في ذكرى اغتيال المفتي الشيخ حسن خالد
حين دخلت قوات (الردع العربية) سنة ١٩٧٦ إلى لبنان عقب اندلاع حرب عبثية أهلية فيه؛ كان الشارع اللبناني يعج بتيارات سياسية وثقافية وطنية واعدة متجاوزة لأسس التركيبة الطائفية والتقسيمات المذهبية التي كان يغذيها النظام اللبناني ويتعيش على تأجيجها.
كان الشباب اللبناني يتأهب بتحركاته النضالية والوطنية والمطلبية مبشرا بتغييرات بنيوية في المجتمع اللبناني تؤدي إلى تغييرات في طبيعة النظام الطائفي الحاكم والمحمي بالرعاية الأجنبية.
كان لبنان تجمعا ثقافيا ناشطا متحركا غزير الإنتاج متنوع الاهتمامات والحوارات والمنتديات طامحا إلى وطن جديد ومستويات متقدمة من الوعي بالسياسة والتاريخ ومستلزمات الانتماء الوطني. ولكن الحرب جمدت كل هذا النشاط فتقدمت الساحة قوى ميليشيوية مسلحة – بدفع خارجي – لتحتل واجهة الأحداث وصدارة المشهد إلى حين..
كانت قوات الردع غطاء عربيا للقوات النظامية السورية والتي ما لبثت أن مارست تعديات مباشرة على القوات العربية غير السورية المشاركة فيها؛ فلم تمض عدة أشهر فقط حتى هربت تلك القوات العربية من المضايقات السورية، لتستفرد القوات النظامية السورية بالتواجد العسكري على معظم الأرض اللبنانية. كان دخولها على أساس المساعدة في وقف الحرب وإنقاذ ” وحدة لبنان وعروبته ” من مؤامرة دولية …! وسرعان ما تكشفت مهماتها الأساسية بعد أن توضحت بعض خلفيات إدخالها إلى لبنان بناء على تكليف من العزيز هنري لتحقيق مهمات معينة بذاتها لا تستطيع قوات أجنبية تحقيقها بما فيها الأمريكية..
وبسرعة كبيرة تصاعدت وتيرة ممارسات أمنية سورية تتنافى قطعيا مع نهج حماية وحدة لبنان أو عروبة لبنان.. وبدأت علامات استفهام شعبية كبيرة تطرح حتى في تلك الأوساط التي رحبت بدخول قوات الردع العربية منطلقا لوقف الحرب ومساعدة اللبنانيين. وراحت أصوات منها تتصاعد مستنكرة تصرفات ومواقف رسمية سورية كثيرة غير مقبولة ولا تخدم ابدا الأهداف المعلنة رسميا لها.. لا بل تتنافى معها…ثم بدأت الأنياب الأمنية تكشر عن سمومها..
كان الهدف الأول إزاحة التيارات والقوى الوطنية الرافضة للانصياع للسياسة الرسمية السورية. فكان اغتيال القائد الوطني كمال جنبلاط مبكرا خطوة أساسية في الحرب على الشارع الوطني..
(هذا طبعا بعد تدمير مخيم تل الزعتر وما فيه من قوة لبنانية وفلسطينية)..
ثم انطلقت سياسة تفكيك البنية المجتمعية وما فيها من ركائز وطنية توحيدية لتمهيد أرضية صالحة لتأسيس حركات انقسامية طائفية ومذهبية بديلا عن الاتجاهات الوطنية التوحيدية. ثم حصل اختطاف وإخفاء الإمام موسى الصدر رغم أنه كان في المعسكر المرحب للدخول النظامي السوري، إلا أن ثقله الوطني والإسلامي الجامع كان مصدر إزعاج للسياسة الرسمية السورية.. وقد اتضح لاحقا أن فعاليته الإيجابية المعتدلة في الوسط ” الشيعي ” كانت سببا أساسيا في التخلص منه للتحضير لظهور لاحق لفعاليات شيعية من نوع آخر. تتناسب مع المهمات المرسومة للدخول السوري إلى لبنان..
وبدأت سياسة محاصرة أي صوت معتدل. أي صوت وطني. أي صوت عروبي.. لا بل أي صوت حر في أي مجال حتى لو بعيدا عن السياسة وأي دور سياسي. ووجد كل صاحب أخلاق وسيرة طيبة حميدة، وجد نفسه مستهدفا محاصرا متهما: إما يتعامل مع الأجهزة الأمنية السورية أو يصبح هدفا لنيرانها. وتقدم المشهد أفاقون وفاسدون ومنافقون وقوادون ليصبحوا أصحاب النفوذ الأول والمرجعيات للناس في شؤون حياتهم وتفاصيلها..
ثم تتالت موجات القهر والاعتقال والتعذيب والتعديات والسرقات…ثم ظهرت دعوات مذهبية تقسيمية شعوبية حاقدة على كل صوت عروبي وكل نهج ديني توحيدي..
برزت فجأت جماعة حملت اسم الأحباش (جماعة الشيخ عبد الله الحبشي والذي تبين فيما بعد أنه من يهود الفالاشا ولم يعرف كيف دخل إلى لبنان …؟!)، انطلقت من الوسط الطلابي في الجامعة الأمريكية فكانت أنشطتها فيها برعاية إدارة الجامعة وبتسهيل منها. وبسرعة انطلقت لها أنشطة دينية واجتماعية في بيروت وفي الأوساط ” السنية ” تحديدا. وبرعاية تامة من الأجهزة الأمنية السورية وبحمايتها الكاملة. وبسرعة كبيرة أصبحت جماعة الأحباش المذهبية السنية التقسيمية التكفيرية المغلقة المنغلقة العقل والقلب وليس لها او فيها وجدان أو إيمان بل كانت كتلة من العقم الفكري والانسداد النفساني والنهج التكفيري البغيض المتطرف، بسرعة كبيرة أصبحت جماعة مسلحة تهدد من يعترض دعوتها المشبوهة وأصبحت صاحبة النفوذ الأفعل لدى السلطات السورية. إلى أن أدخلتها إلى النظام اللبناني فأصبحت لها حصة دائمة في مجلس النواب وفي الحكومة.
في تلك الظروف كان مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ حسن خالد رمزاً وطنياً حراً توحيدياً يسعى بفعالية لوقف التقاتل وتوحيد الصوت الإسلامي والوطني الرافض للحرب؛ وقد شكل بثقله الديني المعتدل المنفتح المتنور الحر عقبة هامة أمام المشروع التقسيمي التخريبي للأجهزة السورية. فحركوا جماعة الأحباش ضده لكنه تغلب عليهم بالفكر المستنير والدعوة التوحيدية المخلصة المتعاونة مع كل اللبنانيين الأحرار لمصلحة الوطن. وحيث أن السمة الغالبة في الأوساط الإسلامية:” السنية ” كانت عروبية توحيدية…فكان قرار السلطان الأعظم بالتخلص منه وإزاحته من طريقهم المذهبي البغيض الحاقد. وهكذا كان ففجروا سيارته ب مئة وخمسين كيلوغراما من المتفجرات؛ مزقته وأودت بحياة الكثيرين غيره…ثم كان اغتيال رشيد كرامي رئيس حكومة لبنان المتمسك بنهج العروبة الرافض للانصياع للأجهزة الأمنية. ثم اغتيال الشيخ العلامة المتنور الدكتور صبحي الصالح ابن طرابلس ثم الشيخ القاضي أحمد عساف ابن بيروت.. وكثيرون غيرهم ممن رفض الانصياع لأجهزتهم الأمنية. تلاهم اغتيال قاضي المذهب الدرزي الشيخ العلامة الوطني التوحيدي حليم تقي الدين..
أزاحوا الشخصيات والمرجعيات المعتدلة المستنيرة التوحيدية الوطنية وفرضوا أذنابهم وعملاء أجهزتهم من المتطرفين والأوباش والمرتزقة المأجورين..
أما في الوسط ” الشيعي “فقد كان اختطاف وإخفاء الإمام العلامة المرجع السيد موسى الصدر فاتحة إبراز مرجعيات لا تمت للأخلاق الوطنية بصلة ثم مرجعيات ذات خلفيات مذهبية شعوبية معادية للعروبة ولوحدة لبنان بل للبنان من أساسه..
وبعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام ١٩٨٢ وإخراج القوات الفلسطينية منه؛ تركزت الجهود الرسمية السورية على إبعاد وتفكيك جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية التي صنعت المقاومة الحقيقية ضد العدو الإسرائيلي في جنوب لبنان ومحاصرتها ومنعها من ممارسة أي نشاط مقاوم لتترك الساحة تحديدا ل ” مقاومة مذهبية حصرية ” لميليشيات حزب الله الموالي لإيران.. ولو اضطر ذلك إلى اعتقال أو اغتيال طاقات نضالية وطنية لبنانية حرة. وهكذا تم إخلاء الساحات من الرموز الوطنية التوحيدية وإطلاق الأصوات المذهبية الطائفية التقسيمية المعادية لعروبة لبنان ولوحدته..
أما في الوسط المسيحي
فقد سبق كل هذه الاغتيالات محاولة اغتيال العميد ريمون إده زعيم حزب الكتلة الوطنية الذي كان من أوائل المتنبهين للأهداف الخبيثة للنظام السوري في لبنان والمعارضين لدخوله إليه. وكان أول من كشف النقاب عن اتفاق سوري – إسرائيلي برعاية أمريكية هندسها هنري كيسنجر؛ لإدخال قوات سورية إلى لبنان تكون مهمتها الأساسية القضاء على لبنان البلد النموذج التعددي دينيا وثقافيا والذي يناقض فكرة الصهيونية ويشكل بديلا لها. كما كان يعلن العميد مرارا وتكرارا. ثم هجروه فغادر لبنان مبكرا منذ سنة ١٩٧٦ ومات في فرنسا دون أن يرى وطنه مذ ذاك أبدا..
كذلك كان الأمر فيما يتعلق بالأوساط الشبابية الحرة فقد حاصروها وضايقوها فأبعدوها لصالح الأصوات التقسيمية الطائفية المتطرفة؛ وكانت مساهماتهم أساسية في إعلاء شأنها وممارسة كل ما يدفعها إلى مزيد من القوة والتطرف والانغلاق..
وهكذا برزت حركات وتنظيمات دينية مذهبية تقسيمية متطرفة برعاية الأجهزة الرسمية السورية.. في كافة الأوساط اللبنانية.. وفي المدن الرئيسية الثلاث بيروت وطرابلس وصيدا كذلك في المخيمات الفلسطينية. بعد أن تم استبعاد كل صوت توحيدي عروبي حر..
وحينما خرجت القوات السورية على عجل بأمر أمريكي علني إليها بالخروج، كانت الميليشيات المذهبية – الإسلامية تحديدا – قد أصبحت قوة يحسب لها حساب؛ ممولة مسلحة محمية بكل أشكال النفوذ الأجنبي.
هكذا تحت شعار حماية وحدة لبنان وعروبته، دمرت الأجهزة الأمنية السورية كلا من وحدة لبنان وعروبته معا وتركته نهبا مقسوما بين قوى سياسية فاسدة ذات ولاء أجنبي مشبوه. لا يزال الشعب اللبناني يدفع ثمنها الباهظ إلى الآن. فيما تم تدجين النقابات العمالية ومعظم الأحزاب والحركات السياسية فانضوت تحت أجنحة النظام الأمني السوري وحمايته الدولية؛ ولا تزال..
وكما كان دوره في محاربة النهج الوطني والعروبي في لبنان وتأسيس تكينات وتشكيلات مذهبية انقسامية شعوبية تكفيرية متطرفة، فقد برز دوره هذا بصورة أشد وأخطر في سورية والمشرق العربي عموما. وما نهجه الإجرامي التدميري في التعامل مع الشعب السوري ذاته إلا تعبير عن ذلك الدور..
وحتى حينما قامت انتفاضة لبنانية تحمل قسمات انصهار وطني خلف مشروع مطلبي وطني جامع ضد فساد السلطة وتبعيتها؛ تحركت أدواتها المحلية للعدوان على الشباب المنتفض؛ تكريسا لنهجها الذي تلتزم به منذ تأسيسها: محاربة كل تحرك شعبي حر وطني او عروبي أو مطلبي..
في ذكرى اغتيال المفتي الشهيد الشيخ حسن خالد، تحية له ولدوره الوطني الإيماني التوحيدي المعتدل والذي سيبقى دليلا ومرجعا لكل لبناني حر.
مع الاسف وتستمر الموءامرة والاخطر هو انزلاق من ادعى الوطنية والعروبة تحت مظلة الميليشيات المذهبية العميلة