافقات أمنية قد تتبلور في المستقبل القريب.
وقال إن الحكومة السورية كان شاغلها الأساسي خلال اللقاء هو رفض مبدأ التقسيم، كما أكدت موقفها الرافض لبقاء أي قوات أجنبية بشكل دائم على الأراضي السورية، في إشارة واضحة إلى الوجود الإسرائيلي داخل سوريا، وإلى التوغلات العسكرية الإسرائيلية التي أعقبت سقوط نظام الأسد في الثامن من كانون الأول الماضي، كذلك عبّرت بشكل مباشر وصريح عن رفضها لمحاولات الاستثمار الإسرائيلي داخل الطائفة الدرزية في سوريا.
وأضاف: “في المقابل، لا تُخفي إسرائيل نواياها، فهي تسعى إلى بسط سيطرتها على الجنوب السوري، دون اكتراث فعلي بمصير الدروز أو غيرهم من السكان، بل تنظر إلى الأحداث التي جرت في السويداء كفرصة استثمارية تسعى لاستغلالها”.
وتطمح تل أبيب إلى فرض اتفاقيات أمنية جديدة مع دمشق، تتيح لها التحكم بنوعية السلاح وعدد القوات المنتشرة في الجنوب السوري، كما تسعى إلى تحويل سكان الجنوب إلى ما يشبه “حرس حدود” لصالحها، تحت ذريعة حماية الدروز، بحسب النيفي.
إسرائيل تجس نبض دمشق وتخطط للجنوب
أكد الكاتب الفلسطيني محمد القيق أن الجانب الإسرائيلي دأب على عقد جلسات “جسّ نبض”، وما يجري حالياً لا يخرج عن هذا الإطار، إذ يهدف إلى اختبار توجهات القيادة السورية الجديدة، وقد سبق أن استخدم الإسرائيليون هذا الأسلوب في مراحل سابقة، ما أدى إلى اندلاع مواجهات في الساحل، ثم انتقال التصعيد إلى محافظة السويداء.
وأوضح القيق، في لقاء مع تلفزيون سوريا، أن لدى إسرائيل توجهاً استراتيجياً واضحاً بالتوسع جنوباً داخل الأراضي السورية، وتسعى لتنفيذ ما يُعرف بـ”ممر داوود”، الذي يمتد من درعا باتجاه الشرق السوري وصولاً إلى منطقة التنف عند الحدود العراقية، مشيراً إلى أن هذا المشروع مطروح على طاولة بنيامين نتنياهو منذ سنوات، وقد مهد له الرئيس الأميركي دونالد ترامب عبر قراره الرئاسي الذي منح الجولان السوري المحتل لإسرائيل.
وشدد القيق على أن من يتابع الإعلام العبري يدرك وجود إجماع داخلي لدى جميع الأطياف السياسية الإسرائيلية، بما فيها المعارضة، على ضرورة ضم الجولان بشكل نهائي إلى إسرائيل، مشيراً إلى أن حتى يائير لابيد، زعيم المعارضة، قال إنه أبلغ مسؤولين إماراتيين بأن على الرئيس السوري أحمد الشرع، إذا أراد البقاء في الحكم، أن يتخلى نهائياً عن فكرة استعادة الجولان.
وأشار القيق إلى أن إسرائيل تخلّت مؤخراً عن فكرة الاتفاقيات، فحتى “اتفاقيات أبراهام” لم تعد من أولوياتها، إذ بات التوجه الإسرائيلي منصباً على التوسع الجغرافي وفرض واقع التقسيم داخل سوريا، بما يتماشى مع رؤيتها لمستقبل المنطقة.
وفي المقابل، شدد القيق على أن القيادة السورية الجديدة ليست غافلة عمّا يُحاك، بل تدرك أهمية أي نافذة للحوار الدولي، رغم معرفتها بأن فرنسا لا تملك نفوذاً فعلياً في هذا الملف. فالدور الفرنسي، بحسب رأيه، ضعيف ومحدود، في حين أن الولايات المتحدة هي الطرف الوحيد القادر على فرض توجهات حقيقية في الإقليم. ويكفي النظر إلى التجربة اللبنانية، حيث لم تتمكن الوساطة الفرنسية من إحداث أي تقدم، في حين ظل القرار النهائي بيد واشنطن.
وأضاف أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يحاول حالياً استغلال القضية الفلسطينية لتسجيل حضور إعلامي في المنطقة. وخلال زيارته إلى القاهرة، وعد بالاعتراف بدولة فلسطينية، إلا أن الواقع القانوني يُعقّد هذا الأمر، فعدَدٌ كبير من المستوطنين في الضفة الغربية يحملون الجنسية الفرنسية، مما يطرح تساؤلات قانونية صعبة عن مصيرهم في حال تم الاعتراف بدولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران. ويرى القيق أن ماكرون يستخدم هذه التصريحات كأوراق ضغط داخل الاتحاد الأوروبي، سواء في ما يتعلق بالضرائب أو في الملف الأوكراني الذي يواجه فيه تحديات جدية.
وعاد القيق للتأكيد على أن القيادة السورية تدرك تماماً محاولات إسرائيل لاستكشاف مواقفها من خلال هذه اللقاءات، التي قد تُبنى عليها تحركات لاحقة في الميدان. ومع ذلك، لم تُبدِ إسرائيل حتى الآن أي بوادر نية إيجابية تجاه سوريا.
أما الولايات المتحدة، فقد باتت مواقفها غير متوقعة، وقد فوجئ كثيرون. وذكّر القيق بتصريحات أدلى بها فجأة المبعوث الأميركي ويتكوف، حين وصف حركة حماس بـ”الإرهابية”، ولا يستبعد القيق أن يظهر في أي لحظة مسؤول أميركي آخر، كالمبعوث باراك مثلاً، ليصرّح بأن القيادة السورية لا تريد السلام مع إسرائيل، بهدف التحريض ضدها دولياً. مضيفاً: “في هذه المرحلة، كل الاحتمالات مفتوحة من الطرفين الأميركي والإسرائيلي”.
تحصين الجنوب في وجه المخطط الإسرائيلي
بعد جولات التفاوض مع الجانب الإسرائيلي، ومع وضوح وجود مخطط إسرائيلي شامل في سوريا، رأى النيفي أن أمام الحكومة السورية مسارين يجب العمل عليهما بالتوازي، إذ لا يمكن أن تكون المقاربة الأمنية وحدها كافية للوصول إلى حلول حقيقية. فالمعالجات الأمنية، إن لم تُرفد بمسارات اجتماعية وسياسية متكاملة، فلن تؤدي إلا إلى مزيد من التدهور.
وأول هذين المسارين هو معالجة داخلية لمشكلة السويداء، بهدف سحب الذريعة من يد إسرائيل. فليس خافياً أن إسرائيل تسعى لاستثمار أي فراغ أو خلل في الجغرافيا السورية، سواء في مناطق الأكراد أو الدروز أو العلويين. ومن هنا، ينبغي أن تتعامل الحكومة مع هذه الملفات بحكمة وهدوء، بعيداً عن ردود الفعل المتشنجة.
وأضاف: “الدولة لا ينبغي أن تكون خصماً لأي مكون اجتماعي، بل عليها أن تؤدي دور الأب تجاه جميع أبنائها. ويجب أن تُدار هذه الأزمات بصبر ومثابرة، حتى لو فشلت المفاوضات مراراً، فالمهم هو نزع الورقة من يد إسرائيل. إن تحصين الجبهة الداخلية هو الخطوة الأهم”.
أما المسار الثاني، فهو إقناع المحيط الإقليمي والمجتمع الدولي بأن قضية الأمن والاستقرار في سوريا ليست شأناً داخلياً فحسب، بل مسألة تمس الأمن الإقليمي والدولي. فاستقرار سوريا يصب في مصلحة الدول العربية، كما يصب في مصلحة المجتمع الدولي، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة الأميركية.
وتابع النيفي: “من هذا المنطلق، تقع على عاتق جميع الأطراف مسؤولية العمل المشترك من أجل تشكيل رادع حقيقي أمام أي مخططات إسرائيلية تستهدف وحدة واستقرار سوريا”.
الجنوب السوري.. أي سيناريو هو الأقرب للواقع؟
في سياق الحديث عن الجنوب السوري، وتحديداً ملف السويداء، أكد الكاتب الفلسطيني محمد القيق أن معالجة هذا الملف تقع بالدرجة الأولى على عاتق الحكومة السورية والمجتمع المحلي، معتبراً أن كل ما يجري هناك ليس بمعزل عن تدخلات إسرائيلية متكررة تسعى إلى افتعال الأزمات وخلق الذرائع، وهو نهج سبق أن استخدمته إسرائيل في فلسطين، ويُعاد توظيفه اليوم في الجنوب السوري.
ومن وجهة نظر القيق، فإن النقطة الثانية الجديرة بالاهتمام هي العلاقة مع تركيا. فكلما اقتربت سوريا من تركيا، ازداد التصعيد في الجنوب السوري بشكل ملحوظ. إذ يبدو أن إسرائيل وبعض الدول العربية باتت ترى أن من مصلحتها دفع سوريا بعيداً عن تركيا. غير أن الابتعاد عن أنقرة لا يعني بالضرورة الاقتراب من تل أبيب، فإسرائيل لا تريد شركاء أو حلفاء إلى جانبها.
وأضاف: “يكفي أن نلاحظ الوضع في الأردن ومصر؛ فبالرغم من علاقاتهما مع إسرائيل، تعيش هذه الدول أوضاعاً داخلية صعبة. فإسرائيل ترى نفسها القوة الأغنى والأقوى في المنطقة، بينما تنظر إلى شعوبها على أنها ضعيفة، مستعبدة، ويجب إخضاعها وإذلالها، وفق منطقها الاستعلائي”.
وشدد القيق على أن إعادة ترتيب البيت الداخلي في سوريا لا يمكن فصلها عن طبيعة العلاقات الإقليمية، وخاصة مع دول ذات تأثير مباشر مثل تركيا. أما الولايات المتحدة، فهي تعتمد حالياً سياسة “الابتعاد المحسوب”، وتتظاهر بالحياد، لأنها لا ترغب بالدخول في احتكاك مباشر، لا سيما أن تركيا عضو في حلف الناتو، وتُفضّل واشنطن أن تُوكل المهام التصادمية إلى أطراف أخرى.
في المقابل، يبدي الأوروبيون قلقاً واضحاً. ومن الضروري أن نكون صريحين في هذا السياق: أوروبا تخشى أنه إذا انفجرت الأزمة السورية من جديد دون وجود ضبط أمني أميركي أو إسرائيلي، فإن ملف اللاجئين السوريين سيعود ليتصدر أولوياتها، ما يشكّل مصدر تهديد كبيراً لها، بحسب القيق.
المصدر: تلفزيون سوريا