النقابات وإرث الأسد

رشا عمران

قد تكون فترة خمسينيات القرن الماضي هي الفترة الذهبية للنقابات المهنية السورية، وهي الفترة الوحيدة التي شهدت فيها سوريا تعددية حزبية وحراكا وعملا سياسيا واشتغالا في الفضاء العام الحزبي والسياسي.

وهو ما أعطى للنقابات هامشا لا بأس به من الحرية، فهي كانت نقابات مستقلة أولا، لا تقع تحت سيطرة الدولة، بل كانت تعمل على الوقوف في وجه السلطة الحاكمة إذا ما قامت الأخيرة بأي إجراء ينتقص من حقوق أعضاء نقابة ما، كما أن النقابات لعبت أدوارا سياسية مهمة ووقفت في وجه الدكتاتوريات التي كانت تحاول النشوء مع كل انقلاب عسكري كان يحصل في تلك الفترة، كانت لنقابة المحامين والأطباء والمعلمين وقتها أدوارا أخرى في تعزيز أهمية العلم والتعليم والتعريف بمبادئ المواطنة وحقوق الأفراد والجماعات وسلطة القانون. وقد تكون تلك النقابات هي التي حمت دولة سوريا من الانهيار وهي الدولة التي كانت وقتها خارجة من احتلالات وانتدابات تلاها العديد من الانقلابات والصراعات العسكرية، وبعضها كان دمويا، على الحكم.

لم تتوقف هذه النقابات عن الحراك حتى بعد ما سمي وقتها بثورة الثامن من آذار التي فرضت سيطرة حزب البعث على الحكم في سوريا، بقيت محافظة على استقلاليتها وعلى دورها في الوقوف في وجه القرارات التعسفية الصادرة من السلطة. إلى أن قام حافظ الأسد بحركته “التصحيحية” وبدأ بتكريس سلطته كحاكم شمولي بعد أن قضى على رفاقه في ثورة آذار سواء بالاغتيال أو السجن أو النفي، واستفرد تماما بالحكم وبدأ بالعمل علي تحويل سوريا إلى دولة قمعية شمولية مستبدة، مستلهما تجارب ستالين وماوتسي تونغ في روسيا والصين.

بدأ حافظ الأسد بمحاولته دمج النقابات ضمن أطر السلطة التي كان يرسخ أركانها، فعمد إلي تقييد استقلالية تلك النقابات عبر ربطها بحزب البعث الحاكم، وأصبحت لاحقا جزءا مما عرف وقتها بالمنظمات الشعبية التي ارتبطت مباشرة بالجبهة الوطنية التقدمية (تحالف شكلي يضم مجموعة من الأحزاب المؤيدة للأسد بقيادة حزب البعث). ما جهل النقابات تفقد استقلاليتها وتفقد معها دورها كأداة ضاغطة علي السلطة الحاكمة. ثم قام حافظ الأسد بإصدار مراسيم تعمل علي تعديل الأنظمة الداخلية للنقابات كي تتوافق مع سياسات الدولة التي كان يؤسس لها، وأقر مبدأ القيادة الجماعية والالتزام بسياسة الحزب كشرط أساسي لأي عمل أو نشاط نقابي. وفي هذه الأثناء كان يعمل بجهد، مع أجهزته الأمنية التي أعاد هيكلتها بما يضمن ولاءها له بشكل نهائي، على  التضييق على أي نشاط سياسي معارض له بادئا ذلك بحملة تهميش كبيرة للنقابيين المستقلين والمعارضين، وبدأت فروع أمنه باستدعاء النقابيين وللتحقيق معهم وترهيبهم، واعتقلت بعض السياسيين؛ حتي كانت الضربة النقابية القاصمة حين قامت نقابات المحامين والأطباء والمهندسين في نهاية سبعينيات القرن الماضي وبداية ثمانينياته باعتصامات كبيرة ، الأمر الذي انتهى بفك الاعتصامات بالقوة واعتقال العديد من النقابيين والسياسيين وسجنهم لفترات طويلة جدا. وهذه كانت بداية النهاية للاستقلال النقابي ودوره كبديل عن المجتمع المدني في مراقبة عمل السلطات الحاكمة والوقوف في وجه تغولها في البلاد وتعديها على حقوق المواطنين، جماعات وأفراد؛ واكتمل ذلك بمجزرة حماة عام 1982 لتتحول سوريا معها إلى بلد الرعب الحقيقي وتأخذ شكلها النهائي الذي أراده لها حافظ الأسد.

لم يتغير الأمر في عهد الوريث بشار الأسد، ظلت النقابات والاتحادات تعمل بالآلية السابقة ذاتها، فهو قد ورث الحكم بكل ما فيه، لم يسعَ لتغيير أي شيء.

تحولت النقابات بعدها إلي مؤسسات شكلية تابعة للدولة تستخدم كواجهة لتمرير كل السياسات التعسفية للنظام الحاكم بعد أن فقدت دورها كقاعدة أساسية لحماية المهن وأصحابها وصيانة حقوقهم وحمايتها من التعسف والاستبداد. فقدت النقابات استقلاليتها تماما وانضمت إليها اتحادات أسست حديثا لتصبح جميعها واجهة من واجهات النظام التي يعتمدها في التعريف عن نفسه كنظام يعتمد الديمقراطية الشعبية. فقد كانت هذه النقابات والاتحادات تقوم بانتخابات دورية لاختيار مكاتبها التنفيذية لكن في الحقيقة كانت الأسماء التي ستخوض الانتخابات تضعها القيادة القطرية لحزب البعث التي جمعت كل النقابات والاتحادات تحت سيطرتها، وكانت هي من يختار اسم رئيس المكتب التنفيذي وأربعة آخرين تابعين لها، وتترك لأعضاد النقابة انتخاب الثلاثة الآخرين المكملين للمجلس النقابي أو للمكتب التنفيذي للاتحاد.

لم يتغير الأمر في عهد الوريث بشار الأسد، ظلت النقابات والاتحادات تعمل بالآلية السابقة ذاتها، فهو قد ورث الحكم بكل ما فيه، لم يسعَ لتغيير أي شيء بما يتناسب مع الألفية الجديدة التي بدأت مع بداية عهده في سوريا الذي توسم فيه المجتمع المدني السوري خيرا فاستعاد نشاطه السياسي والفكري لكن تم التنكيل به واعتقال كثير من المثقفين السياسيين والقضاء التام على المجتمع المدني. حتى بداية 2011 مع انطلاق الربيع العربي وامتداده إلي سوريا، وحدوث كل ما حدث. حيث تحولت النقابات والاتحادات إلى فروع أمنية تعاقب كل من يؤيد الثورة من أعضائها وتفصلهم من النقابة وتسهم في حرمانهم من حقوقهم المادية والمدنية وتصدر بحقهم الأحكام الأخلاقية وتشوه سمعتهم عبر نعتهم بالطائفية والعمالة ودعم الإرهاب وكل تلك الاتهامات التي وصلت إلي حد القتل والاعتقال من دون أن يرف جفن لأي عضو من أعضاء هذه النقابات أو الاتحادات التي استمرت في تأييد النظام المجرم وسعت جاهدة لتلميع صورة بشار الأسد عبر الشعارات المعتادة بوصفه الوحيد الذي يقف في وجه المؤامرة الكونية التي لا تستهدف سوريا فقط بل تستهدف محور الممانعة ضد الصهيونية والإمبريالية.

نتمنى كسوريين أن نشهد أوقاتا يمارس فيها السوريون حقهم في الانتخاب مثل كل الدول العادية، وكان إعادة تأسيس النقابات والروابط والاتحادات بداية هذا الطقس الذي يظهر أن سوريا في طريقها نحو التعافي.

ومع التغريبة السورية الكبرى بعد 2011 أعاد السوريون تشكيل نقابات وروابط مهنية وابداعية تجمعهم في الخارج. منها ما نجح واستمر رغم المعوقات ومنها ما انتهى وفشل ولم يتمكن من مقاومة العقبات اللوجستية والمادية والفكرية. لكن تجربة الأربعة عشر عاما في العمل النقابي وفي الاحتكاك مع المجتمعات الديمقراطية كان حريا بها أن تزيد في الوعي الديمقراطي وأهمية استقلال النقابات والروابط لتكون هي المجتمع المدني الذي يقف في وجه أي نظام حاكم ضامنا لحقوق أعضائها، وكان هذا ما نعول عليه جميعا في انتظار اللحظة التاريخية في سوريا وهي سقوط نظام الأسد والبدء في بناء دولة جديدة تستمد من الحداثة المدنية أساساتها.

حصل التحرير بالطريقة التي شهدها السوريون وعاد كثير من السوريين إلى سوريا للمساهمة في بناد البلد. وأصدرت هيئة الحكم الانتقالية قرارا يقضي بحل حزب البعث العربي الاشتراكي وحل كل المؤسسات التابعة له. ما يعني أن النقابات والاتحادات التي كانت تابعة للقيادة القطرية يجب أن تحل؛ لكن ما حدث لاحقا لم يكن يرتق إلي مستوى أحلام كثير من السوريين في تأسيس مجتمعهم المدني ونقاباتهم وروابطهم، فقد شكلت الحكومة الانتقالية هيئة سياسية تابعة لها ومرتبطة بها ارتباطا وثيقا سياسيا وعقائديا وأوكلت إليها مهمة تعيين مكاتب النقابات والاتحادات على أنقاض القائمة التي كان يفترض نسفها تماما وترك المهنيين والمثقفين والفنانين يشكلون نقاباتهم بأنفسهم ويخوضون تجارب الديمقراطية الحقيقية التي لطالما حلم بها السوريون. لكن للأسف هذا لم يحدث، إذ تمت تسمية أعضاد مكاتب هذه النقابات والاتحادات من قبل الهيئة السياسية بحيث تبقى هذه النقابات مرتبطة بها، في استعادة لتجربة القيادة القطرية والنقابات والاتحادات. وفي وأد كامل لأول تجارب في الديمقراطية كان يمكنها أن تحدث في سوريا. والمؤسف هو قبول أعضاء هذه المكاتب بالتعيينات المفروضة فرضا، وعدم اكتراثهم بكل مبادئ الثورة التي خرجت مطالبة بالديمقراطية والدولة المدنية وتداول السلطات.

كنا نتمنى كسوريين أن نشهد أوقاتا يمارس فيها السوريون حقهم في الانتخاب مثل كل الدول العادية، وكان إعادة تأسيس النقابات والروابط والاتحادات بداية هذا الطقس الذي يظهر أن سوريا في طريقها نحو التعافي. لكن على ما يبدو أن قدر السوريين وقدر سوريا أن تبقى في نفس الدوامة من الاستفراد في القرارات ومن محاباة السلطة والقبول بقراراتها حتى لو كانت ضد مبادئ ثورة استمرت أكثر من عقد من الزمن دفعت خلالها سوريا أثمانا باهظة في سبيل القضاء على إرث الأسد وكل ما يذكر به، لكن يبدو أن هذا الإرث أكثر تجذرا مما اعتقدنا.

المصدر: تلفزيون سوريا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى