احتفى “تنظيم الدولة” بالعملية التي نفذها أحد المبايعين له في مدينة زولينغن الألمانية قبل أسبوع، وأسفرت عن مقتل ثلاثة مواطنين وجرح ثمانية بعد طعنهم بسكين حادة طويلة.
إذ نشرت وكالة “أعماق”، المعتمدة من التنظيم، ثلاثة مقاطع فيديو قصيرة يظهر فيها القاتل؛ مقدّماً نفسه بالاسم المستعار “سمرقند القحطاني”، الشامي من “ولاية الخير” (دير الزور)، في الأول الذي يبايع فيه خليفة داعش غيابياً بالصيغة الشرعية وعبر تسجيل منفرد. بينما يوجّه كلامه لوالديه في الثاني، موضحاً أنه سينفذ هذا العمل “لمرضاة الله عز وجل”، ثأراً للمذابح التي ارتكبها “اليهود” في فلسطين بدعم “صليبي” سبق له أن آزر مجازر أخرى في العراق والشام والبوسنة وأفغانستان. أما في التسجيل الثالث فكان يطلب من إخوانه الدعاء بالثبات قبيل التنفيذ مباشرة، وهو يبعد عن “الهدف” خمسة أمتار كما قال.
في العدد اللاحق من صحيفة “النبأ” الرسمية نُشر الخبر على الغلاف، وخُصصت له صفحة من أصل ثمانية، كما كان محور الافتتاحية التي جاءت بعنوان “جهادٌ في أوروبا!” وشغلت صفحة أخرى.
وفيها يذكّر الكاتب قرّاءه بأن “الإسلام دين يسر لا عسر” ولذلك أتاح لأتباعه أن يؤدوا فريضة الجهاد بما يتوافر لديهم من سلاح. وكانت داعش قد فتحت باب العمليات الشخصية هذه منذ أن أعلنت قبولها البيعات من طرف واحد، العلنية والسرية، وتخييرها المبايعين هؤلاء، أفراداً أو ضمن مجموعات صغيرة، في تنفيذ العمليات التي تنسجم مع خط “الدولة”. في ما بات يُطلق عليه وصف “الذئاب المنفردة” ممن لا يتصلون بالتنظيم بشكل فعلي، ولا يعرفون أياً من أعضائه مباشرة، ولا يتلقون منه التعليمات. وقد جرى اعتماد هذه الآلية للقاطنين في الغرب بالدرجة الأولى، تجنباً لوقوعهم تحت المراقبة، الفعلية أو الإلكترونية، قبل تنفيذهم عملياتهم.
ولا شك أن لهذه الطريقة المفتوحة في التجنيد خطورتها الخاصة. فهي تتيح لمواطنين عاديين، أو طالبي لجوء مثل عيسى الحسن (26 عاماً)، وهو الاسم الحقيقي لمنفذ عملية زولينغن، أن ينتقلوا بشكل غير ملحوظ من وضعيتهم الطبيعية إلى أن يصيروا قتلة.
وفي هذا السياق لا يفوت صاحب افتتاحية “النبأ” أن ينبّه ذئابه المنفردة المجهولة إلى أن أكثر عمليات القتل رعباً وأطولها مدة، في الغرب، والتي أرهقت وكالات التحقيق وتعاقبت عليها أجيال من الضباط لأعوام، كانت أدواتها سكيناً أو مطرقة أو فأساً. مشيراً بهذا إلى ظاهرة القتلة المتسلسلين المعروفة في أوروبا وأميركا، موجّهاً جنديّه المفترض إلى أن يحذو حذوهم فيكون “رجل المطرقة” الذي يفتك بفرائسه ويهشّم جماجمهم دون أن يترك خلفه أثراً يدل عليه، “ليس حرصاً على الحياة ولكن ليتسنى له تكرار العملية مرات ومرات حتى يرتوي من دمهم”.
والحق أن هذه الوصية، التي يسوقها الكاتب الداعشي “تحريضاً وإلهاماً” على حد تعبيره، جديرة بلفت النظر إلى مدخل في تحليل التنظيم لم تتم العناية به بدرجة مشبِعة، وهو استيراده أعمق ما في النفس الغربية من نزعات سايكوباثية، وضفرِها مع أقذع أنماط التوحش الشرقي. وقد كان هذا ملحوظاً بوضوح في إصدارات مصورة عرضت، بتلذذ مرَضي، طرقاً مبتكرة لإعدام بعض الضحايا المميزين للتنظيم. لكن تفسيره لم يتجاوز، على العموم، تشبيه هذه الإصدارات بالسينما الهوليوودية، وحام تحليله حول هدف الرعب الذي أرادت تحقيقه، وقد فعلت.
ومن المنطقي أن نعيد هذا النزوع إلى التحاق متطوعين غربيين شغوفين بأفلام الجريمة بالجهاز الإعلامي للتنظيم بعد أن أعلن عن قيام دولته المزعومة، وربما أصحاب ميول مضطربة من رواد الدارك ويب. فقبل هذه المرحلة من عمر داعش كان أقصى مشاهدها الإرهابية ترويعاً هو قيام أبي مصعب الزرقاوي، “القائد الذبّاح” كما لقبه أعضاء تنظيمه، بجزّ رقاب بعض ضحاياه بالسكين، لكن على الطريقة الشرقية كالخراف.
كان اجتذاب المهاجرين من الأهداف الثابتة لدى أحد أبرز رجال الإعلام في فرع الزرقاوي “قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين”، وزير الإعلام في “دولة العراق الإسلامية”، أمير ديوان الإعلام في “الدولة الإسلامية” حتى مقتله بغارة لطيران “التحالف” في الرقة؛ وائل الطائي الشهير بأبي محمد فرقان. وهو طبيب أطفال عراقي تولى مناصب عملية عديدة في داعش إضافة إلى الإعلام، حتى صار أمير “اللجنة المفوضة”، أي بمثابة الرئيس التنفيذي للتنظيم. وفي تلك المرحلة حصل الشقاق الداخلي الكبير في داعش، والذي لم تتسرب أخباره إلا بعد وقت طويل، حين أصدر فرقان بياناً شهيراً امتُحن بسببه الكثير من أمراء داعش وعناصرها بتهمة الردة. وفي الصراع الذي نشب بين الشرعيين والأمنيين في التنظيم انحاز الإعلاميون إلى صف الأمنيين الذين كانوا أقرب إلى التكفير ومتعطشين أكثر للدم. فلم يقتصر توجه الجهاز الإعلامي، إذاً، على العنف البصري، خاصة مع تولي فرقان ملف “المفارز الأمنية في بلاد المشركين”، أي خلايا التنظيم خارج العالم الإسلامي، إلى جانب تأسيسه مجلات ناطقة بالإنكليزية والفرنسية والألمانية والروسية وسواها.
تشكلت داعش من مجموعة عناصر متداخلة. أولها فهمها المتشدد للإسلام، وثانيها المظلومية العراقية ثم دوائر أوسع من مظلومية عربية وإسلامية. وفي طفرتها الأخيرة هذه من “دولة العراق الإسلامية” إلى “دولة الخلافة” أضيف عنصر غربي مشوّه أرساه مهاجرون مختلون لا يسرّهم ألا يتحمل عيسى الحسن الملاحقة لأكثر من يوم فيبادر إلى تسليم نفسه للشرطة. بل يطمحون إلى متحور جديد يحوّل ردات الفعل المرتجلة للذئاب المنفردة النزقة إلى بؤر إجرامية صبورة ومعنّدة من القتلة المتسلسلين.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا
التطرف أينما وجد فهو إجرام وإرهاب، دا.عش ودولة الخلافة تمددت حتى إنتهت لتعيد إحياء مسيرتها الإرهابية من خلال “الذئاب المنفردة” وكانت جريمة مدينة زولينغن الألمانية قبل فترة إحدى نتائج هذه المسيرة، أولاً لا ننسى إرهابية التنظيم، ولا ننسى بأن القتل بدون ذنب جريمة، ولكن أيضاً العهر السياسي الأممي لما يتم في غZة أيضاً إرهاب وجريمة.