
من بداهات الدولة الديمقراطية الليبرالية الحديثة والمعاصرة إنها دولة القانون، والحق، والمساواة والمواطنة، الحامية للحقوق والحريات العامة والشخصية/ الفردية. فى ظل التركيبة البنيوية للدولة. ثمة فصل للسلطات الثلاث، وتوزيع القوة على نحو متوازن بينها، والرقابات المتبادلة فيما بين بعضهم بعضا، ناهيك عن رقابة الصحافة، ووسائل الإعلام المرئى والمسموع والرقمي، ومعها رقابات الجموع الرقمية الغفيرة على وسائل التواصل الاجتماعى، وذلك كرقابات للرأى العام بكافة مكوناته وشرائحه الطبقية علي أداء سلطات الدولة.
الوضعية التاريخية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والرمزية للدولة القومية الديمقراطية، لم تحدث طفرة واحدة، وإنما تطورت من خلال تطور النظام الرأسمالى، وتوحيده للأسواق، ثم للمجتمعات الأوروبية، وتمدده ليغدو بعدئذ نظاما رأسماليا عالميا، وإمبرياليا.
الدولة الديمقراطية الليبرالية، تطورت مع التطورات التكنولوجية، وثوراتها الصناعية الأربعة، وتأثرها بالثورات العلمية، وانعكاساتها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية.
وأيضا انعكاسات التطورات الكبرى، وفائقة السرعة على هياكل الدولة، وسلطاتها، وعلى قواعد النظام الديمقراطى ومؤسساته السياسية ، والثقافة السياسية الديمقراطية في أبعادها ومرجعياتها الفلسفية .
كان تشكل الأمة كمفهوم سياسى، وثقافى، واجتماعى وهوياتى سمت رئيس للدولة الديمقراطية الليبرالية، وفى إطار تطوراتها وتحولاتها، حدث التمايز التاريخى بين الدولة والدين والعقائد والمذاهب –أيا كانت-، ومن ثم بين الدستور والقانون الوضعى، وبين ما هو دينى، وميتا وضعي لأن الدولة شخص معنوى، وليس شخصا طبيعيا، يؤمن أو لا يؤمن بالأديان والمذاهب فى المجتمعات الغربية، وباتت حرية الاعتقاد والتدين مطلقة، وفردية.
حياد الدولة كشخص معنوى، ورمزى إزاء الأديان هو أحد علامات التغير الاجتماعى، والثقافى الأوروبى، والغربى، ومن ثم أدى ذلك مع الحريات الفردية والعامة، فى المجالين العام والخاص،- وتطور العلاقات الاقتصادية والإنتاجية الرأسمالية -، إلى ميلاد الفردانية، والفرد كفاعل اجتماعى ذو مشيئة، وإرادة سياسية علي نحو ما أطلق عليه نسبيا في هذا السياق التاريخي سبينيوزا الإنسان الحر homo liber) ( .
دولة القانون، وفصل السلطات، لم تكتمل، ويتم إنتاجها، من خلال كتابة الدساتير، ووضع القوانين، وفق أهواء الحكام، والحكومات، وإنما هى تعبير عن وضعية المصالح الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المتصارعة فى مرحلة تاريخية محددة ، وكفاح وتضحيات ، وتمردات ، وثورة أوليفر كرومويل, (1599/1658 )، والثورة الفرنسية ( 1789/1799) ، وما بعدهم من تغيرات في بني المجتمع والدولة والنظام والسلطات السياسية والدستورية والقانونية .
القوانين تحمل في أعطافها وبنياتها المصالح الاجتماعية المسيطرة للطبقة، أو الشرائح الاجتماعية المتحالفة والمتوافقة فيما بينها في السلطة / الحكومة .
مع تطور النظام الرأسمالى، حدث تغيير هام، تمثل فى ميل السلطات الشارعة فى بعض التشريعات إلى مصالح تتجاوز الطبقة المسيطرة، إلى دائرة اجتماعية أوسع وتحمل مصالح طبقتي العمال والفلاحين، والطبقة الوسطى – الصغيرة، والوسطى –الوسطى، وذلك فى مجال الضمانات الاجتماعية، وفى قوانين أخرى، وذلك حفاظاً على بعض التوازن النسبي بين المصالح المتنافسة والمتصارعة ، واستقرار الدولة، والنظام الليبرالى. هذا التغير الهام مرجعه تنامي دور النقابات العمالية، والمهنية، والحريات السياسية العامة، والفردية، والأحزاب السياسية خارج الحكومة، أو داخلها ائتلافيا!
دولة القانون ليست محض نصوص شكلية ، وصماء فى التشريعات التى يصدرها البرلمانات، وتطبق من السلطتين التنفيذية والقضائية، وإنما هى نتاج صراع سياسى واجتماعى واقتصادى، وراءها ضغوط ومصالح متصارعة، والأهم فاعلية الحريات العامة والفردية، وثقافة سياسية وحيوية تتجلي فى المجال العام، من تظاهرات سلمية، والحق فى التجمع السلمى، وحرية التعبير.
القوانين لا تصدر من البرلمانات دون حوار، ونقاشات جادة معبرة عن مصالح تتجاوز أعضاء البرلمانات، فى ظل تطور الرأسمالية ، وشركاتها الكبرى، وتمويل بعضهم للأحزاب السياسية ، والمرشحين فى الانتخابات النيابة، على نحو ما تشهده تطورات النظام الحزبى فى الولايات المتحدة الأمريكية، والحزبين الديمقراطى، والجمهورى، وخاصة فى ظل النظام النيوليبرالى الاقتصادى، وأيضا فى الانتخابات البرلمانية فى بريطانيا، والرئاسية والبرلمانية الفرنسية، وفى ألمانيا، وإيطاليا.. الخ.
دولة القانون، والحق، والحريات ترتكز على مبدأ استقلال القضاء والقضاة، وعدم التدخل فى شؤون السلطة القضائية من السلطتين التنفيذية والتشريعية. ضمانات استقلال القضاء، والقضاة، دستوريا وقانونيا، ارتكزت أيضا على تقاليد قضائية تاريخية راسخة، فى ممارسة العملية القضائية إجرائيا وموضوعيا، إزاء الأطراف المتنازعة، فى دعاوى الأفراد، وفى القضايا المدنية، والتجارية، والأحوال الشخصية. الأهم أيضا فى القضايا السياسية، والاقتصادية التى تكون الدولة طرفا فيها، أو الحكومات والسياسيين، او الشركات والمصارف الكونية الكبرى ،وذلك دونما أى محاولة للتدخل، أو التأثير على القضاة التى ينظرون هذه الدعاوى غير مانري بعضه مع ترامب ، واليمين الفرنسي المتطرف من محاولات التأثير .
من الشيق ملاحظة أن التقاليد القضائية التاريخية والموروثة ، واستقلالية القضاء والجماعة القضائية ، تجعلهم يصدرون أحكاما فى مواجهة بعض القادة السياسيين، والرؤساء على نحو ما نلاحظ فى حالة الحكم على الرئيس الفرنسى السابق نيكولا ساركوزى، أو ضد بعض من أعضاء الأسرة الملكية البريطانية من خرق لقانون وقواعد المرور ، أو غيرهم فى الدول الأوروبية.
استقلالية القضاء والقضاة، ترجع أيضا إلى تقاليد راسخة، تتمثل فى المبادئ القانونية العامة فى نظام التعدد فى جهتي المدني والإداري علي نسق القضاء الفرنسى، من محكمة النقض – والمحكمة الإدارية العليا، والمجلس الدستورى الفرنسى فى الجمهورية الخامسة الفرنسية -، ونظام السابقة القضائية فى النظام البريطانى والأنجلوساكسوني، وفى النظام الأمريكى، ونظام المحلفين ، والمحكمة العليا .
المبادئ القانونية العامة تلتزم بها السلطات القضائية، وجماعة القضاة، فى مجال الحريات العامة والفردية سواء على المستوى الإجرائى، والمضموني الموضوعي.
الأهم أيضا استقلال النيابة العامة، وعدم خضوعها أو تأثرها بضغوط السلطة التنفيذية، فى قيامها بوظائفها فى القضايا الجنائية.
فى مجال القضاء الجنائى، ثمة تقاليد راسخة فى الضمانات الإجرائية الهامة، وأيضا فى مجال حقوق المتهمين، وضمانات الدفاع، التى تمثل سياجا لهذه الحقوق، وعدم انتهاكها ارتكازا على أن المتهم برئ حتى تثبت إدانته. ضمانات وحقوق المتهم إجرائيا موضوعيا، هى ذروة استقلال القضاء الجنائي، والحريات العامة وضماناتها.
ثمة اتجاه عام منذ عقد السبعينيات من القرن الماضى للردة عن التجريم –وفق تعبير أستاذنا عميد الفقه الجنائى المصري والعربى محمود مصطفى – أى سياسة جنائية وعقابية، تحد من تغول النزعة التجريمية فى عديد المجالات، وذلك ضمانًا للحريات العامة والفردية.
التراجع عن تمدد النزعة التجريمية فى القوانين فى الدول الديمقراطية الليبرالية، جاءت مع تطور الحريات العامة والفردية ورسوخها فى ظل تطور الرأسمالية الغربية، واتجاه مضاد فلسفيا وقانونيا لما ساد فى دول الإمبراطورية الماركسية فى مجال السياسات القانونية، والميل إلى تمدد النزعة الجنائية والعقابية، فى غالب التشريعات والمجالات كقيود على الحريات العامة، والفردية وللضبط الاجتماعي وسيطرة أجهزة الدولة علي المواطنين.
تمدد النزعة العقابية فى الغالبية العظمى للتشريعات كانت أبرز سمات السياسات التشريعية فى دول العالم الثالث، بعد الاستقلال، ولا تزال فى جنوب العالم، والمنطقة العربية كجزء من النظم السلطوية الشعبوية ، والاستبدادية حيث دولة القانون محضُ أشكال مؤسسية غير فاعلة وبلا تقاليد راسخة والفاعلية خارج هيمنة وقبضة السلطة الحاكمة .
مع النيوليبرالية الاقتصادية، باتت تشكل الرأسمالية الرقمية الكونية ، ونظائرها – من الشركات الكونية فى مجال الإنتاج والخدمات- مراكز قوة مؤثرة على الدول والحكومات، ومفاهيم القومية والسيادة، والاستقلال. من ثم باتت دولة القانون ووضع التشريعات، تخضع لتأثر هذه الشركات النيو رأسمالية الكونية الكبرى، وأيضا محاولات انتهاك استقلال القضاء على نحو ما ظهر من اليمين الفرنسى المتطرف إزاء الحكم الصادر بحق مارين لوبين، وأيضا من ترامب إزاء بعض القضاة، ومحاولاته التأثير عليهم من خلال تصريحاته، وتغريداته الصاخبة والمثيرة والخارجة عن مألوف اللغة السياسية على الحياة الرقمية.
لا شك أن مفهوم دولة القانون والحق، تتعرض لبعض التغيرات فى عالم فائق التغير، فى ظل سطوة الرأسمالية النيوليبرالية، وشركاتها الكونية الضخمة، وخاصة الرأسمالية الرقمية فائقة الثراء ، وتحدي الإناسة الروبوتية والذكاء الاصطناعي التوليدي ، واهتزاز وتفكك ماكان يعتقد جزءا من أفكار ومفاهيم عالمنا الحداثي ومابعد بعده حول الدولة والقانون والحريات والمؤسسات السياسية ، والسيادة ، انه عالم جُد مختلف عما ألفناه وخبرناه .
المصدر: الأهرام