يوسف العظمة شاهد على القرن

فارس الذهبي

بعيد استشهاد وزير الحربية يوسف بك العظمة متأثراً بجراحه في المعركة التي خاضها ضد القوات الفرنسية في موقعة عقبة الطين وهي النقطة الدقيقة التي استشهد فيها العظمة، قرب سهل ميسلون، تحول ضريحه الذي أقيم على عجل إلى مزار شعبي و رسمي كبير، بل أنه كان أحد علامات زيارات الدولة التي يقوم بها الساسة والوزراء وأعضاء الأحزاب وزوار الدولة. حيث كانت الوفود تتوافد سنوياً على الضريح لتضع الزهور وتلقي الأشعار، بل وحتى لقراءة آيات من القرآن الكريم والإنجيل.

كانت بطولة يوسف العظمة جامعة لأبناء الأرض السورية، وما قام به وصحبه أدخله التاريخ السوري والعربي من أوسع أبوابه، مدشناً عهد الوطنية السورية بدمائه، ليكون أحد أسس الشخصية السورية التي كانت تتلمس طريقها بعد الانفصال عن الدولة العثمانية التي كانت تحكم البلاد منذ ستمائة عام.

قاد تلك الحملة الطبيب والسياسي خليل سعادة والد مؤسس الحزب القومي أنطون سعادة.

ومن أشهر الشعراء الذين زاروا المكان حيث الضريح الوطني، أمير الشعراء أحمد شوقي، وسليم زركلي وخليل مردم بك وخير الدين زركلي وزكي قنصل وتوفيق الحكيم.

لكن زيارة ذكرى ميسلون لسنة 1932 كان لها وقعاً خاصاً، حيث زار وفد من جمعية الرابطة السورية بالمهجر ومقرها ساو باولو في البرازيل حيث تعيش جالية وطنية سورية ضخمة تمتد جذورها إلى سوريا ولبنان وفلسطين والأردن. الضريح برفقة الفرقة الكشفية الفتية في دمشق التي كانت تعزف المارشات العسكرية ويرتدي عناصرها اللباس الخاص بالكشفية الذين أدوا للقائد يوسف العظمة التحية العسكرية في جو مهيب مما أثر بأعضاء الجمعية من مغتربي الوطن. الذين بادروا حينما عادوا إلى ديار غربتهم أن يطلقوا حملة كبرى لجمع التبرعات لغاية إنشاء نصب تذكاري للشهيد يوسف العظمة، حيث قاد تلك الحملة الطبيب والسياسي خليل سعادة والد مؤسس الحزب القومي أنطون سعادة. واستقبل أهل المهجر من السوريين تلك الدعوة استقبالاً كبيراً فعملوا على جمع مبالغ ضخمة من أجل تشييد تمثال لشهيد سوريا، وبالفعل جرى هذا وتم تكليف فنان إيطالي بإنشاء هذا التمثال، وتم كشف اللثام عنه في سنة 1937، في ميناء ساوباولو وسط احتفالات كبرى من الجالية السورية التي لم تكن قد انقسمت بعدها بين سورية ولبنانية وفلسطينية وغيرها. بعدها قام سعادة بالتواصل مع حكومة دمشق معرباً عن رغبة الرابطة بإهداء التمثال إلى الوطن الأم ليتم عرضه في ساحات العاصمة. ووافقت الحكومة من دون تردد على هذا، لتتم أعمال نقل التمثال من البرازيل إلى دمشق بحراً عبر مرسيليا إلى الإسكندرية فبيروت وبعدها تم شحنه بالقطار إلى دمشق ليتم إستقباله في محطة الحجاز في سنة 1938، وكان في إستقباله لجنة مؤلفة من شكري القوتلي وزير الدفاع آنذاك ونائب دمشق فخري البارودي ووزير الخارجية فايز الخوري.

على أن يتم وضعه في بوابة الصالحية في الساحة الفاصلة بين محلة البحصة والبوابة. وعليه فقد أعدت قاعدة حجرية لاستقبال التمثال إلا أن قوى محلية ضاغطة رفضت وضع التمثال في وسط الساحة، حيث مارست ضغطاً انتخابياً على اللجنة المخولة باستقبال التمثال، وشنت حملة في الصحافة المحلية، فتم الاتفاق على وضع التمثال في حديقة مبنى الأركان العسكرية القديم قرب البرلمان حيث وضع في زاوية نادي الضباط القديم المطل على شارع ميسلون. وبقي هناك مطلاً على المارة مذكراً ببطولات لم ينسها السوريون حتى تم الاتفاق على نقله إلى مكانه الأصلي سنة 1951، إلى القاعدة الفارغة في ساحة المحافظة أو ما عرفت لاحقاً بساحة يوسف العظمة في بوابة الصالحية، وبقي هناك حتى عام 1966، حيث تم نقله إلى بوابة مقر الأركان العسكرية الجديدة في ساحة الأمويين التي أمر ببنائها أديب الشيشكلي سنة 1951، وبذلك ابتعد عن الناس والمارة ولم يعد زوار العاصمة يرونه مطلقاً، وتم استبداله بتمثال (الثوري العربي) حامل الشعلة، حتى سنة 2007 حيث نقل “الثوري العربي” إلى أمام مبنى اتحاد الفلاحين وتم وضع تمثال يوسف العظمة الجديد مكانه، والفارق بين التمثالين شاسع، فالأول يبدو فيه العظمة مقدماً ساقه اليمنى إلى الأمام شاهراً سيفه في حركة قتالية دفاعاً عن البلاد، بينما الثاني يبدو فيه العظمة مسدلاً ذراعيه وسيفه في حركة انتظار. ولكل تلك الجستات معان سياسية على مايبدو حينها.

لعل تمثال وزير الحربية يوسف العظمة وهو الوزير الوحيد الذي استشهد في أرض المعركة، يمثل شهادة على تحولات هذا القرن بكل نهوضها و نكوصها، ذروتها و إنحطاطها.

تأثر التمثال الأصلي في بوابة الأركان بالقصف الإسرائيلي سنة 1973، وتضرر بشكل متوسط كما ورد في مجلة الجندي العربي، وتم ترميمه من دون أن يعرض مجدداً على العامة، لكن الضربة الجوية الكبيرة التي تعرض لها مبنى الأركان في ساحة الأمويين في يوم السابع عشر من تموز، وتحطيم أجزاء كبيرة من المبنى على مايبدو قد دمرت التمثال من دون أن يكون لدينا أي مصدر على هذا غير التحليل وصور الدمار الكبيرة التي ألم بالمكان والمباني المجاورة.

لعل تمثال وزير الحربية يوسف العظمة وهو الوزير الوحيد الذي استشهد في أرض المعركة، يمثل شهادة على تحولات هذا القرن بكل نهوضها ونكوصها، ذروتها وانحطاطها. لتبقى رسالة العظمة ماثلة على الدوام في وجدان الشعب السوري الذي يطالب بالدولة العادلة والقانون وسيادة كما حلم يوماً ما الشهيد يوسف العظمة.

المصدر: تلفزيون سوريا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى