
في سوريا اليوم، ثمة ما هو طريف ومحزن يحدث على خشبة السياسة. المشهد يبدو مألوفاً أحياناً، كما لو أننا نعيد تمثيل مسرحية قديمة مع تبديل أسماء الممثلين، بينما يبقى النص على حاله، وربما الموسيقى التصويرية أيضاً.
دون أي إغفالٍ لحقيقة أن مساحات الرأي والنشاط السياسي والمدني (خارج الأطر الرسمية طبعاً) متاحة اليوم بشكل لا يمكن أن يقارن إطلاقاً بما سبق. لكني هنا سأركز على اللغة التي يفترض أن تكون جديدة إثر التحرير. فبعد أسابيع من سقوط نظام الأسد، بدأنا نسمع من بعض المتطرفين في تأييدهم للإدارة الجديدة وللرئيس أحمد الشرع، خطاباً يشبه، بشكل مريب، ما كان يقوله أنصار بشار الأسد. كأن اللغة لم تُغادر مكانها، بل غيرت أصحابها فقط. أو بتعبير آخر بدأت “الثورة تأكل خطابها” لصالح خطاب من لون واحد هو لون الإدارة الجديدة.
للأسف هذا ليس خطاب الثورة، بل صدى لغة النظام. مع ذلك، يعتقد هؤلاء أنهم بسلوكهم ولغتهم، إنما يقدمون خدمة للإدارة الجديدة، دون إدراك بأنهم لا يختلفون في الجوهر عن مؤيدي الأسد، وإن اختلفت النوايا.
هنا، تدخل على الخط لدى هؤلاء، ولا أستثني المعارضين، ما يمكن تسميتها “الأنا الصادقة”. تلك التي تدفع حتى أكثر الناس ثقافة إلى تبرير ما لا يُبرّر إن جاء من (الجهة الصحيحة). ألم يُقدّم “الدواعش” أنفسهم باعتبارهم أصحاب رسالة أخلاقية بل وسماوية. فكانوا يرون أنفسهم أنبل من الآخرين الضالّين، ممن يخالفونهم. ما أشبه الأمس باليوم. حين يعيد بعض السوريين، موالون ومعارضون، إنتاج المقولات القديمة نفسها.
تكرار العبارات القادمة من زمن الأسد ليس مصادفة. بل يبدو أن الخطاب السياسي في سوريا، بحكم الاعتياد المزمن، يميل على نحوٍ كاريكاتيري لأن يكون محفوظاً في “القالب”، ينتقل من فمٍ إلى آخر مع تغيّر وجه الزمن السياسي. من كان يقول “الأسد علّمكم ودرّسكم”، كما لو أن الدول التي لا أسد فيها لا تعلِّم ولا تدرّس أبناءها. اليوم على غرارهِ، هناك من يقول “الشرع حرّركم” الأمر الذي لم يقبل به الرجل، وأنكر احتكاره للّقب المحرر، في إجابته على سؤال بهذا الشأن لمذيع إحدى الفضائيات العربية. ومع ذلك يُحوِّل خطاب المؤيدين الجدد الفعل الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي إلى منّةٍ شخصية، وتُختزل الثورة وانتصارها إلى هدية من القائد، بينما يغيب عن المشهد، ولو بدون قصد، مئات الآلاف ممن فقدوا حياتهم في سبيل التحرير.
عبارة “اللي ما عجبو البلد، يهاجر”، التي كان موالو الأسد يوجهونها لمن يبدي أدنى معارضة أو حتى تململ، صارت اليوم موجهة لمعارضي الشرع في الكثير من الأحيان. كأننا أمام مقطع موسيقي يعاد عزفه بنوتة واحدة، مع تغيير الآلة. للأسف هذا ليس خطاب الثورة، بل صدى لغة النظام. مع ذلك، يعتقد هؤلاء أنهم بسلوكهم ولغتهم، إنما يقدمون خدمة للإدارة الجديدة، دون إدراك بأنهم لا يختلفون في الجوهر عن مؤيدي الأسد، وإن اختلفت النوايا.
بالمقابل فإن لغة معارضة اليوم لن تنجو من مثل تلك الملاحظات، حتى لتبدو أحياناً مستنسخة من ذات قعر البئر اللغوي والفكري. سابقاً كان ثوار الداخل (الموالون للسلطة اليوم) يقولون لمؤيدي الأسد في أوروبا وأميركا “إذا كنتم معجبون بالأسد لماذا لا ترجعون إلى حضنه”. اليوم تتكرر ذات العبارة من المعارضين الحاليين، فيوجهونها إلى مؤيدي الشرع والإدارة الجديدة المقيمين في بلاد اللجوء. هنا يكفي تغيير موقع القائل والمتلقي سياسياً، لتتبدّل التقييمات بين “الكلام الحق” أو ”الكلام الباطل”.
سقط الأسد، وما زال نفس القاموس يتلبّسنا، دون أن نغتسل ونزيل عنّا أدرانه. وكأنَّ كل ما جرى هو مجرد انتقال الألسنة القديمة إلى أفواه جديدة.
بالتأكيد، ليس الذنب في اللغة ذاتها، بل في ميلنا البشري لاستخدامها كسلاح ضد الخصم. نستخدمها لا كجسر للفهم بل غالباً لتهشيم المختلف. فتتحوّل الكلمات من أدوات تعبير إلى أدوات إقصاء. وكأننا لم نتقدم خطوة واحدة إلى الأمام، واكتفت اللغة معنا بأنها قفزت من حضن نظام الأسد إلى حضن الثورة.
سابقاً، كان معظمنا يصدّقون “الناشط الثوري” حتى حين يكذب، فقط لأنه “من جماعتنا”. ونكذِّب “الموالي” حتى لو صدق، لأنه “عدو”. اليوم، انعكست الأدوار. صرنا نرى من يُهاجم ناشطاً لمجرد أنه لا يُشيد بما يصدر عن السلطات الجديدة، ونرى من يطعن بمصداقية سياسيٍ ما، لأنه شكك بخطوةٍ حكومية لم يجدها صائبة. بالمقابل، يوصف هؤلاء بلغة المعارضة الجديدة بأنهم “شبيحة السلطة”. إنه نوع من “الاصطفاف الخطابي”، حيث تتغير المواقع لكن لا تتغير الآليات. نُعيد إنتاج الانحيازات ذاتها، بخطاب يبدو أكثر حداثة، لكنه ينطوي في ثناياه، على كامل ملامح النظام القديم.
هذا الميل لتبني خطاب الخصم السابق ليس محصوراً بسوريا وحدها. في جنوب أفريقيا، وبعد الخلاص من نظام الفصل العنصري، تبنّى بعض أنصار حزب المؤتمر الوطني الأفريقي لغة سلطوية تشبه تلك التي كان يستخدمها البيض. صاروا يتحدثون عن “ضرورة ضبط الأمن (كما يفهمونه طبعاً) بيد الدولة فقط”، ويتهمون المعارضين بالخيانة، ويختزلون الوطن في الحزب. وتكرر ذلك في الأرجنتين، بعد سقوط الديكتاتورية العسكرية. تبنّى بعض القادة السياسيين خطاباً حول ما سُمّي “واجب الذاكرة”، وهو خطاب محق في ظاهره، لكنهم استخدموه أحياناً كوسيلة لإقصاء أي رأي لا يتماهى تماماً مع سرديتهم، مما جعل مفاهيم مثل “العدالة الانتقالية” تتحول إلى أدوات سياسية، بدل أن تكون أسساً أخلاقية وحقوقية لبناء مجتمع جديد.
هذه التجارب تؤكد أن التحوّل السياسي لا يضمن بالضرورة تحوّلاً أخلاقياً. وأن التخلص من النظام الاستبدادي لا يعني تلقائياً التخلص من عَدْواه في شتّى المجالات. فدون إدراكِ بديهية أن “تبديل المقاعد لا يكفي” وأن علينا تغيير النص، فإننا نسير باتجاه استنساخ عقلية البعث والأسد دون أن ننتبه. وبغرض عدم التعميم أقول: ربما هناك من ينتبه ويتقصّد ذلك.
للحقيقة، ما أريد الوصول إليه، أن الخطر الحقيقي ليس في أن تتشابه الكلمات، بل اللعنة في أن ذلك يشي بتشابه الذهنيات التي تنطق بها. حين نبرّر الإقصاء بذريعة “الوطنية”، أو نرفض الانتقاد بحجة “المؤامرة”، فإننا نعيد تشكيل الاستبداد من الداخل، حتى لو بدونا أننا تحررنا منه. لنغدو وكأننا في تماهٍ يكاد يكون تاماً مع الكثير من سياسات الأسد. أسمع بعض العبارات اليوم فيُخيَّل لي أن أنصار ثورة الأمس يقفون أمام مرآة سوريا القديمة لكن بطريقة مقلوبة. والأسوأ هنا، أن هذا التوظيف للخطاب يبدو بمثابة مدخلٍ لتعزيز نفوذٍ فئوي، دون أدنى التفاتةٍ لمفهوم الدولة الجامعة.
من الطبيعي، بل ومن حق السوريين اليوم أن يسخروا حين يسمعون العبارات ذاتها تُعاد على ألسنةِ وجوهٍ جديدة. ويرَون أن من واجب هؤلاء أن يضعوا أمام أنفسهم المرآة ويسألوا: هل كنا نريد فقط إسقاط شخص الأسد، أم تغيير كامل المنطق الذي منحه القوة ليمارس العسف والقتل على السوريين؟ عسى بإجابتهم على هذا السؤال الحاسم أن يصلوا إلى النتائج الصحيحة، فالثورة التي لا تراجع لغتها، ستمتلك بدورها خطاباً رسمياً مثيراً للملل.
سقط الأسد، وما زال نفس القاموس يتلبّسنا، دون أن نغتسل ونزيل عنّا أدرانه. وكأنَّ كل ما جرى هو مجرد انتقال الألسنة القديمة إلى أفواه جديدة. اليوم، من بين السوريين عموماً، في صف الموالاة أو المعارضة، وحدَهُ من نظّف لسانه من لغة القمع، وعقله من منطق الاصطفاف الفئوي، يستطيع أن يدّعي أنه خرج حقاً من عباءة الاستبداد، وإلّا فإن لديه شبهة ما، تفرض عليه أن يتوضأ من جديد.
المصدر: تلفزيون سوريا