محمود عبّاس بين التغير الآمن وتقويض النظام السياسي

أحمد غنيم

تقترب موعد جلسة المجلس المركزي لمنظّمة التحرير الفلسطينية، التي أثارت جدلاً كثيراً، وتعيد إلى الأذهان التصريح المفاجئ للرئيس الفلسطيني محمود عبّاس في القمّة العربية في القاهرة، وما تضمّنه من إعلان العفو عن المفصولين من حركة فتح، فما الذي كان يشغل القمّة بموضوع داخلي لفصيل فلسطيني، ويدفع إلى إعلانه من منبر القمّة، خاصّة أن الرئيس نفسه أعلن قبل أيّام من لقاء القمّة موقفاً مختلفاً من قضية المفصولين، من منبر المجلس الثوري لحركة فتح في فبراير/ شباط الماضي)، حين ردّد مقولته المعتادة “من خرج عنها خرج منها أو من استقلّ فقد استقال” (يقصد من أعضاء “فتح”)، علماً أن هذه المقولة لا أساس لها في النظام الداخلي للحركة.

لن يخوض كاتب هذه السطور في الجدل النظامي والقانوني لموضوعة المفصولين، وقد تناوله في مقالات سابقة، ملخّصها أن معظم إجراءات الفصل المذكورة كانت غير نظامية، بل يركّز هذا المقال في دلالات إعلان الرئيس العفو عن المفصولين من منبر القمّة العربية، وواقع الأزمة العميقة في النظام السياسي الفلسطيني، التي امتنعت القيادة الفلسطينية عن معالجتها رغم مطالبات الشعب الفلسطيني وفاعلياته السياسية والوطنية بشكل متكرّر، بينما خضعت للضغوط الخارجية، حين أعلنت أنها سوف تعدّل في النظام الداخلي لمنظّمة التحرير بخصوص استحداث موقع نائب رئيس للجنة التنفيذية، معرّضة، ليس النظام السياسي فقط للتطويع، بل القضية الفلسطينية لمخاطر كبيرة أيضاً.

موقع نائب لرئيس اللجنة التنفيذية تجربة عرفتها المنظّمة، فترة قصيرة في العام 1969، فقد شغله إبراهيم بكر الذي استقال بعد أقلّ من سبعة أشهر، وأنهى وجود هذا الموقع الفاقد للضرورة، فإشغال موقع رئيس اللجنة التنفيذية وفقاً للنظام، حال شغوره، يتم بشكل طبيعي من اللجنة التنفيذية نفسها. والسؤال هنا عن السبب الذي يجعل هذا الاستحداث مطلباً عربياً ودولياً يُذعن له الرئيس؟… لم يعد سرّاً على أحد أن مطلب استحداث موقع نائب للرئيس جاء في سياق سياسي يتعلّق بما يسمّى بـ”اليوم التالي”، وتحت ضغط إقليمي ودولي، لعبور ما صُوّر ممرّاً إجبارياً بين الموقف الإسرائيلي الرافض لأيّ دور للسلطة الفلسطينية ومنظّمة التحرير وحركة حماس في غزّة، والموقفين العربي والإقليمي، اللذين لا يرغبان في مواجهة مباشرة مع الموقف الإسرائيلي، بينما يسعى إلى تقديم صيغ التفافية لاتفاق قد يلقى قبولاً دولياً، أو أميركياً بشكل خاص، يفرض على حكومة إسرائيل التعامل مع الحقائق المتغيّرة، الأمر الذي قد يُؤدّي إلى إعادة تأسيس نظام فلسطيني يحظى بالقبول، حتى لو كان نظاماً هجيناً ضعيفاً ومعقّدَ التكوين.

استحداث موقع نائب للرئيس، سواء جاء استجابةً للسياق السياسي، أو تحت الضغوط الدولية أو الإقليمية، ليس هو الحلّ لما يواجهه الشعب الفلسطيني من تحدّيات

وفي هذا السياق، جاءت الخطّة المصرية لإعادة بناء غزّة، التي أقرّتها القمّة العربية خطّةً اعتراضية للمشروع الصهيوني، ولشطحات الرئيس ترامب. وعلى الرغم من أهمية تلك الخطّة، لا ضمان أن تنجح في اعتراض خطّة ترامب أو أحابيل نتنياهو، ولا ضمان أن تغيراً في بنية منظّمة التحرير سيكون كافياً لمنع التهديد الصهيو- أميركي في استمرار حرب الإبادة وخطر التهجير. إن الحقيقة الكاشفة لمطلب استحداث موقع نائب رئيس، ليس القلق من شغور الموقع بشكل مفاجئ لأيّ سبب، بل المقصود نقل صلاحيات الرئيس كاملةً، وبشكل فوري إلى نائب رئيس اللجنة التنفيذية، على أمل أن يستجلب ذلك قبولاً إسرائيلياً أميركياً، إنه السيناريو نفسه الذي نفّذ مع الرئيس الراحل الشهيد ياسر عرفات، باستحداث موقع رئيس وزراء، بعد أن استعصى على الإدارة الأميركية تطويع الموقف الوطني والسياسي للراحل أبو عمار، ودفعه إلى تقديم تنازلات تمرّر المشروع الصهيوني الأميركي للتسوية النهائية، مع أهمية تأكيد الفروق بين شخصيتي الرئيسَين، والظرف الموضوعي، وطبيعة التهديد الذي أحاط بكلّ منهما، فالمطلوب كان سحب معظم صلاحيات الرئيس لصالح رئيس الوزراء في حالة عرفات، ولنائب رئيس اللجنة النتفيذية في حالة أبو مازن. غير أن الأخير تمكّن عبر السنوات السابقة، ومن خلال إجراءات متعدّدة، وعدد كبير من الأوامر بقانون التي أصدرها، من أن يستعيد موقع الرئيس الصلاحيات كلّها، بل الاستحوذ، ليس على صلاحيات السلطة التنفيذية فقط، بل على صلاحيات السلطة التشريعية أيضاً. ولم تسلم السلطة القضائية من ذلك الاستحواذ، فضلاً عن الاستحواذ على صلاحيات المجلس الوطني بعد نقل صلاحياته إلى المجلس المركزي الذي أحكم تشكيله، فلم يعد يملك أيّ إمكانية للعمل أو القرار خارج إرادة الرئيس، وينطبق هذا على أطر السلطة والمنظّمة، بل يطاول القوى السياسية كلّها، الموالية منها والمعارضة، التي باتت قوّة فعلها محصورةً في بيانات محدودة تحاول التمايز في الموقف والتعايش مع حالة الاستحواذ الكاملة للرئيس.

أمام الرئيس الفلسطيني مهمّة وطنية لاستعادة زمام المبادرة وامتلاك الأدوات السياسية والوطنية لمواجهة الضغوط الخارجية

وفي ما يتعلّق بصلاحيات رئيس الوزراء التي استُحدث هذا الموقع من أجلها، فلم يعد لها أيّ وجود، وعادت إلى الرئيس نفسه كما كانت قبل استحداث الموقع، وبقي موقع رئيس الوزراء يتعلّق بإدارة شؤون العمل اليومي للوزارات ومتابعة أعمال الوزراء، وهو في الحقيقة موقع منسّق لعمل الوزراء أو ما اصطلح عليه في الدول التي تتجمّع فيها قوّة السلطات الثلاث برئيس الدولة بالوزير الأوّل.

في ظلّ هذا الواقع، لا يبدو أن استحداث موقع نائب للرئيس، سواء جاء استجابةً للسياق السياسي، وتحت الضغوط الدولية أو الإقليمية، هو الحلّ لما يواجهه الشعب الفلسطيني من تحدّيات، ومن حرب إبادة، ومن تهديد بتصفية القضية الفلسطينية، بل إن المهمة أمام الرئيس الفلسطيني في هذه اللحظة التاريخية هي مهمة وطنية من الدرجة الأولى، ليس لمواجهة الضغوط الخارجية فقط، بل أيضاً، لقلب السحر على الساحر واستعادة زمام المبادرة وامتلاك الأدوات السياسية والوطنية لمواجهة الضغوط، وذلك عبر مجموعة من القرارات التي تُصلّب الموقف الوطني الفلسطيني أمام التحدّيات والضغوط الخارجية، وتُصلّب موقف الرئيس نفسه أمام ما يواجهه من ضغوط وإملاءات خارجية. وفي مقدّمة تلك القرارات المطلوبة من الرئيس، إعلان عودة منظّمة التحرير الفلسطينية إلى غزّة، في اليوم الحالي أو التالي، عودةً تلقائية، لا تحتاج إلى أيّ اتفاق جديد مع دولة الاحتلال، إذ إن سبب غياب السلطة من قطاع غزّة كان سبباً داخلياً، زال بتراجع حركة حماس عن الاستمرار في حكم غزّة، ما يتطلّب موقفاً فلسطينياً صلباً وتشكيل حكومة فلسطينية تلقى قبول مختلف المكوّنات الفلسطينية الوطنية والسياسية والشعبية، وفي مقدمتها حركة حماس، بغضّ النظر عن مسمّيات تلك الحكومة، تكنوقراط أو توافق أو غير ذلك. عنوان واحد يفرض نفسه باسم اصحاب الحقّ، ولا يُفصّل في غيابهم أو بالنيابة عنهم.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى