في عددها الصادر في 24 الجاري نشرت صحيفة الشروق مقالًا للأستاذ عبد الله السناوي بعنوان “إيران وتركيا ونحن… الاستدارة الاستراتيجية حولنا ” والمقال مهم لطبيعة كاتبه، وللعرض المقدم فيه وزاوية النظر المقدمة، ولهذه الأهمية كان لابد من التعليق على هذا المقال.
مشكلة الذين ينظرون إلى الأحداث والصراعات من علو معين، أنهم لا يرون فيها إلا صراع دول ونظم، ويغيب عنهم ما للشعوب في هذه الصراعات من أدوار وأهداف، وما تدفع من أثمان، ثم انهم من هذا العلو يفقدون حاسة الشم الضرورية لمعرفة حقيقة ما يجري على الأرض.
وإذا كان حديث أخانا الأستاذ القدير عبد الله السناوي عن الاستدارات الاستراتيجية الجارية حول الإقليم، ومصر التي في قلب هذا الاقليم يكاد لا يظهر لها دور ولا أثر، فإن الأضواء تتركز حول إيران وتركيا، وتبدو كل التوقعات والقراءات المقدمة والبعض منها يبدو صحيحا، يغيب عنها دور ومكانة وأثر الشعوب في منطقة الصراع هذه.
وإذ يذهب الحديث هنا إلى سوريا واليمن والعراق، فإن تخصيص الحديث عن سوريا له رمزية مميزة، باعتبار تداخل أدوار الدول الأربعة الطاغية وميليشياتها ومجموعاتها الخاصة: إيران، تركيا، روسيا، الولايات المتحدة. ولو دققنا في هذا المقال لرأينا أن المشهد الرئيسي لإيران ” الاستدارة الاستراتيجية” اختص بالعلاقة مع واشنطن والاتفاق النووي الذي يعاد توليده، أما المشهد الرئيسي لتركيا فقد اختص بالعلاقة بين أنقرة والنظام السوري.
وفي هذا المشهد الأخير لا وجود، ولا أثر للشعب السوري، ولا وجود، ولا أثر لحراكه الثوري، أو تضحياته، ولا وجود ولا أثر لنحو مليون قتيل ومفقود، ولا وجود ولا أثر لعشرات المذابح والتصفيات الموثقة التي استهدفت المدنيين التي ارتكبها النظام بمختلف أنواع الأسلحة، ولا وجود ولا أثر لأكثر من أحد عشر مليون مهجر ونازح، وقد بدا الأمر في كل المقال وكأنه مجرد صراع بين هذه الدول، فإذا أمكن معالجة هذا الصراع من هذه الزاوية فإن الأمور تعود الى طبيعتها، أو توضع على السكة الطبيعية لها.
هذه الطريقة في المعالجة تتكئ على منطق النظام بأن ما جرى في سوريا لا يعدوا أن يكون مؤامرة دولية على هذا البلد، مجرد مؤامرة دولية، وأن هذا النظام خرج منتصرا منها، وأن المطلوب والممكن الوحيد هو ترميم ما نتج عن هذه المؤامرة.
في هذه المعالجة ظلم فادح للشعب السوري، وصَمَمٌ معيب في الرؤية والطرح، وتخلٍ غير مقبول عن شعب نكب بما لم ينكب به شعب آخر منذ نكبة فلسطين
لا شك أن قوى عربية، وإقليمية ودولية تدخلت في الملف السوري، تدخلت بالمال والسلاح، تستوي في ذلك الدول العربية وغير العربية القريبة أو البعيدة، ولا شك أن كل من تدخل بهذا الملف تدخل لمصالحه، وكثير من هذه المصالح لا أصل لها إلا الرغبة في تدمير هذا البلد خوفا من أدواره الحيوية المتوافقة مع عمقه التاريخي، وأفقه الجيوستراتيجي.
ولعل تركيا تكون هي الدولة الوحيدة التي لها من مصالحها الأمنية “دالة” للتدخل في سوريا، وهي الوحيدة أيضا من دول الجوار التي استقبلت اللاجئين السوريين على مدى سنوات عدة استقبالا لائقا، لكن تركيا في كل الأحوال تنظر إلى الملف السوري من منظور مصلحتها، حتى الاستقبال المميز للاجئين يأتي ضمن رؤيتها للمصلحة التركية ببعدها التاريخي، والمصلحة التركية الرئيسية الراهنة التي تتفق من زاوية معينة مع مصلحة سوريا شعبا ووطنا، تستهدف أمرين اثنين:
الأول: يتمثل بالأمن القومي التركي، الخاص بإبعاد الحركة الانفصالية الكردية عن خط الحدود مع سورية ـ وهذه الحركة تهدد وحدة سوريا أرضا وشعبا ـ وهو مطلب ليس بالجديد، وقد سبق أن رأت تركيا ضرورة تمديد العمق الأمني في الداخل السوري من ستة كيلو مترات اتفق عليها في اتفاقية أضنة العام 1998 إلى ثلاثين كيلو مترا.
والثاني: حل مشكلة اللاجئين السوريين بتأمين نظام سوري يوفر الاحساس بالأمن والاستقرار لكل المواطنين بما يشجع ويسمح لهؤلاء بالعودة الآمنة الى ديارهم.
وإذا كان الهدف الأول ممكن وغير معقد، ممكن لنظام بشار الأسد أن يؤمنه، فإن الهدف الثاني مستحيل في ظل بقاء هذا النظام، وقد دلت تجارب “المصالحات” عقم أي حل يعتمد على النظام ومؤسساته الأمنية والسياسية.
ويبدو أن كل الجهود الروسية والإيرانية تبذل مع أنقرة كي تقبل بجعل نظام بشار الأسد هو المتكفل بملف اللاجئين، والأمين عليه، وإذا كانت تصريحات عديدة خرجت من مسؤولين أتراك فُسرت في هذا الاتجاه، فإن الأخذ بهذا السبيل سيؤدي إلى نتائج كارثية على ملف اللاجئين، وعلى مستقبل الأزمة السورية، وعلى أمن المنطقة وما يتصل بها من أزمات.
إن اختفاء وجود الشعب السوري من مثل هذه التحليلات والمطالعات لصحفيين وكتاب يجب الوقوف عليه مطولاً، إذ لا يمكن فهمه وتفسيره بنقص أو شح المعلومات، ولا يمكن تبريره باختلاف الأولويات في فهم خارطة الصراع، وبسبب كثافة الحضور الطائفي والعنصري وأثرهما المدمر للبنية الوطنية للمجتمع في سوريا ـ وفي بلدان الصراع الأخرى العراق واليمن ولبنان ـ فلا يمكن قبول أي تبرير يستند إلى أساس قومي أو يساري عربي.
قد يعتقد البعض أن في سوريا نظام طائفي فاسد ومستبد فقط، ولو كان الأمر كذلك لكانت فرص معالجته أرحب وأيسر، إذ أن هذه الأوصاف للنظام السوري لم تغادره من يوم أن تسلم البعث السلطة في سوريا، وتأكدت هذه الأوصاف بقوة بعد أن استبد الطائفيون بالسلطة عقب انقلاب 23 فبراير 1966 الذي دفع بصلاح جديد وحافظ الأسد ورفاقهما إلى قمة السلطة، ومن ثم عقب انقلاب 16 نوفمبر 1970 حين استأثر الأسد لوحده بالسلطة.
ورغم كل ما فعله الأسد الأب بالشعب السوري من ظلم ومذابح، فقد كان متاحا أن تطوى هذه الصفحة، وأن يقبل الشعب السوري بالتحول التدريجي إلى نظام ديموقراطي يتجاوز واقع الاستبداد، وتغلق فيه بوابات الفساد، وتتساقط منه الطائفية بكل مظاهرها. لكن الأسد الابن اختار طريقا آخر، اختار أن يعمق الاستبداد والفساد والطائفية، وأن يحيط هذا كله ببحر من دماء السوريين، وبتدمير الوطن، وتهجير أكثر من نصف أبنائه، وبجعله رقما ملحقا في استراتيجية ولاية الفقيه الفارسية العنصرية.
وهو بهذا قطع كل سبيل لأي حل لا تكون بدايته الانتهاء من هذا النظام. ولا يكون مدخله عدالة وأمن يعطي السوريين القدرة على إعادة بناء وطنهم.
الحق أنني لم أفهم مقصد المقال في وصف النظام التركي الذي يقوده الرئيس رجب طيب اردوغان بالعثمانية الجديدة، فمثل هذا الوصف جرى في مقالات عديدة ومن كتاب كثر، لكنها مقالات كتبت في معرض تبادل الهجمات والردح في معمعة الصراع بين النظم القائمة، لكن في معرض التحليل الرزين فإنه ليس لهذا الوصف رصيد معتبر، ففي تركيا نظام ديموقراطي تتعدد فيه الأحزاب، وتتنوع فيه الكتل النيابية، وعبر مسار طويل ومكلف تم تحييد الجيش عن التدخل في مجرى السياسة العامة، واعتبر مراقبون أن محاولة انقلاب 2016 آخر محاولات العسكر للتأثير في مسار الحياة السياسية والتحكم فيها، أما الإشارة إلى التدخلات التركية في محيط تأثير هذا البلد كدليل على هذه “العثمانية الجديدة”، فالأمر ليس وليد صعود نجم أردوغان، وإنما هو نتاج حجم ومكانة وقدرات تركيا، وكذلك أفق تأثيرها الثقافي والتاريخي، وهذه سياسة ممتدة من زمن أتاتورك حتى الوقت الراهن، بل إننا نجد في عضوية تركيا في حلف الناتو أثرا من آثار هذه المكانة وهذا التطلع التركي.
ثم إن الحديث عن العثمانية الجديدة استنادا إلى الاهتمام الراهن للدولة بالتاريخ العثماني فإن مبعثه ليس “خلافة يتشوقون لاستعادتها”، فهذا وهمٌ لم يركب إلا طيف من قوى المعارضة العربية بثوبها الإسلامي، وهو وهمٌ دل على ضحالة الفكر والرؤية السياسية لهذه القوى. وإنما مبعثه استعادة البعد التاريخي الحقيقي لتركيا، وهو بعد عثماني في عمومه، فتاريخ الأتراك هو تاريخ الدولة العثمانية، الدولة العثمانية المسلمة، وحينما قطع كمال اتاتورك تركيا المعاصرة عن التاريخ العثماني، لغة وتاريخا، فقد أفقد هذه الدولة الجديدة الكثير من عناصر تكوينها، وتوازنها، وهي تستعيد اليوم هذا الذي افتقدته قبل نحو قرن من الزمن. لذلك يجد التوجه الذي يقوده راهنا أردوغان ـ وقد بدأه من قبل كثيرون ـ قبولا متزايدا من الشعب التركي، ومن القوى السياسية التركية حتى تلك التي تختصم معه في ساحات العمل السياسي، ورغم أي ملاحظات يمكن وضعها على هذه السياسة، فليس هناك أي مؤشر على تغيرها سواء استمر الرئيس أردوغان في الحكم أن لا. والأمر هنا يشبه مسألة علاقة تركيا بالاتحاد الأوربي إذ ليس هناك أي مؤشر على قبول تركيا في الاتحاد الأوربي، مهما فعلت بوجود أردوغان أو بغيابه.
إن أردوغان أكثر فهما ومعرفة بالمجتمع التركي، وبسنن بناء الدول، وبطبيعة النظام الجمهوري، وبحدود العمل الديموقراطي، كذلك هو أكثر ذكاء من أن يقع في وهم “الخلافة” التي ما عادت تعبر عن شيء في هذا العصر.
كذلك فإن ما جاء في المقال من توقع جزئي بأن ينصرف الإيرانيون بعد الاتفاق النووي المنتظر إلى الوضع الداخلي ويبتعدوا ـ نوعا ما ـ عن قوس الصراع الحالي، يكشف عن تقليل لدور نظرية ولاية الفقيه في السياسة الإيرانية الخارجية في المحيط الإسلامي، وخصوصا في المحيط العربي.
إن إيران تعتبر أن ما قامت به من تمدد في هذا المحيط هو من أهم عناصر نجاحها في التصدي للحصار الغربي والعقوبات الأمريكية، وبالتالي فإن وجود ودور إيران في المنطقة “سوريا، لبنان، العراق، اليمن”، وجود جوهري لا يمكنها التخلي عنه، أو التراجع فيه، وأن هذه الأقطار الأربعة هي البداية للفعل الإيراني في المنطقة العربية الذي لا بد أن يمتد إلى المغرب مارا بمصر، وإلى المملكة العربية السعودية مارا بدول الخليج العربية، أما في البلدان الإسلامية الأخرى على امتداد العالم فإن سعيها لا يتوقف.
ما نعرضه هنا ليس خيالا، ولا تأثرا بدعاية من هذا الجانب أو ذاك، وإنما هو رصد لما يقوله قادة النظام الإيراني، ولما تنفذه أذرعته في البلدان المشار إليها، لذلك فإن تصور أن تتخلى إيران عن هذا الدور او تخفف من سرعة سيرها فيه تصور يجانبه الصواب.
وإذ يتساءل الأستاذ عبد الله السناوي بحرقة بادية عن غياب مصر ـ الإقليم العربي الأساسي المركزي في منظومة الأمن القومي العربي، والوجود القومي العربي ـ عن القيام بدورها في هذه المعمعة، فهو تساؤل ملح، ومؤلم، لابد من تداركه، لكن مهم أن نلفت إلى حقيقة أن هذا الغياب ليس لمصر وحدها، وإنما هو غياب للنظام العربي كله، لا يغني عنه لقاءات ومشاورات هنا أو هناك، ولا يفيد معه تلمس الأمن والسلامة في محيط آخر، هو في الجوهر والعمل محيط معاد، فكل هذا إضاعة للوقت، وإهدار للطاقات، وتفويت للفرصة، وليس هناك من بديل عن استعادة حقيقية لمفهوم الأمن القومي العربي، وعمل جاد على إعادة بنائه، وأن يكون مدخل ذلك كله مصالحة حقيقية مع الشعوب، مصالحة تستطيع أن توفر قاعدة لاستعادة الأمن القومي على أساس من الانتماء مصلحة ومصيرا لأمة واحدة، وثقافة واحدة، ووطن واحد.