عسكرة الإدارة المدنية في سورية: ضمانة للاستقرار أم خطر على الديمقراطية؟

أيهم الشيخ

تسعى الحكومة الانتقالية، بقيادة الرئيس أحمد الشرع، إلى بناء مؤسسات جديدة على أنقاض الدولة الأمنية القديمة. وأحد أبرز ملامح هذا الانتقال هو تزايد تعيين ضباط وعسكريين سابقين في مناصب مدنية، من المحافظين ورؤساء البلديات، إلى إدارة المعابر والهيئات الاقتصادية.

ويثير هذا التوجه جدلًا واسعًا بين السوريين حول قدرة العسكر على إدارة المنشآت المدنية، وهل هو محاولة لضمان الاستقرار أم إعادة تدوير لنفوذ المؤسسة العسكرية في ثوب مدني.

الكاتب والصحفي السوري أحمد مظهر سعدو يقول لـ”الترا سوريا”: “يبدو أن المسألة باتت مرتبطة اليوم بموضوع الثقة والولاء، قبل أن تكون متعلقة بالخبرة أو الكفاءة. من المعروف أن قادة الفصائل قد خاضوا تجارب ميدانية سابقة، وقد يكون تعيين بعضهم جزءًا من سياسة استرضاء لقيادات عسكرية بعينها”.

ويضيف: “من المؤكد أن هذه المسألة ترتبط بشكل مباشر بقضية الحوكمة، كما تمس صلب المسار الديمقراطي، وهو ما يثير مخاوف حقيقية بشأن مستقبل هذا المسار. كما أن هذا التوجه قد يؤثر سلبًا على طبيعة العلاقة بين المدنيين والمؤسسة العسكرية، وهو ما سيترك آثارًا واضحة في قادم الأيام على تطورات المشهد الميداني”.

وفيما يتعلق بدور المجتمع المحلي، أشار سعدو إلى أن “غياب الدور الفاعل للمجتمع المدني والمحلي في المرحلة الحالية سيعيق أي عملية حقيقية لإعادة البناء على أسس جديدة، وهي الأسس التي لطالما حلم بها مجتمع الثورة السورية”. وختم بالقول: “رغم ذلك، أعتقد أن هناك مجموعة من التغيرات والتفاعلات القادمة التي قد تفرز واقعًا جديدًا ومغايرًا لما عهدناه سابقًا”.

مع افتقاد التوازن بين المدني والعسكري، تبقى الديمقراطية التشاركية ومشاركة المجتمع المدني خط الدفاع الأخير ضد تغوّل العسكرة، وضمانة وحيدة لبناء عقد اجتماعي جديد

وقد أُسندت محافظة ريف دمشق إلى القيادي السابق في حركة “أحرار الشام” عامر الشيخ، ومحافظة اللاذقية إلى القيادي السابق في الحركة نفسها حسن صوفان، فيما أكدت مصادر أن القيادي في حركة “أحرار الشام” أحمد الدالاتي، تولى منصب محافظة القنيطرة.

البيروقراطية المقيدة: حكومة انتقالية بأسلوب النظام القديم؟

يرى الباحث في مركز حرمون للدراسات، محمد السكري، أن استمرار الحكومة السورية في الاعتماد على الفئة المقربة منها، يعكس توجسات أمنية عميقة ما زالت تهيمن على مؤسسات الدولة، حتى بعد تشكيل الحكومة الانتقالية. ويقول السكري لـ”الترا سوريا”: “السبب الرئيسي لهذا النمط من التعيينات يعود إلى غياب الثقة الحقيقية بما يُسمى الجدارة البيروقراطية، إذ لا تزال الدولة تفضّل الحلقة الضيقة على حساب الكفاءات”.

ويضيف: “هذا النهج لم يتغير، رغم أن الحكومة الانتقالية كان من المفترض أن تمثل نقطة تحول في السياسات الإدارية، نظرًا لتركيبتها التي حملت قدرًا أكبر من التنوع والشمولية”.

يشير السكري إلى أن استمرار هذه التعيينات ضمن الدائرة المقربة سينعكس سلبًا على جودة الحوكمة مستقبلًا، مؤكدًا أن “الآثار ستكون كبيرة على مستوى الخدمات، وكفاءة المسؤولين، وكذلك على آليات الحوكمة الرشيدة التي يُفترض أن تُحدث تغييرًا فعليًا في الأداء الإداري”.

ويُحذر من أن الإبقاء على هذا النهج سيؤدي إلى تكرار أخطاء الحكومات السابقة، خصوصًا في الجوانب المدنية، حيث يُتوقع أن تكون الانعكاسات أكثر حدة من الجوانب العسكرية.

يؤكد السكري على ضرورة أن يؤدي المجتمع المدني دورًا فاعلًا خلال المرحلة المقبلة، ليس فقط من موقع الدعم، بل من خلال مراقبة أداء الحكومة والضغط باتجاه إصلاحات حقيقية. ويضيف: “يجب الدفع باتجاه تعيينات مبنية على الجدارة البيروقراطية، لا على الانتماء الأمني أو السياسي، وإلا فإن نموذج الحكم سيبقى بعيدًا عن تجارب ناجحة مثل سنغافورة”.

بين الحاضنة الشعبية وفنون العسكرة

يرى الكاتب والباحث في الشأن السوري، د. باسل معراوي، أن الفصائل الثورية في سوريا ليست تشكيلات عسكرية صرفة، بل هي كيانات غير نظامية يتداخل فيها السلوك المدني والعسكري. ويؤكد معراوي أن نجاح هذه الفصائل مشروط بوجود بُعد مدني يشد من عصبها ويمنحها الاستمرارية، مشيرًا إلى أن أغلبها ينتمي إلى تيارات مناطقية أو جهادية ذات طابع ديني.

ورغم التحديات الكبرى التي واجهت هذه الفصائل، وأهمها تفوق الجيوش النظامية عليها في العدد والعدة والتنظيم، إلا أن العقيدة القتالية الصلبة، والدعم الأهلي، شكّلا دعامتين أساسيتين لاستمرارها. ووفق معراوي، فإن القيادة المدنية هي التي أثبتت كفاءتها في إدارة الفصائل، حيث أتقن العديد من القادة فنون العسكرة من خلال الخبرة المباشرة على الأرض.

وينفي معراوي وجود أي أثر سلبي لهذه القيادات على المسار الديمقراطي أو على عمل الحكومة، مشددًا على أن أغلب تلك القيادات اكتسبت خبرتها من خلال تصديها للشؤون الأمنية والخدمية والاقتصادية، إضافةً إلى الدور العسكري الذي أدته في حماية المناطق الواقعة تحت سيطرتها.

ويبرز معراوي نقطة أساسية تتمثل في أن “هذه القيادات لم تُفرض من الخارج، بل خرجت من قلب الحواضن المجتمعية، ما منحها شرعية شعبية وارتباطًا مباشرًا بالناس. كما أن طبيعة الفصائل غير النظامية، وعدم وجود هياكل عسكرية صارمة أو رواتب منتظمة، جعلت من العمل المدني جزءًا لا يتجزأ من مهام القادة”.

المجالس المحلية والديمقراطية التشاركية

ويشدد معراوي على الدور المحوري الذي لعبه المجتمع المحلي ومنظمات المجتمع المدني في فرض نوع من الرقابة الشعبية باتجاه الحوكمة الرشيدة، مؤكدًا أن “المجتمع المحلي يعرف الفاسد أكثر من القاضي”، في إشارة إلى أن الفساد لا يُرتكب دومًا بطرق موثقة، بل يُعرف بالسلوك والممارسة.

وقد مارست المجتمعات المحلية، بحسب معراوي، قدرًا كبيرًا من الديمقراطية التشاركية خلال سنوات الثورة، حيث كانت المجالس المحلية تُعد بمثابة حكومات مصغرة. وكانت عملية اختيارها وتبديلها تتم عبر تسويات بين وجهاء العائلات والقادة العسكريين والنخب المدنية، في تجربة ديمقراطية نابعة من الداخل، تُبنى بالتدريج عبر الخبرة وتعلم الدروس، بعيدًا عن أي وصفات مستوردة.

عسكرة الدولة بين ضرورات المرحلة ومخاطر الهيمنة

إن التوجه نحو عسكرة المناصب المدنية في سوريا ما بعد الأسد يعكس في جوهره صراعًا بين منطق الدولة ومنطق الثورة، بين الحاجة إلى فرض الاستقرار في مرحلة انتقالية هشة، وبين مخاطر تحوّل هذا التوجه إلى نمط دائم يعيد إنتاج السلطوية بلبوس جديد.

فبينما يرى البعض أن الاعتماد على قيادات فصائلية مجربة يمثل استثمارًا ضروريًا في رأس المال الرمزي والأمني لتلك الشخصيات، يحذر آخرون من أن هذا المسار قد يُجهض فرص بناء دولة مدنية قائمة على الكفاءة والحوكمة.

ومع افتقاد التوازن بين المدني والعسكري، تبقى الديمقراطية التشاركية ومشاركة المجتمع المدني خط الدفاع الأخير ضد تغوّل العسكرة، وضمانة وحيدة لبناء عقد اجتماعي جديد يعيد الاعتبار للناس بوصفهم شركاء في الحكم، لا مجرد جمهور محكوم.

المصدر: ألترا سورية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى