من يملك البيانات… يملك العالم: معركة السلطة في زمن الخوارزميات

   صفوان جمّو 

في عالمٍ يتغير بسرعة الضوء، لم يعد القوي هو من يملك الجيوش، بل من يملك أسرارك.
الهاتف في جيبك ليس مجرد وسيلة تواصل، بل نافذة مفتوحة على وعيك، و”سلاح” يجمع عنك كل ما يمكن استخدامه ضدك… أو لتوجيهك كما يشاء الآخرون.

هكذا نشهد ولادة عصر جديد، حيث تتحول شركات التكنولوجيا إلى إمبراطوريات، وتصبح البيانات هي النفط، والخوارزميات هي الجيوش التي تتحكم في مصائر الشعوب.

العصر الرقمي: معركة السلطة بين الأفراد والعمالقة

في العقود الماضية، كان يُظن أن القوة المطلقة حكر على الجيوش والدبابات والأساطيل، وأن الحكومات وحدها هي التي تملك قرار الحرب والسلم. لكننا اليوم أمام مشهد مغاير كلياً؛ فقد ظهر لاعب جديد في ساحة السلطة العالمية: شركات التكنولوجيا العملاقة، تلك التي تتحكم في خوارزميات تصوغ وعينا، وتعيد تشكيل ثقافتنا، بل وتؤثر على خياراتنا السياسية والاجتماعية.

في هذا العصر الرقمي، لم يعد النفوذ السياسي يقاس بعدد الجنود أو حجم الترسانة، بل بحجم البيانات التي تمتلكها الشركة أو الدولة. الفضاء الرقمي، الذي بدأ كحلم إنساني لتقريب المسافات وتبادل المعرفة، تحوّل إلى ساحة صراع بين قوى متعددة، حيث تملك الشركات عابرة القارات من النفوذ ما يفوق أحياناً سلطة الحكومات نفسها.

إن الإنترنت، بما يحمله من قدرة على اختراق الحدود الجغرافية، منح هذه الشركات سلطة مطلقة على مليارات الأفراد. الحكومات تتخبط في محاولة اللحاق بالتطور المذهل، بينما الشركات تمضي بثقة نحو تكريس هيمنتها. صمت الشعوب يمنح هذه الكيانات الضوء الأخضر، أما الفعل الواعي والمطالبة بالحقوق الرقمية فيمكن أن يقلب موازين القوة.

المستقبل يمكن أن يكون ملكاً للأفراد إذا استيقظوا ورفضوا أن يكونوا مجرد “بيانات” تُباع وتشترى. لا بد من جعل كل فرد وصياً على عالمه الرقمي، وأن يلتزم المبرمجون والعلماء بميثاق شرف تكنولوجي يضع الإنسان قبل الأرباح. وإن لم نفعل، فسنجد أنفسنا أمام سباق تسلح رقمي بين القوى الكبرى، حيث تُستهدف المجتمعات كما تُستهدف الجبهات.

وكيلا يظن أحد أن ما نقوله مجرد خيال سياسي، فلننظر حولنا:

  • في الانتخابات الأميركية عام 2016، استخدمت شركات تحليل البيانات مثل “كامبريدج أناليتيكا” معلومات شخصية عن عشرات الملايين من الناخبين لاستهدافهم بحملات دعائية موجهة، قلبت موازين التصويت.
  • في البرازيل والهند، أدارت جيوش إلكترونية مدفوعة الأجر حملات واسعة عبر الشائعات والفيديوهات المفبركة لتشكيل الرأي العام.
  • وفي الحرب السورية، كان ميدان القتال الرقمي لا يقل ضراوة عن المعارك على الأرض؛ فقد تحولت الفيديوهات المسربة، والمقاطع القصيرة على فيسبوك ويوتيوب، وصور الضحايا، إلى أسلحة إعلامية تُبنى بها روايات، وتُسقط أخرى، وتؤثر في قرارات المجتمع الدولي، بل وتعيد تشكيل صورة الصراع في أذهان الملايين حول العالم.
  • وفي الحروب الحديثة، من أوكرانيا إلى غزة، لم تعد المعركة تدور فقط على الأرض، بل على شاشات الهواتف، حيث تُخاض حرب الروايات قبل أن تُطلق أول قذيفة.

إن بياناتك اليوم ليست مجرد أرقام في ملف، بل هي سلاح سياسي وعسكري واقتصادي. من يملك هذا السلاح يملك القدرة على هندسة وعيك، وتغيير قناعاتك، وصناعة قراراتك المصيرية دون أن تدري.

الخطر ليس قادماً… إنه هنا، بين يديك، في هاتفك الذي لا يفارقك، وفي كل نقرة، وكل إعجاب، وكل كلمة تكتبها على الإنترنت.

المصدر: نينار برس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى