حملت الزيارة التي قام بها مؤخرا إلى دمشق وزير خارجية دولة الإمارات عبد الله بن زايد، ولقاؤه مع بشار الأسد، العديد من الرسائل أبعد من ترتيب العلاقات الثنائية، وخاصة أنها أتت قبل أيام من بدء مناورات في البحر الأحمر بقيادة الولايات المتحدة ومشاركة قوات إسرائيلية وإماراتية وبحرينية، في سابقة هي الأولى من نوعها، وربطت مصادر إسرائيلية هذه المناورات بما وصفته بالتهديد الإيراني والمناورات التي تجريها القوات الإيرانية، وتمتد من شرق مضيق هرمز وبحر عمان إلى شمال المحيط الهندي.
وكان لافتاً أيضاً أن زيارة عبد الله بن زايد أعقبها توجه عدد من كبار مسؤولي الموساد وأجهزة الأمن وجيش الاحتلال الإسرائيلي إلى أبو ظبي، ويتوقع أن يكون الملف السوري من بين الملفات التي سيبحثونها مع المسؤولين الإماراتيين، علماً بأن عمليات التحضير للتطبيع مع دول عربية توكل عادة لجهاز الموساد والأجهزة الأمنية الإسرائيلية، وأن الإمارات كانت الوسيط في عملية التطبيع بين نظام الحكم في السودان والحكومة الإسرائيلية السابقة برئاسة نتنياهو.
كما سُربت مؤخراً أخبار عن وساطة تقوم بها موسكو بين نظام بشار الأسد وحكومة الاحتلال الإسرائيلي لبحث إمكانية إطلاق مفاوضات سياسية بين الجانبين، بعد نجاح الوسيط الروسي في إنجاز صفقة تبادل أسرى بينهما في فبراير/ شباط من العام الجاري، وسبقتها صفقة أخرى في نيسان/أبريل عام 2019 تم فيها إطلاق سراح أربعة معتقلين سوريين من السجون الإسرائيلية مقابل تسليم رفات الجندي الإسرائيلي زخاريا باومل، الذي قتل في معركة “السلطان يعقوب” في البقاع اللبناني عام 1982.
وفي يناير/ كانون الثاني الماضي تم تداول معلومات عن لقاءات بين مسؤولين أمنيين سوريين مع جنرالات إسرائيليين في قبرص، وأخرى برعاية روسية في قاعدة حميميم شارك فيها حسب عدد من المصادر علي مملوك وبسام الحسن من جانب النظام، والجنرال احتياط غادي آيزنكوت والمختص بالشؤون الإيرانية آري بن منشيه من الجانب الإسرائيلي، وهما مسؤولان سابقان في جهاز الموساد، بالإضافة إلى الجنرال الروسي ألكسندر تشيكوف. ورغم عدم وجود معلومات دقيقة حول ما جرى في اللقاءات، إلا أن جنرالاً إسرائيلياً قال في مقابلة مع صحيفة إسرائيلية، في ديسمبر/ كانون الأول 2020، إن نظام الأسد يريد من إسرائيل دعمه للعودة إلى جامعة الدول العربية، والتوسط لدى واشنطن وحلفائها العرب للحصول على مساعدات اقتصادية. مقابل العمل على إخراج إيران والميليشيات التابعة لها من سوريا، والاستعداد للبدء بمفاوضات سياسية مع إسرائيل حول الجولان والتطبيع ومواضيع أخرى.
ربما يبدو ما سبق في جزء منه غير قابل للتصديق لدى كثيرين، حتى ممن يعارضون النظام، وستتبادر في ذهن القارئ العديد من الأسئلة منها: لماذا يطلب النظام من إسرائيل مساعدته للعودة إلى الجامعة العربية؟ وهل إسرائيل مفتاح رئيس للحصول على مساعدات اقتصادية؟ وهل الظروف مهيأة للخوض في عملية تفاوضية مع إسرائيل؟ وما مصلحة النظام في هذا خاصة وأن الثمن المطروح إسرائيلياً تخليه عن استعادة الجولان؟ وكيف يمكن للنظام التخلي عن حليفه الإيراني؟ لكن قراءة هادئة ومعمقة لمجموعة من التطورات التي شهدها الملف السوري خلال الأشهر الماضية قد ترجح صحة ما جاء في التسريبات والادعاءات الإسرائيلية حول تهافت النظام، وضلوع عواصم عربية في تسويقها والعمل على تمريرها وتنفيذها.
في الإجابة على الأسئلة المذكورة؛ من الملاحظ تطابق خريطة الدول العربية الداعية لإعادة نظام بشار الأسد إلى الجامعة العربية مع خريطة المطبعين والساعين للتطبيع مع إسرائيل، وتكشف كثير من الوقائع أن الأمر لا يتعلق فقط باتفاق أنظمة تلك الدول على معاداة ثورات الربيع العربي، والعمل على إجهاض أي حركات شعبية تتطلع نحو الحرية وقيام أنظمة ديمقراطية تعددية، بل يتعلق الأمر أيضاً بمشاريع رسم خريطة جديدة للمنطقة، يكون فيها لإسرائيل والعلاقات التحالفية معها الدور المحوري، ليس على حساب القضية الفلسطينية فقط، إنما على حساب كل الشعوب العربية وقضاياها. ومن السذاجة الاعتقاد بأن تزامن انفتاح بعض الدول مثل مصر والأردن والإمارات والبحرين والسودان والمغرب غير مرتبط بملف التطبيع مع إسرائيل، وأن الأخيرة لا يد لها في هذا.
ولا يغير من ذلك انفتاح دول عربية أخرى غير مطبعة كالجزائر أو تونس التي أطلقت قوى مؤثرة فيها، من بينها اتحاد الشغل، دعوات لعودة العلاقات مع نظام الأسد، ففي الحالتين الجزائرية والتونسية يحمل الموقف في طياته شبهة تشخيص خاطئ، باستناده إلى رؤية تنطلق للأسف من أن ما حدث في سوريا (مؤامرة على النهج القومي والعروبي لنظام الأسد والأنظمة العربية الوطنية والقومية)، رغم ثبوت زيف هذه الشعارات الشعبوية الخشبية للمرة الألف أو أكثر منذ خمسينيات القرن الماضي، وتعرية ثورات الربيع العربي لها. ولطالما استخدمت الأنظمة العربية القمعية الديكتاتورية القضية الفلسطينية لتعويم نفسها وتبرير فسادها وسياساتها القمعية، التي ألحقت ضرراً كبيراً بفلسطين وشعبها في الداخل ومناطق اللجوء.
ويتطلب إدماج نظام بشار الأسد في الخريطة الجديدة، التي تُرسم للمنطقة، تلبية شروط إعادة تأهيله وتعويمه، وأهمها القبول بالرؤية الأميركية والغربية لهندسة المنطقة، والتي لا تعدو كونها إعادة تسويق للشروط والإملاءات الإسرائيلية، المتواطئ عليها من قبل محاور إقليمية عربية، حول ما يصطلح على تسميتها بـ “تسوية متوافق عليها لحل عناصر الصراع العربي الإسرائيلي”، تشترط إسرائيل أن تكون غير شاملة كي تستفرد بكل طرف عربي على حدة، مع إدخال رتوش تجميلية لذر الرماد في العيون، مثل الحديث عن القرارات الدولية ذات الصلة كأساس للتسوية، علماً بأن كل تلك القرارات حمالة للأوجه وتُرك تفسيرها للمتفاوضين، وبالتالي الطرف الأقوى سيكون هو الأقدر على فرض تفسيراته ومقارباته.
وهناك وهم تسوق له العديد من الدول العربية بأن استرضاء إسرائيل كفيل بتليين مواقف واشنطن، ومن هذه الزاوية قد يرى نظام الأسد بأن التطبيع مفتاح رئيس لحصول النظام على مساعدات اقتصادية ومنح مالية لإعادة الإعمار، لأن أي مساعدات اقتصادية أو مالية وازنة أو مشاريع وبرامج لإعادة الإعمار، حتى من قبل دول عربية ممولة، يجب أن تحصل على موافقة أميركية مسبقة، وهناك مراهنة من نظام الأسد والدول المطبعة على إمكانية ممارسة اللوبي الصهيوني في واشنطن ضغوطاً على إدارة الرئيس جو بايدن للقبول بتعويم نظام الأسد من بوابة استجابته للإملاءات الإسرائيلية، وخاصة مع قرب استحقاق الانتخابات التشريعية النصفية في أميركا العام المقبل.
أما بالنسبة لإمكانية قبول نظام الأسد بعملية تفاوضية مع إسرائيل فهذا لا ينطلق مع توافر ظروف مواتية من عدمها، بل من بحث النظام عن مخارج للحفاظ على نفسه كأولوية قصوى، سفك هو وحلفاؤه من أجلها دماء مئات الآلاف وهجر وشرد الملايين من السوريين.
قطع نظام الأسد عملياً شوطاً كبيراً على طريق التطبيع مع إسرائيل عبر التزامه بالتفاهمات الروسية الإسرائيلية حول الملف السوري، وقواعد الاشتباك التي أعطت موسكو من خلالها لتل أبيب حرية الاستمرار بمهاجمة الطائرات الإسرائيلية لمواقع القوات الإيرانية والميليشيات التابعة لها في سوريا، ضمن شروط محددة تتجنب فيها الطائرات الإسرائيلية استهداف قوات النظام، مقابل التزام الأخير بعدم شن هجمات ضد الجيش الإسرائيلي. ومنذ عام 2017 يطبخ الجنرالات الروس في قاعدة حميميم على نار هادئة، وبتعليمات من الكرملين، توافقات بين نظام الأسد وحكومة الاحتلال الإسرائيلي، لاستكمال شروط وترتيبات التطبيع بينهما وإظهاره للعلن، ومنها تفكيك العلاقة التحالفية بين النظام وإيران، كشرط تتمسك به تل أبيب بقوة. ورغم أن تنفيذ ذلك لن يكون سهلاً لكنه يشكِّل ممراً إجبارياً لنظام الأسد إذا ما قرَّر الالتحاق بقطار التطبيع بتشجيع من روسيا ودولة الإمارات وباقي دول محور المطبعين، ومن شأن ذلك إحداث تحول دراماتيكي في مسار الأزمة السورية، والمنطقة ككل.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا