
شهد السوريون في العقود السابقة مجازر عدة ربما كان من أشهرها مجازر الأسد الأب والابن، وهذا ما ذكرنا بمجازر رواندا ومجازر البوسنة والهرسك.
مجزرة رواندا استمرت زهاء مئة يوم وتراوحت أعداد ضحاياها بين ثمانمئة ألف ومليون ضحية معظمهم من المدنيين، في حين استمرت المجازر في البوسنة والهرسك ثلاث سنوات ونصف وكانت ذروتها مجزرة سربرنيتسا التي استمرت عدة أيام راح ضحيتها ما يزيد عن ثمانية آلاف مدني نازح من مناطق القتال، وكانوا في منطقة معزولة ومحمية من الأمم المتحدة، في حين بلغ عدد ضحايا المجازر في البوسنة والهرسك خلال ثلاثة سنوات ونصف ما يقارب ثمانين ألف مدني، وبالرغم من التباطؤ الشديد للمجتمع الدولي ، إلا أنه سارع بالنهاية بالتدخل لوقف تلك المجازر.
القاسم المشترك بين تلك المجازر هو عجز المجتمع الدولي عن التدخل في الوقت المناسب وعدم السماح بتدهور الأمور إلى هذا الحد.
أما في سوريا وهي موضع حديثنا فالأمر أشد فظاعة وأكثر وحشية فقد بدأت مجازر الأسد منذ أحداث 1980 في مواجهته مع تيار الطليعة وتنظيم الإخوان المسلمين، في حلب وحماة على وجه الخصوص، واستمرت تلك المجازر في عهد ابنه بشار الذي كان يعتبر نيرون وهتلر وستالين خير أسوة له وربما فاقهم عسفا ووحشية وإجراما، وفي الحلقة الأخيرة من هذه السلسلة الدموية والتي استمرت منذ عام 2011 وانتهت بنهاية عام 2024 عند فرار كبير المجرمين وأعوانه وسقوط النظام الأسدي، نكون كسوريين قد طوينا صفحة سوداء من تاريخ سوريا، وما يزال عشرات آلاف المختفين قسرا مجهولي المصير بالرغم من ترجيح قتلهم على يد الأجهزة الأمنية في سوريا، وما تزال الأعداد الحقيقية غير منتهية، فالمقابر الجماعية التي ضمت الآلاف وأعداد المفقودين الذين أحصتهم منظمات متخصص بحقوق الانسان، وآلاف مؤلفة لم يتم الإفصاح عنهم إلى يومنا هذا لشدة خوف الأهل من جريرة التصريح عن ضحاياهم من قتل منهم أو غيب قسريا، ويرى الكثير من المتابعين من كثب أن أعداد الضحايا والمفقودين يزيد عن ستمئة ألف، في حين وثقت الشبكة السورية لحقوق الانسان ما يزيد عن مئتي ألف ضحية، وتعتبر الشبكة السورية من أوثق وأدق المصادر في توثيق المذبحة السورية، لكننا نعلم أن التوثيق لم يكن ليشمل جميع الضحايا، لأسباب تقنية وضوابط تقيد عمل المنظمات الحقوقية وبسبب تمنع شريحة واسعة من الأهالي بالتصريح عن ضحاياهم.
القاسم المشترك بين تلك المجازر هو عجز المجتمع الدولي عن التدخل في الوقت المناسب وعدم السماح بتدهور الأمور إلى هذا الحد، الأمر الذي يغري الكثير من الأنظمة القمعية بتكرار تلك الجرائم بحق الإنسانية، ربما يفسر البعض هذا الموقف السلبي من المجتمع الدولي وفي مقدمته الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة الأميركية بأنهم يفتقرون الى وجود استراتيجية واضحة وعملية لحماية المدنيين الأبرياء وإنصاف الضحايا، لكن الوقائع التي تمطرنا بها وسائل الإعلام والتي ترصد كل تصريح وموقف واجتماع تؤكد أن تلك الجهات الدولية لا تملك إرادة حقيقية في لعب الدور المناط بها حسب مواثيق الأمم المتحدة وغيرها من الهيئات الدولية، بل هي تقف وقفة المتفرج وتندد وتصرح وتبدي مزيداً متكرراً من القلق، في حين كانت بعض الأنظمة الأوربية والعربية تزود النظام السوري الذي يستمر في ارتكاب مجازره بالأسلحة والعتاد والمعلومات الاستخباراتية، اللازمة لمزيد من القمع وللحيلولة من دون سقوط النظام الديكتاتوري في هذه البلد أو
تلك، فهذه الديكتاتوريات والأنظمة القمعية ترتبط بمراكز القوة في المجتمع الدولي عبر شبكات من الأدوار والمصالح، ولن يكون سقوطها إن حصل مصدر استقرار لتلك المصالح والشبكات.
امتازت مجازر الأسد عن نظيراتها في القرن العشرين وما تلاه بالامتداد الزمني الطويل وبالدعم الصريح من دول إقليمية وعالمية، وبمشاركة مباشرة من ميليشيات وجيوش خارجية كان لها دور واضح وكبير في تلك الانتهاكات، وفي منع سقوط النظام، حتى بعد أن أصبح دمية هزيلة بيد داعميه أو مستخدميه وفقده لكل مقومات البقاء، كما امتاز بضلوعه الكارثي في حجم المعتقلين وتعذيبهم لسنوات طويلة وتفننه المبدع في تلك الأساليب، ويمكن أن يقدم عبر التاريخ كنموذج شيطاني مريع في أفانين القهر والتعذيب التي يعد الموت خلالها والنجاة من استمرارها هبة إلهية طالما تمناها آلاف المعتقلين، كما كان الشعب السوري المعارض خلالها ضحية لاختبارات السلاح الروسي الذي صرح عنه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بشكل واضح حين أكد أنه في سنوات الحرب الأولى في سوريا اختبر أكثر من 320 سلاحا حديثاً انتجته روسيا، وفي آذار 2017 أكد الرئيس فلاديمير بوتين أن الحرب في سوريا مثلت أفضل تدريب عملياتي وحقيقي للقوات الروسية لم تكن لتحظى به في أي تدريب، بعد هذا التاريخ بعام أعاد بوتين تأكيده على اختبارات متميزة للأنظمة الصاروخية الروسية في الأراضي السورية، كما أكد في 2019 أن مشاركة القوات الروسية الجوية خلال القتال في سوريا كشف عن مواطن الضعف في تلك الطائرات الأمر الذي ساهم في إعادة تصميمها على نحو أفضل، ولن ينسى العالم تصريحه عام 2020 حول تطور حجم مبيعات الأسلحة الروسية التي تم اختبارها في سوريا، كما امتازت مجازر الأسد في سوريا باستخدامه للعديد من الأسلحة المحرمة دوليا وفي مقدمتها استخدام السلاح الكيماوي بمباركة روسية وإيرانية، ولم يكتف بقتل المدنيين بالسلاح الكيماوي بل عمد الى جعل الكثيرين منه فئران تجارب لمخابره الكيماوية، كذلك ضلوعه في تجارة الأعضاء البشرية التي كانت تسرق من ضحايا التعذيب.
إن تلك المجازر المتكررة والتي استمرت لسنوات طويلة دون أن يتمكن المجتمع الدولي من ايقافها والضرب على يد من يرتكب جرائم صارخة الوضوح بحق الإنسانية يسقط بقايا ورقة التوت العفنة التي يحاول أن يستر عورته وعاره بها.
اليوم بعيد سقوط نظام الأسد يتم الكشف بشكل متتابع عن أنواع فظيعة من الجرائم كاختطاف أطفال المعتقلين والضحايا والاتجار بهم عبر شبكات دولية، وتوظيف المختطفات في شبكات تجارة الرقيق الأبيض وغير هذا كثير مما لا يتسع له السياق.
خلاصة القول إن تلك المجازر المتكررة والتي استمرت لسنوات طويلة من دون أن يتمكن المجتمع الدولي من إيقافها والضرب على يد من يرتكب جرائم صارخة الوضوح بحق الإنسانية يسقط بقايا ورقة التوت العفنة التي يحاول أن يستر عورته وعاره بها، وما المجازر التي ترتكب اليوم في غزة بحق الشعب الفلسطيني وبشكل ممنهج ومحمي ومدعوم دوليا، إلا تأكيدا على أن هذا العالم تحكمه عصابات مافياوية، غير معنية بالإنسانية المعذبة ولا بأعداد الضحايا الأبرياء، وكل ما يعنيها استمرار تدفق النفط والسلاح والاتجار بأرواح البشر، وكل ما عداه من شعارات وتصريحات وإدانات وقلق مزعوم ومهرجانات خطابية، ما هو إلا استخفاف بالعقول واحتقار لحقوق الإنسان وتخليق مستمر للعنف والإرهاب.
المصدر: تلفزيون سوريا