
قبل أن نتحدث بشيء من التفصيل عما شهدته هوية لبنان منذ توقيع اتفاقية سايكس بيكو، نجد مفيدًا تعريف الأبعاد الثلاثة المحورية في الموضوع..
أولًا: لبنان:
لم يكن لبنان قد تأسس حين توقيع اتفاقية سايكس بيكو..فقد تأسس بقرار من الانتداب – الاحتلال الفرنسي لعموم سورية. إثر انتهاء الحرب العالمية الأولى وهزيمة الدولة العثمانية وتفككها اللاحق…فكان قرارها – أي فرنسا – بفصل أجزاء من سورية وإلحاقها بقضاء جبل لبنان وتأسيس دولة لبنان الكبير..تلا ذلك فورا قيام فرنسا ذاتها بتشكيل نظام سياسي يحكم لبنان الجديد يقوم على المحاصصة الطائفية ..وهو النظام المستمر حتى اليوم دون تغيير جوهري باستثناء ما نص عليه اتفاق الطائف الذي إتفق فيه أطراف الحرب اللبنانية – وهم ذاتهم أطراف النظام الطائفي الحاكم – على إنهاء الحرب..فنص – أي إتفاق الطائف – على أن لبنان بلد عربي بعد أن كان الدستور السابق يقول أن لبنان ذو وجه عربي..
ثانيا : العروبة :
هي كل تلك العوامل الثقافية والتاريخية والإجتماعية التي تداخلت فيما بينها فشكلت الشخصية القومية للإنسان العربي بعد أن تبلورت وإكتملت أبعادها الحضارية منذ ظهور الإسلام وبفضله ورعايته..فكانت شخصية متميزة بهويتها العروبية الجامعة التي إرتقت بالخصائص الإنسانية لكل أبناء المجتمع فجعتلهم عربا ذوي قيم أخلاقية مشتركة مستمدة من الإسلام ؛ وذوي هوية سامية فوق كل العصبيات والإنتماءات السابقة على تكوين الأمة الواحدة..فاصبحوا بذلك أبناء مجتمع واحد مسلمين ومسيحيين ..تبلورت عروبتهم – أي هويتهم القومية – بفضل تلك الثورة العظيمة التي أحدثتها رسالة الإسلام وما أنتجته من تطور حضاري ساهم في بنائه جميع أبناء الأمة حتى غير المسلمين ؛ مع إحترام كامل لعقائدهم وخصائصهم الدينية..تعربوا جميعا وبقي منهم مسيحيون كثيرون…إن هذا التكوين التاريخي المتدرج للمجتمع العربي بفضل الإسلام ورعايته ؛ أنشأ علاقة لا يمكن فصلها بين العروبة وبين الإسلام..ولا يعني هذا مطلقا أن كل عربي يجب أن يكون مسلما أو أن كل مسلم يجب أن يكون عربيا..ولسوف تتخذ الحرب على الامة كلها في أحد أشكالها محاولات إصطناع تناقض غير ممكن بين العروبة والإسلام..محاربة الإسلام بإسم العروبة ومحاربة العروبة بإسم الإسلام..تبنى مثل هذه المحاولات بعض أبناء الأمة من المثقفين والنخبة الناشطة ..
فالعروبة إذن هوية وثقافة وإنتماء لأمة متميزة مغايرة لكل الأمم الأخرى حتى تلك الأمم الإسلامية ..وحينما تكون هوية وإنتماء فهذا يعني الولاء أيضا : الولاء للأمة وثوابتها والإلتزام بوحدة مصيرها ..وإلا تفقد الهوية مضمونها ومعناها..
# ثالثا :
– إتفاقية سايكس – بيكو :
هي إتفاقية سرية عقدتها بريطانيا وفرنسا سنة 1916 بهدف تقسيم وتقاسم المشرق العربي وعموم الوطن العربي بينهما..وهي الإتفاقية التي كشفتها روسيا الشيوعية إثر إنتصار الثورة البلشفية على الدولة القيصرية..
فهي إتفاقية لتقسيم الوطن العربي الذي كان لا يزال موحدا تحت سلطة الخلافة العثمانية ؛ وتقاسمه بين أكبر دولتين إستعماريتين في ذلك الوقت..فكانت سورية من حصة فرنسا..ومنها سلخت فرنسا لبنان عنها واسست دولة لبنان الكبير..
ولعله من المفيد أيضا أن نؤكد على بعض الأمور التي من شأنها أن توضح ما سنقوله حول الموضوع وتضعه في إطاره السليم الذي يفتح بابا للحوار الجدي والفاعل حول محاور الحديث نظرا لما له من أهمية إستراتيجية تتعلق بحقيقة وجودنا كشعب ومستقبلنا كأمة وأوطان وحتى كأفراد..
1 – لم يكن تأسيس لبنان الكبير إستجابة لرغبة شعبية ولا إنسجاما مع متغيرات ثقافية وسياسية وإجتماعية ساهمت بتمايز في التكوين يستدعي دولة منفصلة ووطنا مغايرا..
على عكس ذلك ؛ لقي معارضات شعبية كثيرة ومبكرة من معظم أبناء الأقضية الأربعة الذين أدركوا بحسهم القومي وفطرتهم ألسليمة أن تلك خطوة تهدف لخدمة مصالح الإستعمار – الإحتلال على حساب هوية البلاد ومصلحتها الأكيدة في الوحدة والتحرر..
2 – تزامن تأسيس لبنان الكبير مع سلخ أجزاء أخرى من سورية وإلحاقها بتركيا العلمانية تحت حكم كمال أتاتورك العنصري الحاقد على العرب والموالي جدا للإنجليز..
ففي سنة 1923 سلخت بريطانيا وفرنسا الاجزاء الشمالية من سورية وألحقتها بتركية ..وهي مدن غازي منتاب وأورفة ومرسين وديار بكر وأنطالية وجزيرة عمر وغيرها..في ذات الوقت الذي سلخت فيه بريطانيا كل بلاد الأحواز العربية – أو ما كان يعرف بعربستان – سلختها عن العراق ومنحتها لإيران الحاقدة على العرب والموالية جدا لبريطانيا..وذلك سنة 1924 ..الأحواز التي تقع على كل الضفة الشرقية للخليج العربي وتتمتع بموقع إستراتيجي عظيم..
ثم أتبعت فرنسا هذا كله بمنح تركيا لواء الإسكندرون السوري العربي سنة 1939..
3 – كان كل هذا يستهدف التمهيد لإغتصاب فلسطين وتأسيس دولة الكيان الصهيوني التي تستهدف ليس فقط العروبة كهوية جامعة بل الوجود العربي ذاته وإقتلاعه حتى تتمكن من تأسيس مملكة بني صهيون الكبرى من الفرات إلى النيل وتطويع باقي أبناء الأمة..
4 – إن ما سنعرضه من افكار ومفاهيم ليست إلا عرضا لتبدل حال الهوية العروبية وما تتعرض له من أخطار ؛ وليست مواقف سياسية مؤيدة لهذا أو معارضة لذاك..
5 – كل تلك الإجراءات الإستعمارية التي أتخذتها بريطانيا وفرنسا خلال خمس سنوات من إحتلالها لبلادنا كانت تنفيذا لإتفاقية سايكس بيكو التقسيمية التي أسست للنظام الإقليمي الراهن والذي من شأنه ومن مهماته أيضا ؛ تثبيت التجزئة الإستعمارية وتحويلها إلى واقع يصعب تغييره بعد تحويل الحدود الوهمية المرسومة على الورق إلى حدود واقعية ونسج مصالح إقتصادية وسياسية وشخصية حولها تجعلها مقبولة بل مطلوب تكريسها وحمايتها من أصحاب تلك المصالح الذين صنعتهم قوى الإحتلال وأقعدتهم على مقاعد السلطة بعد أن هيأتهم ودربتهم وأنشأتهم ثقافيا وفكريا وربطتهم نفسيا ومصلحيا بوجودها ورعايتها وحمايتها لهم..فصار بقاؤهم مرهون بإستمرار رضى الإحتلال عنهم وإستمرارهم في أداء ما يرسمه لهم ويطلبه منهم..
6 – إن إغتصاب فلسطين لم يكن يستهدف فلسطين لوحدها بل يستهدف كل الوجود القومي للأمة العربية : هويتها وحضارتها وتاريخها وبالتالي مستقبلها..فهي قضية تمس صلب الهوية العروبية للمنطقة كلها .وفي قلبها المشرق العربي وفيه سورية ولبنان..وكل حديث يتعلق بهوية لبنان العربية وما تعرضت له ينبغي أن يثار ويفهم ويناقش على ضوء تحديات ٧المشروع الإستعماري – الصهيوني..بحيث لا يمكن فصل هوية لبنان لا بل مصيره كله عن فلسطين وعروبتها..
7 – إن جغرافية لبنان الكبير تجعله محاطا بسورية من كل الجهات..عدا البحر الأبيض المتوسط غربا وفلسطين جنوبا..هذا الواقع الجغرافي يجعل سورية هي المدخل الوحيد للبنان إلى العروبة والمحيط العربي..وهذا يعني تأثيرها المباشر على هوية لبنان ومصيره : سلبا أو إيجابا..وبالتالي فلا يمكن فهم متغيرات عروبة لبنان إلا والتأثير السوري حاضر فيها..
8 – لما كان المشروع الإستعماري يستهدف السيطرة على الوطن العربي وتجزئته لإضعافه والتحكم فيه ومصادرة قدرته على التحرر والتوحد والتقدم ؛ كان رأس العروبة مطلوبا للقوى الإستعمارية ..حيث أن العروبة هي الهوية الجامعة لكل ابناء الأمة ؛ فإستبعادها من وعيهم وفكرهم هو السبيل الأبرز المضمون لجعلهم يتقبلون كل أنواع الشرذمة والتجزئة وبالتالي الإنهيار ؛ وتحويل الإنقسامات إلى حقيقة واقعة يتمسكون هم بها حينما يتخلون عن عروبتهم وولائهم لها..وهذا ما يشهده لبنان بوضوح منذ تأسيسه..
9 – لبنان والعروبة : لمحة تاريخية :
كان من المنطقي جدا منذ تأسيس لبنان على أيدي الإحتلال الفرنسي أن تكون هويته العربية مستهدفة لسلخه عن محيطه العربي كمقدمة لازمة لنجاح المطلوب منه بالإبتعاد عن التفاعل الإيجابي مع قضايا أمته ٧سيما فلسطين التي يجاورها و المنوي إغتصابها وإستعمارها..
تولى هذا المهمة الإستراتيجية النظام الطائفي الذي أقامته فرنسا فيه..ففي الفترة بين إحتلاله إثر الحرب العالمية الأولى وإستقلاله سنة 1945 إثر الحرب العالمية الثانية ؛ كانت أدوات فرنسا المباشرة تتولى مهمة عرقلة التفاعل بين لبنان والعروبة..حتى أن شخصيات لبنانية هيأتها فرنسا ؛ برعت في محاربة عروبة الوطن الجديد مما أدى إلى صدامات سياسية وإختلافات إجتماعية ..
إعتمدت فرنسا على إرتباط ثقافي ونفسي لدى قطاعات من المسيحيين اللبنانيين في محاربتها للعروبة..وهي شخصيات كانت تعلمت في مدارس فرنسا وإرسالياتها التبشيرية فنشأت لا تود العروبة حتى أن بعضا منها تطرف في جفائه للعروبة فإعتبرها مخالفة لطبيعة لبنان مدعيا أن لبنان تعرض لإحتلال عربي – مسلم كما تعرض لإحتلالات أخرى رومانية وبيزنطية ويونانية..
في تلك الفترة تأسس حزب الكتائب مقلدا تجربة حزب الكتائب الإسباني المتطرف : الفالانج..حزب الكتائب الذي رعى تأسيسه ونشأته الإحتلال الفرنسي والذي نشأت وتبلورت في رحمه فيما بعد القوات اللبنانية التي تمثل اليوم طليعة التيار الذي لا يقبل الإنتماء للعروبة ويعتبر لبنان ربما جزءا من الغرب وحضارته بكل ما فيها من قيم علمانية مادية تناقض أخلاق وقيم الدين المسيحي ذاته ..
ترافق إنكار عروبة لبنان بإعلاء شأن الإنتماء الفينيقي ظنا بأنه كفيل بإعطاء أتباعه هوية مغايرة لهوية المنطقة ؛ تمكنهم من إتباع سياسة موالية للغرب وتعفيهم من مغبة الإنتماء للعروبة والولاء لمقتضياتها..
ومع بروز المشروع الصهيوني وتأسيس دولة الكيان الغاصب في فلسطين ؛ رأى هذا التيار المتنكر للعروبة ؛ إمكانية الإستقواء بالجوار الصهيوني ..فإنتفاء العروبة الجامعة يفتح الطريق لتقبل أية تحالفات أو مواقف أو ولاءات ولو كانت تستهدف العروبة ذاتها أو على حسابها..
وصل الأمر حد دخول لبنان في حلف بغداد الأمريكي سنة 1958 وإستدعاء الجيش الامريكي الذي أنزل قواته فعلا على شواطىء بيروت..لمحاربة المد القومي العربي الذي تفجر بقيادة مصر وزعامة جمال عبدالناصر التحررية..فكانت ثورة شعبية في تلك السنة أحدثت تغيرا إيجابيا في الوضع اللبناني ترافق مع سقوط حلف بغداد ذاته بقيام الثورة في 14 تموز من العام ذاته..
وخلال حكم اللواء فؤاد شهاب الذي أعقب الثورة وسقوط الرئيس كميل شمعون كانت الفترة الذهبية للبنان على صعيدين :
# الاول : التسليم بعروبة لبنان وتكامله مع العرب وذلك ترجمة لإتفاق فؤاد شهاب مع جمال عبدالناصر..
# الثاني : بدأ تشكيل مؤسسات للدولة اللبنانية تبتعد عن الفساد والمحسوبيات ..
كان المد العربي التحرري سببا في إنتعاش روح الإنتماء إلى العروبة لدى غالبية اللبنانيين بمن فيهم المسيحيين..
كان واضحا إختيار المسلمين اللبنانيين العروبة هوية وإنتماء وولاء أيضا في تلك الفترة مما تبدى في ظهور حركة شعبية لبنانية طاغية تركت آثارا عميقة في مجمل الوضع اللبناني.. وكان منها ضمور وتراجع أصوات المنادين بالتخلي عن العروبة كهوية والولاء لفرنسا مثلا..كان التماهي مع الكفاح المسلح الفلسطيني أحد إفرازات ذلك المد القومي العربي إلتزاما شعبيا لبنانيا بقضية فلسطين..الأمر الذي أرعب قوى النفوذ الأجنبي فبدأ العمل على تفجير الساحة اللبنانية للتخلص من تلك الظاهرة في بلد يجاور فلسطين المحتلة مباشرة..
كان الخطأ التاريخي للزعيم الوطني كمال جنبلاط – ومعه اليسار اللبناني الموالي للإتحاد السوفييتي – حينما إنتخب سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية سنة 1970 رافضا إنتخاب الياس سركيس كما طلبت منه مصر عبدالناصر..فكان عهد فرنجية مسرحا واسعا لبدايات عملانية لإطلاق شرارة الحرب اللبنانية في نيسان 1975..تلك الحرب التي كرست الإنقسام اللبناني حول قضية الهوية الوطنية..
قوى مسيحية منظمة ومدعومة من الخارج تقاتل ظاهريا ضد الوجود الفلسطيني المسلح وعمليا ضد أي إلتزام للبنان بالهوية العربية..يقابلها قوى وتنظيمات مدعومة من الفلسطيني و الخارج اليساري تتبنى طرحا تغييريا بإسم الإلتزام بقضية فلسطين..
في تلك الحرب إنشق الجيش اللبناني ونشأ جيش لبنان العربي الذي كان من أبرز المعبرين عن طبيعة التقاتل القائم وحقيقته أي حول هوية لبنان وإنتمائه..
كما ظهر ألى العلن تعاون عسكري وأمني بين التنظيمات المسيحية المقاتلة وبين الجيش الصهيوني..
وحينما إجتاحت القوات الإسرائيلية لبنان تغيرت التوازنات وحصلت متغيرات أبرزها :
– مغادرة القوات الفلسطينية لبنان
– إنتشاء القوات اللبنانية والفصائل المسيحية المقاتلة وحدوث مجازر صبرا وشاتيلا المروعة..
– ظهور قوى وتنظيمات في الشارع الإسلامي تتبنى العقائد المذهبية وما تفرضه من إنتماءات خارج العروبة وبالتالي ولاءات خارج إطار الوطنية اللبنانية..
– إنكفاء وتراجع كل القوى الوطنية بكل فئاتها القومية واليسارية ..
– بعد الإجتياح الإسرائيلي تصدرت المشهد أحزاب وتنظيمات مسلحة ذات طبيعة طائفية ومذهبية فتحت الدروب واسعة لنشوء تيارات وإتجاهات سياسية لا تود العروبة وتتنصل منها كهوية وإنتماء ؛ ليس فقط عند المسيحيين بل عند المسلمين أيضا هذه المرة..تعرضت بسببها فكرة الإنتماء إلى العروبة لمأزق كبير..وهو المأزق الذي لا يزال قائما حتى اليوم..
10 – تحديات أضعفت الولاء للعروبة :ثمة عوامل شوشت وعي اللبنانيين لعروبتهم فأضعفت ولاءهم لها ثم أزاحته لحساب ولاءات أخرى..
1 – التثقيف والتعليم الأجنبي عن طريق مدارس الإرساليات والتبشير..وكان له تأثيره السلبي في قطاعات مسيحية غير قليلة لجهة النظر سلبيا للهوية العربية..
وعلى الرغم من أن بداية إطلاق الفكر القومي العربي وما صاحبه من إهتمام باللغة العربية وثقافتها الواسعة ؛ قد تم على أيدي كتاب ومثقفين مسيحيين من المشرق العربي أمثال ناصيف اليازجي وأمين الريحاني وفارس الشدياق وسواهم الكثير..فكانت أفكارهم اطلاقا لدعوة عربية للإستقلال والوحدة ورفض سياسة التتريك التي أطلقها المتعصبون الأتراك في العقود الأخيرة من عمر السلطنة العثمانية..إلا أن فعالية التبشير الإرسالي التعليمي من جهة وتغلغل قوة الإحتلال الفرنسي المباشر قد منعت هذا التيار من التوسع أكثر في الأوساط المسيحية..
2 – تأسيس وصعود تيارات وقوى دينية إسلامية تعارض ألأفكار القومية والوطنية بحجة لا عصبية في الإسلام..تلقت رعاية واضحة من الدول الأستعمارية منذ بدايات القرن العشرين وإن كانت لم تصبح فاعلة مؤثرة وذات قدرة على الإستقطاب الشعبي إلا بعد تراجع فعالية المد القومي بموت جمال عبدالناصر وردة السادات الخيانية وتوقيع إتفاقية كامب ديفيد التي أخرجت مصر من دائرة الإهتمام العربي وحولتها إلى قوة مضادة للفكر القومي الوحدوي وللهوية العربية ذاتها باسم الفرعونية…
تركزت هذه القوى الدينية أولا في الأوساط ” السنية ” ثم إنتقلت إلى الأوساط الشيعية وخصوصا بعد ثورة الخميني في إيران..
3 – ممارسات النظام السوري السابق طوال فترة حكمه للبنان منذ سنة 1976 ولغاية إخراجه منه سنة 2005 عقب جريمة إغتيال رفيق الحريري..
فقد ساهمت سياسته المباشرة في إطلاق تشكيلات دينية مذهبية إنقسامية ترفض العروبة وتتبنى نوعا من الشعوبية المذهبية الفجة وخاصة في الأوساط السنية ..كألأحباش مثلا وغيرهم ..
وكانت للممارسات السيئة لذلك النظام إنعكاساتها السلبية التي فاقمت من إبتعاد قطاعات مسيحية واسعة عن العروبة كما قطاعات واسعة أيضا لدى عموم المسلمين..
فمن القمع والقهر والتسلط والنهب والإفساد المنظم إلى محاربة كل القوى الوطنية العروبية ؛ ساهمت تلك السياسات في مزيد من تراجع وإنكفاء العروبة وبعدها القومي الوحدوي التحرري..
4 – النظام الإقليمي العربي وما يعيشه ويمارسه من تخاذل وإرتهان وضعف وتشتت ؛ دفع معظم المخلصين إلى ما يسمى الكفر بالعروبة وتحميلها مسؤولية تردي الأوضاع العربية وسيادة المنهج الأمريكي – الصهيوني في إدارة شؤون المنطقة العربية ولبنان في قلبها..ومع خطورة هذا الخلط بين العروبة وبين النظام الرسمي ؛ إلا أن أعداء العروبة يمعنون في تحميل العروبة مسؤولية ما يفعله النظام الرسمي العربي..مع ان كثيرين ممن يهاجمون العروبة حاليا إنما يفعلونه بسبب نقمتهم على الوضع ورغبتهم في دور اهم وأفعل وأوسع للرابطة العربية .
5 – تراجع دور منظمة التحرير الفلسطينية منذ توقيع إتفاق أوسلو سنة 1994 وما أنتجه من سلطة فلسطينية إقليمية فاسدة متواطئة مع الإحتلال وخصوصا بعد قتل ياسر عرفات..
أدى هذا إلى تراجع الوعي الشعبي بابعاد قضية فلسطين والخطر الصهيوني مما فتح المجال الواسع لدعاة ” السلام ” بتعميم مفاهيمهم ورؤاهم حول فلسطين..وهو ما أدى إلى تراجع الإهتمام بالجهاد ضد المشروع الصهيوني ومقاومته كتعبير عن الوعي القومي والإلتزام بهوية العروبة والولاء لها..
وإذا أضيف إلى هذا بعض أخطاء الممارسة التي إرتكبها بعض المسلحين الفلسطينيين خلال تواجدهم على الأرض اللبنانية ؛ فإن مبررات متعددة تسوقها قوى النفوذ الأجنبي لإستبعاد العروبة كهوية من عقول ووعي اللبنانيين – وسواهم من العرب – تمهيدا لتنفيذ مخطط تقسيم الوطن العربي والمجتمعات الإسلامية إلى كيانات مذهبية متناحرة وفيدراليات طائفية وعرقية إنفصالية تحت الوصاية الأجنبية..
6 – ممارسات سلبية لأنظمة رفعت شعارات قومية ولم تتعامل وفقها مع لبنان ..كما هو حال البعث في سورية ولبنان..
7 – المشروع الغربي الإستعماري والصهيوني يحارب العروبة كهوية جامعة فوق العصبيات ، يحاربها في كل تفاصيلها ومقوماتها وقيمها..بل يشن حربا عالمية شاملة على الوجود العربي من أساسه والإسلام دينا وحضارة في قلبه..
8 – أصوات ونخب عربية كثيرة بعضها عن قصور وعي وفهم وكثير منها عن حقد وخبث وإرتهان للفكر المعادي ؛ أصوات تريد إثبات أنه لا توجد أمة عربية وأن القومية العربية شعارات جوفاء لا معنى لها أو أنها فقدت قيمتها فخسرت مريديها فلا حاجة لنا اليوم بها..
غاية كل هذه الحرب الممنهجة على القومية العربية هي إلغاء ما يجمع لفتح الطريق امام كل ما يفرق ويشتت وبالتالي يتسبب بالإنهيار وعدم القدرة على مواجهة العدوان و الاخطار والاطماع وما أكثرها وما أكثر مصادرها وأدواتها المحلية ..
# التحديات الراهنة على العروبة في لبنان :
1 – النظام الطائفي القائم فهو بحكم طبيعته وخضوعه للحمايات الأجنبية , يتضرر من نمو مشاعر الإنتماء إلى العروبة..فيحاربها بوسائل متعددة ..يحاصر دعاتها ويشجع أخصامها..
2 – الدعوات الدينية المذهبية فهي بطبيعتها تحمل فكرا شعوبيا إنقساميا لا يعترف بالولاء للامة الواحدة..فيختار لذاته ولاءات خارج العروبة يرتبط بها دينيا ومذهبيا ويعطيها ثقته ويلتزم بتوجهاتها السياسية كافة فيصبح وكأنه جزء أصيل من تكوينها..
لقد تجاوز هذا النوع من الشعوبية المذهبية ما سبقه من مفاهيم شعوبية..ففي أواسط القرن العشرين برزت شعوبية طائفية ترفض العروبة بإسم الهوية الدينية.. تقابلها شعوبية يسارية تنكر وجود أمة عربية ..لكنها لم تأخذ مداها..أما الشعوبية المذهبية التي ظهرت وتجلت منذ أوائل سبعينات القرن العشرين فقد إمتلكت إمكانيات كبيرة وتسهيلات متنوعة مكنتها من التوسع والإنتشار متخفية وراء أهداف عامة تواري طبيعتها الإنقسامية قوميا والإنقسامية دينيا ؛ والرافضة للعروبة هوية وإنتماء وولاء..تقابلها شعوبية طائفية وأخرى علمانية حداثية تتخلى عن العروبة باسم الحداثة والتقدم..
إن الشعوبيات المذهبية تشكل خطرا محدقا بالهوية العربية للبنان وكل المنطقة – أشد فتكا وضراوة من الشعوبيات الطاىفية واليسارية – نظرا لبعدها الديني وإلتصاقها بقطاعات واسعة من أبناء الوطن من المسلمين الذين من المفترض أن يكونوا عماد الهوية ولحمة روابطها الوطنية والقومية..
3 – العولمة الرأسمالية :
تشكل العولمة الرأسمالية السائدة والتي تستحوذ على إهتمامات جميع فئات المجتمع ؛ خطرا داهما طاغيا يهدد هوية المجتمع الثقافية وقيمه الأخلاقية وتوجهاته المستقبلية..
هذه العولمة التي تنشر الثقافة الإستهلاكية والنزعة المادية الفردية وتكرس الذاتية النفعية معيارا للقيم والعلاقات ؛ وتسوق كل تفكير سطحي مبتذل وتسخف كل قيمة إنسانية وتفرغها من مضمونها الإيجابي وتفرض على الإنسان إهتماما وحيدا بالمظاهر وبحياة اللهو والتسلية والمتعة ؛ وتسوق لكل أنواع الشذوذ والإنحدار الأخلاقي ؛ إنما تضع الأسس المتينة لتفكك المجتمع ثم تفكك الأسرة ثم تفكيك الإنسان الفرد ذاته وتحويله إلى إنسان غرائزي أحادي الجانب تموت فيه كل دوافع الإنسانية والقيم الأخلاقية والإهتمام بأمور مجتمعه ومصيره ؛ وصولا إلى أن يفقد إحساسه بهويته ويتنصل من إنتمائه ليصبح ولاؤه لكل ما يشبع رغباته المادية وإحتياجاته الغريزية أيا كان وأيا كانت متطلبات الحصول على ذلك الإشباع..
وهذا هو النموذج الأصيل للإنسان اللا منتمي والذي لا قضية تحركه ولا هوية تعنيه ولا مشاعر تسنده..
هذه أخطر مراحل الحرب على الهوية والإنتماء بل أخطرها على الإنسان ذاته..
# خلاصات :
1 – ليست العروبة خيارا أو موقفا سياسيا أو موضة ثقافية بل هوية شخصية لكل فرد ينتمي إلى الأمة ايا يكن إنتماؤه الديني أو رأيه السياسي..و أية محاولة للتخلي عنها سوف تؤدي حتما للوقوع في ولاء أجنبي غير عربي ويفتح الابواب أمام طلب الحمايات الأجنبية و كل الدعوات التقسيمية المشبوهة والتي لن ترحم أحدا بل تدمر الجميع..
2 – إن علاقة العروبة بالإسلام علاقة تكامل وتفاعل..فالإسلام دين وحضارة والعروبة هوية وإنتماء..تفاعلا عبر التاريخ في مسيرة تكوين وإنتشار بلورت شخصية عربية متميزة لا إمكانية لإنكار أسسها وقيمها أو لإلغائها ..وكل من يعادي أحدهما بإسم الآخر إنما يساهم في تقويض شخصية الأمة وبنيانها لتركها فريسة الأطماع الأجنبية بمختلف دوافعها وغاياتها..
3 – إن عروبة لبنان هي خياره المصيري الوحيد المتاح للوجود والبقاء..وكل تخل عنها أو تبني البدائل عنها ؛ إنما يبقي لبنان مقسما غير قابل للحياة والإستمرار..البديل عنها لن يكون إلا خضوعا للمشروع الصهيوني أو الإرتماء في أحضان ولاء آخر لهذه الدولة الإقليمية أو تلك..
إن الفترة الوحيدة التي عرف لبنان فيها الإستقرار والإزدهار وبناء المؤسسات الرسمية هي تلك الحقبة الناصرية حيث المد القومي والتسليم بعروبة لبنان في خمسينات وستينات القرن العشرين..وتلك تجربة تكفي لمن يخلص لوطنه التسليم بهذه الهوية كجامعة للكل فوق كل انواع العصبيات الإنقسامية..وما كان قبلها وما جاء بعدها لم تكن إلا حقبا من التوتر والإضطراب وفقدان إتجاه المستقبل..
4 – إن عروبة لبنان لا تعني مطلقا ذوبانه في أي كيان عربي آخر بل هي قيمة مضافة إلى ميزاته وعاصم له من الإنهيار والسقوط وداعم له للتطور والتقدم..
5 – ستبقى ناشطة كل دعوات التقسيم والتخلي عن العروبة قائمة في لبنان ما بقيت فلسطين مغتصبة وسورية غير مستقرة..إن إستقرار لبنان بلدا عربيا مزدهرا مرهون بزوال الكيان الصهيوني وقيام حكم وطني شعبي ديمقراطي في سورية..ولن يتم كل هذا ما لم تتحد مصادر القوة العربية وفق اية صيغة ممكن من صيغ الإتحاد..
6 – إن كل المببرات التي رفعها بعض اللبنانيين للتخلي عن هويتهم العربية ؛ كالفينيقية مثلا ؛لم تكن تستند إلا إلى معلومات خاطئة وخلفيات عصبية .فالفينيقيون تبين الأبحاث العلمية الحديثة أنهم جميعا من أصول عربية تاريخية واحدة..إنهم عرب كما كل الحضارات التي عرفتها بلاد الشام قبل الإسلام ولغاتهم من أصول جذرية واحدة مع اللغة العربية..
7⁵ – جميع هذه الأخطار ماثلة في واقعنا تفتك بحياتنا وتنتهك هويتنا الثقافية وقيمنا الأخلاقية المشتركة فهي ألد أعداء عروبتنا والإرتقاء بها إلى مستوى الوفاء والإلتزام..
ما لم يحدث تغيير نوعي في الحياة العربية قريبا فقد يستمر التدهور وتزداد العروبة ضعفا..
حدثان فقط يمكن أن يساهما بدفع مسار العروبة في لبنان والمنطقة :
الأول : عودة مصر إلى موقعها القيادي والريادي في المنطقة كحام للروابط القومية ومعزز لها..
الثاني : إنتصار شعب فلسطين ومقاومته العظيمة على الكيان الصهيوني والذي سيهدد وجود الكيان بتصدع قريب وإنهيار حتمي..
إلى أن يحصل هذا على كل المخلصين للإنسان والوطن والأمة وللعروبة العمل بجد وتعاون مستمر وتضامن عميق لصون الهوية وحماية المجتمع وقيمه وثوابته ومواجهة كل أنواع العصبيات الانقسامية وأخطرها في صفوف المسلمين .. وإلا فالصهينة ماثلة أمامنا تلاحقنا للالتحاق بها خدما أذلاء وعبيدا صاغرين.