
يسود وهم لدى أنظمة عربية بأن مفتاح الحلّ والاستقرار في المنطقة هو القضاء على حركة حماس. الإشكالية في هذا الفهم، إضافة إلى أنه نوع من التواطؤ مع إسرائيل، أنه وهم، فإسرائيل ماضية في حرب الإبادة وقتل أكبر عدد من أهل غزّة، قبل أن تضطر إلى وقف الحرب استجابةً لضغوط أميركية، لأنها مصمّمة على استمرار تهجير الفلسطينيين، ليس من قطاع غزّة فقط، بل أيضاً من الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية. تجد هذه الأنظمة أنها فرصتها للتخلّص من “حماس”، ليس إنقاذاً للأرواح، بل لقتل فكرة المقاومة عند الشعب الفلسطيني، فموقف فهذه الأنظمة من مناضلي حركة فتح، والتنظيمات الفلسطينية كلّها واحد، فالمطلوب غزّة فارغةً من السكّان، لا يوجد فيها نفَس مقاومة، حتى لو كانت سلميةً، وخطط تفريغ المخيّمات تمهيداً لاقتلاع أهلها أيضاً ماضٍ من دون هوادة، وستحاول إسرائيل إنهاء أيّ وجود لمقاومة شعبية غير مسلّحة، ولن تقبل لسلطةٍ مُهادِنةٍ أن تفتح فمها. الغريب أن هذه الدول تعرف تماماً أن تنازلات السلطة الفلسطينية، وموقفها المناوئ للعمليات المسلّحة، لم يوقفا قتل الفلسطينيين وتهديم مخيّمات جنين ونور شمس، وقد بدأ الآن دور مخيم بلاطة.
تجأر دولٌ عربيةٌ بالصراخ والتصريح بأنها ترفض التهجير، وأن طرد الفلسطينيين من أرضهم سيؤدّي إلى زعزعة الاستقرار في المنطقة، وهذا صحيح، لكنّ بعضها لا يمانع تماماً استمرار الجرائم في غزّة أملاً في القضاء على “حماس”، ولا يهمّها إنقاذ الفلسطينيين من الجحيم المُقبل من السماء، إذا أدّى إلى القضاء على حركة حماس. كذلك هناك هدف آخر مأمول، هو تقويض نفوذ تنظيم الإخوان المسلمين في دولها، وفي المنطقة، ولو كان الثمن أرواح الفلسطينيين في غزّة. كيف يمكن إقناع هؤلاء بأن الأولى بهم التفكير باستراتيجية التهديد الإسرائيلي للإقليم ولهم؟… معاهدات السلام مع العدو الصهيوني لن تفيدهم، ولا أيّ اتفاقات أمنية أو اقتصادية ستمنع الهدف الأميركي الإسرائيلي من فرض هيمنة إسرائيل على المنطقة، بل ستجعله أسهل للتحقيق. فالاتفاقات ترهن القرارت الحاسمة بيد إسرائيل، وبيد أميركا التي ستواصل الضغط لتوسيع الاتفاقيات التي تضمن مشاركة إسرائيل في الثروات العربية، إن لم يكن السيطرة عليها.
لا ترى الدول العربية إلا رضا واشنطن على حساب الشعب الفلسطيني وشعوبها
وضع “حماس” أمام مسؤولياتها تجاه الشعب الفلسطيني مهم وضروري، لكنّ النظام العربي الرسمي لا يهمّه ذلك، لأنه يريد القضاء على “حماس” لأهداف سياسية، منها تحسين دوره الوظيفي لدى المنظومة الأميركية، بالرغم من أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب واضح جدّاً في ازدرائه رؤساء العالم وملوكه، بمن فيهم العرب، الذين يرى دولهم الغنية نبعاً لا ينضب من الأموال التي يريد ابتزازهم بها، فيما بعض الدول العربية تسعى لنيل رضاه، حتى على حساب ثروات بلادها. فبدلاً من أن ترفد الدول العربية الأموال لإعادة تأهيل غزّة، بعيداً من المخطّطات الأميركية، نرى بعضها يسعى للمشاركة في جريمة ما بعد “الحرب العسكرية الإسرائيلية”، بوأد مجتمع غزّة، ومنعه من النهوض تحت مسمّيات “الإعمار” و”التخلّص من حماس” و”إحلال السلام”، لأن الحقيقة أن بعض الدول تعتقد أن الفلسطينيين (وليس إسرائيل) عبء عليها، وهناك من يصدّق (أو يتبنّى) كذبة أن إسرائيل لن تكون خطراً على المنطقة إذا صُفّيت القضية الفلسطينية وأُنهيت حقوق الفلسطينيين الوطنية، بل والإنسانية.
المخيف تجاهل تمدّد إسرائيل في جنوب لبنان وفي سورية، وكأنها مسألة ثانوية، فواشنطن أوهمتهم بأن الأكثر أهميةً نشر الازدهار الذي باطنه نهب المنطقة في عهد ترامب، الذي لا يرى سوى الربح المالي، بل يتباهى بمساعدة أصدقائه من أصحاب البلايين، إذ يرى ذلك جزءاً من إنجازاته، فالعالم (وليس العالم العربي فحسب) مصدر نهب علني. صحيح أن ذلك كان يحدث في حقبة الكولونيالية الغربية في القرن التاسع العشر إلى منتصف القرن العشرين، لكنّه (ترامب)، لا يركّز حصرياً في دول “العالم الثالث”، فكلّ العالم بما فيه أوروبا وكندا، وكلّ رقعة في الأرض هي أقرب لملكية خاصّة له، ولمن يختار من مؤسّسات وأصدقاء من أصحاب الثروات الضخمة في العالم.
لكن هناك بعداً سياسياً لأطماع ترامب في المنطقة، في إلغاء حقوق الفلسطينيين، وإنهاء ما تبقّى من تعاون عربي، وأيّ مؤسّسة عربية جامعة، ولو كانت عنواناً للفشل، لأنه بغضّ النظر عما إن كان على وفاق أو خلاف مع رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، فهو لا يستطيع التخلّي عن إسرائيل، ليس محبّةً فيها، بل لأن وجودها مهمّ لسيطرة أميركا وتشديد قبضتها على العالم. وهذا هدف لا يتناقض مع الاستراتيجية التقليدية إلا بوسائل تحقيقها، فجزء من معارضي ترامب من الحزب الديمقراطي (وحتى في الحزب الجمهوري)، يوجّهون النقد له، أو يعارضونه خوفاً من أن يؤدّي تخلّيه عن “القوة الناعمة” إلى انهيار أميركا وقيادتها للعالم.
تأمل دول عربية تقويض نفوذ تنظيم الإخوان المسلمين ولو كان الثمن أرواح الفلسطينيين في غزّة
المهم أن نعي أيضاً قوة المعارضة الشعبية في أميركا والعالم، واتساع حركة التضامن مع الشعب الفلسطيني في العالم، لكنّ الدول العربية لا ترى إلا رضا واشنطن على حساب الشعب الفلسطيني وشعوبها. فبدلاً من إظهار النقمة الشعبية على حرب الإبادة والتطهير العرقي الإسرائيلي ضدّ الشعب الفلسطيني، تُقمع أصوات الناس، بل تحاربهم الإدارة الأميركية من خلال الذباب الإلكتروني، ومن خلال تأجيج المشاعر ضدّ الفلسطينيين، وكأنّ الفلسطيني هو العدو الوجودي للدول وللشعوب العربية، في مشهد يثير السخرية والحزن في آن واحد. هناك استسلام مشين في انتظار موت غزّة، وخنق روح الصمود والتوق إلى الحرّية في أرجاء فلسطين كافّة، فحتى التعبيرات السلمية، وحركات مقاطعة إسرائيل، تُعامَل من قبل الأجهزة الأمنية في بعض الحكومات العربية، باعتبارها خطراً على الأنظمة التي تريد الاستمرار في التطبيع الاقتصادي والأمني مع إسرائيل.
المؤلم هو الاستنتاج أن مشاهد الأجساد الطائرة بفعل انفجار الصواريخ الإسرائيلية واحتراق العائلات في الخيام، ليس لها تأثير في ضمائر صنّاع القرار في معظم الدول العربية، بل تلجأ للجم من يعارض الانصياع لأميركا وإسرائيل. فحياة الشعوب العربية، وليس حياة الفلسطينيين فقط، لا تساوي شيئاً لمعظم الحكّام في سبيل القضاء على “حماس” أملاً بتحسّن أحوالهم مع “الأميركي البشع”، القاطن في البيت الأبيض.
المصدر: العربي الجديد