
مع انتهاء مهلة الستين يوماً التي منحها ترامب لبوتين لوقف إطلاق النار، وبدلاً من فرض العقوبات “المؤلمة” التي هدد بفرضها على شركاء روسيا التجاريين ومستوردي نفطها، فإذا به يعلن عن قمة ثنائية مع بوتين في آلاسكا. وعشية انعقادها خرج ترامب ليخفض من مستوى التوقعات المتفائلة بشأن نجاحها، وليعلن أنها قمة أولية تمهد لقمة ثلاثية تضم زيلينسكي أيضاً.
في هذه الأثناء، ومنذ أن أعلن ترامب عن موعد القمة ومكانها، كان بوتين يستعد للقاء ترامب، ليس من الناحية اللوجستية التقنية فقط، بل كان يتحقق من واقع كل نقاط ضعفه التي قد يستغلها ترامب، ومن كل نقاط قوته التي كان يلوح بها دائماً. فالبعض يرى أن تطابق موعد مناورات “الغرب” العسكرية التي يجريها كل سنتين مع بيلوروسيا مع موعد القمة، ليس صدفة أن تجري هذه السنة بين 12 و16 الجاري، ويتم خلالها التدرب على إتقان استخدام السلاح النووي، وكذلك التدرب على استخدام الصاروخ الجديد متوسط المدى “أوريشكين”.
وفي 12 الجاري، وعلى عتبة القمة، ولإدراكه واقع الاقتصاد الروسي المنهك بالحرب، عقد بوتين اجتماعاً لبحث واقع الاقتصاد الروسي، ضم حاكمة البنك المركزي إلفيرا نبيوللينا، ووزراء المالية والتطور الاقتصادي وغيرهم. وعلق أحد الكتاب السياسيين الروس على موقعه في الفايسبوك في 12 الجاري، بالقول إن بوتين كان يريد أن يتأكد من قدرة احتمال الاقتصاد الروسي لتأثير العقوبات القاسية التي يهدد بها ترامب. وأضاف أنه كان من الجيد لو أن أحد الحاضرين في الاجتماع ذكر بوتين بحكاية الغجري حين قرر تدريب حصانه على الصيام عن الطعام، وكيف غمرته البهجة حين بقي الحصان عدة أيام بلا طعام، لكن الغجري صدم عندما نفق حصانه بعد ذلك. والاقتصاد الروسي المكرس منذ أربع سنوات لخدمة حاجات الحرب، قد “ينفق” تحت وطأة المزيد من العقوبات التي قد يفرضها ترامب.
لكن أكثر ما يلفت الانتباه، بل يثير الدهشة في مسار إعداد الكرملين للقمة، هو ما نشره موقع mail الروسي في 13 الجاري. فقد نقل الموقع عن نائب مدير مركز الأبحاث الأوروبية والدولية، التابع لمدرسة الاقتصاد العليا الروسي، دمتري سوسلوف، قوله للصحيفة الإيطالية corriere della sera إن بوتين سيعرض على ترامب في القمة “مخرجاً لائقاً” من الفخ الذي أوقع نفسه فيه. ويقول سوسلوف إن بوتين سيعرض على ترامب خطة ثنائية لهدنة في أوكرانيا لا تفترض مشاركة أوكرانيا والدول الأوروبية. وتتضمن الخطة جميع المطالب التي تصر عليها روسيا منذ أول جولة مفاوضات مع أوكرانيا في اسطنبول.
ويفترض سوسلوف أن ترامب سيوافق على الاقتراح، لأنه وجد نفسه في موقف حرج، بسب مخاطر فرض عقوبات على الصين والهند والبرازيل، لشرائها النفط الروسي. وهكذا يحفظ ترامب ماء الوجه بفضل عقد قمة ناجحة بشأن أوكرانيا.
وهكذا، في حين كان بوتين خلال الأسبوع الفاصل بين إعلان موعد عقد القمة ومكانها، يستعد على مختلف الصعد للقاء ترامب، ويعلن إصراره على كافة المطالب منذ اليوم الأول لحربه على أوكرانيا.. كان ترامب يشرّع كل ما ارتكبه بوتين في حربه على أوكرانيا، بمجرد دعوته لعقد قمة معه، ويبرؤه من التهم الموجهة إليه، بما فيه تهم الجنائية الدولية. كما كان يقدم التنازلات لبوتين قبل انعقاد القمة. فقد استبعد أوروبا وأوكرانيا عن المشاركة في القمة. وهو شرط بوتين الأول للقبول بالمشاركة بمفاوضات لوقف إطلاق النار.
قبل الإعلان عن القمة، كان ترامب يهدد بوتين بعظائم الأمور، وحين لم يخضع بوتين للتهديدات، نسي ترامب تهديداته، وأعلن عن عقد القمة ومكانها. وأخذت خطواته بعد ذلك تبدو وكأنها تملق لبوتين للقبول بحضور القمة، وهو الذي كان ينتظر أي تواصل مع زعيم غربي. وبعد أن أرفق إعلانه تاريخ القمة ومكانه بوعد يوحي وكأن القمة ستنتهي بعقد اتفاقية روسية أوكرانية تفترض “تبادل أراضٍ”، عاد عشية القمة ليعلن أنها مجرد تمهيد لقمة ثلاثية. وهذا ما جعل القمة تبدو وكأنها حجة للقاء بوتين وجهاً لوجه، والذي وعد به في حملته الانتخابية. وقبل يومين من موعد القمة أعلن ترامب عن تخفيف العقوبات على صناعة الطيران المدني الروسية وغيرها “لتسهيل عقد القمة”، كما وعد بوتين بالاستثمار المشترك في استخراج مواد أولية نادرة في ألاسكا وروسيا.
ولم يكن اختيار آلاسكا صدفة، بل أعفى بوتين من خطر المرور بأجواء دول موقعة على اتفاقية الجنائية الدولية في روما، التي أصدرت سابقاً مذكرة توقيف بحقه.
طرحت “المدن” بعض الأسئلة على خبيرين من الأوكران، أصحاب القضية وضحية حرب بوتين على وطنهم.
Vladimir Fesenko، رئيس مركز البحوث السياسية في رده على السؤال حول توقعاته من القمة، قال الخبير إنه لا يتوقع من هذه القمة اختراقات أو مفاجآت صادمة. وهي لن تسفر عن اتفاق محدد لإنهاء الحرب في أوكرانيا، ولا عن صفقة ترامب مع بوتين. والأخير لا يريد بعد وقف العمليات العسكرية في أوكرانيا. كما أن ترامب لا يدرك أن الموافقة على السلام بشروط روسية لن تُنهي الحرب، لأن أوكرانيا والأوروبيين لن يُوافقوا على هذا السلام.
وبشأن وقف إطلاق نار طويل الأمد، يقول الخبير بأنه ستتم مناقشته في القمة، ولكنه لا يرجح الاتفاق عليه. ويرى أن ترامب وبوتين قد يتفقان على عقد اجتماع لرؤساء الولايات المتحدة وروسيا وأوكرانيا، قد يكون في أيلول/ سبتمبر المقبل.
يقول الخبير إن أوكرانيا ترفض التنازل لروسيا عن أي أراض محتلة. لكن أوكرانيا سبق أن أعلنت استعدادها لوقف إطلاق النار عند خط الجبهة، من دون أن تعترف قانونياً بالأراضي التي تحتلها روسيا.
وقال الخبير إنه لا يتوقع فشل القمة، لأن ذلك ليس في مصلحة لا ترامب ولا بوتين. وينفي أن تكون أوروبا مستبعدة عن المفاوضات الحالية، كما ينفي استبعادها نهائياً عن هذه العملية. ويقول إن أوروبا وإلى جانبها أوكرانيا، تؤثر بصورة فعالة على عملية التفاوض، وهو ما يشهد عليه تفاوض ترامب مع الزعماء الأوروبيين ومع الرئيس زيلينسكي. وترامب مضطر ليأخذ بالاعتبار موقف أوكرانيا وأوروبا التفاوضي. إذ من دون ذلك لا يمكن أن تتحقق كل الاتفاقيات بين ترامب وبوتين.
Sergey Djerezh ، رئيس الرابطة الاجتماعية الأوكرانية الأطلسية يقول إن أوكرانيا لا تتوقع خيراً من قمة آلاسكا، بل تعتريها مخاوف من أن يتم حل مشاكلها بغيابها. ويرجح أن تتمكن روسيا والولايات المتحدة من مناقشة العلاقات الثنائية بينهما. وفيما يتعلق بأوكرانيا، فسوف يتم تأجيل حل مشاكل الحرب الروسية الأوكرانية. وهذه هي المهمة الرئيسية لبوتين: مواصلة الحرب واحتلال المزيد من الأراضي الأوكرانية. ومن المهم بالنسبة له عدم خسارة الحوار مع ترامب.
ينفي الخبير استعداد أوكرانيا لتقديم أي تنازلات لروسيا تتعلق بالأراضي المحتلة. ويُذكّر بموقف زيلينسكي من مسالة الأراضي المحتلة، والذي يقول بأن الدستور يتضمن الجواب على هذه المسألة.
يتوقع الخبير أن تفشل القمة، وذلك لأن الفكرة الرئيسية لدى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وأوكرانيا، وقف إطلاق النار من دون أي شروط. أما مقاربة روسيا فيمكن تلخيصها بالمعادلة التالية: أعطونا أراضيكم، وحينها سنتوقف عن قتلكم. ويحدوه الأمل بمواصلة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مد أوكرانيا بالسلاح، بما فيه بعيد المدى، وعدم حظر استخدامه. وحينها ستحصل أوكرانيا على بعض التكافؤ مع روسيا.
المصدر: المدن