اليوبيل الذهبي للطائفية السورية

عمر قدور

لا يعني تاريخ 13 نيسان شيئاً لمعظم السوريين، باستثناء ندرة منشغلة بالسياسة من الجيل الذي كان واعياً في منتصف السبعينات. الأمر في لبنان مختلف بالطبع، فالتاريخ المذكور يشير إلى بدء الحرب الأهلية اللبنانية في عام 1975، وإن كان لبعض المؤرّخين رأي آخر فيما يخص تاريخ بدء الحرب. في 13 نيسان 1975 حدثت محاولة اغتيال الزعيم الماروني بيار الجميّل (الجد)، ورداً عليها أتى الاعتداء على بوسطة عين الرمانة، ما أدى إلى مقتل قرابة الثلاثين شخصاً واندلاع الحرب على نطاق واسع.

يذكر الإسلاميون السوريون تاريخاً أبعد، هو نيسان 1964، حين اندلعت احتجاجات وإضرابات بلغت أقصاها بما يسمّونه ثورة حماة الأولى، أو ثورة جامع السلطان. حيث قُصف الجامع المذكور أثناء وجود المعتصمين المحتجين على حكم البعث، وسقط العشرات من القتلى بهجوم القوات الحكومية البعثية، واعتُقل إسلاميون منهم الشيخ سعيد حوى، وحُكم بالإعدام على مروان حديد العائد وقتها حديثاً من مصر، والمقتفي أثر سيد قطب، إلا أن الحكم لم يُنفّذ ليُعاد اعتقاله لاحقاً بعملية مداهمة للمخابرات في حزيران 1975، ثم ليلقى حتفه في السجن بعد مرور عام على اعتقاله.

كان الإخوان قوة الاعتراض الوحيدة (على حكم البعث) ذات الطابع الطائفي أيديولوجياً. وبعيداً عن المعقل الحموي، قامت شعبيتهم أساساً على قسم من الطبقة الوسطى المتعلّمة. وكما هو معلوم لقي انقلاب حافظ الأسد تفاوتاً في ردود الأفعال لدى الأكثرية العددية السُنّية، بين معترض على منبته العلَوي ومؤيّد له كبديل أكثر اعتدالاً لراديكالية صلاح جديد ورفاقه، خصوصاً مع زيادة توجههم اليساري وبدء استلهامهم التجربة الماوية.

بدخوله حرب 1973 نال حافظ الأسد شعبية واسعة في الداخل، فوق أنها كانت مناسَبة استثنائية لنسج علاقات مع المحيط العربي، ومن ثم القوى الدولية التي انخرطت في الحرب وفي مفاوضات الهدنة التي أعقبتها. مع الحرب وبعدها نال الأسد دعماً عربياً وفيراً، إذ تبرّعت الدول العربية النفطية بحزمة مساعدات استمر البعض منها بالتدفق حتى منتصف الثمانينات. ويصحّ القول أن الفترة القصيرة بين حرب 1973 واندلاع الحرب الأهلية اللبنانية هي الفترة الذهبية لحكم الأسد، وهي إلى حد كبير الفرصة المضيَّعة ليبني عليها مشروعية وطنية مستدامة.

على العكس تماماً رأى الأسد في الحرب الأهلية اللبنانية الفرصة السانحة ليكون لاعباً إقليمياً، ويستغني بذلك عن المشروعية الداخلية. كانت تلك أيام الوفرة المالية مع تدفق المساعدات، ثم بدء اللعب بالساحة اللبنانية وصولاً إلى الدخول الرسمي المعلن لقواته، ليتوَّج ذلك لاحقاً بعهد الوصاية شبه المطلقة على لبنان. مع زمن الوصاية برز فاقعاً نزوع الأسد إلى القضاء على لبنان بوصفه بلد الحريات، واشتكى معظم اللبنانيين من محاولته سَوْرنة بلدهم، في حين كان الانتباه السوري إلى الشطر المقابل غائباً، فلم يتوقف السوريون عند لبننة سوريا التي كانت تحدث بالتوازي مع التدخل في لبنان.

في النصف الثاني من السبعينات برز رفعت الأسد بوصفه الرجل الثاني، بل “القائد” الذي يزاحم شقيقه الرئيس على مكانته. الأهم أن رفعت قاد في الوقت نفسه الاستثمار الطائفي لعائلة الأسد في السلطة، ولا يجوز عزو تزامن صعود رفعت مع الاستثمار الطائفي إلى المصادفة البحتة، وكذلك هو الحال ربطاً بالحرب الطائفية التي تحدث في الجوار.

قبل الوصول إلى هنا، كان حزب البعث يقدّم نفسه حزباً قومياً، على التضاد مع الأيديولوجيا الإخوانية المذهبية بطبيعتها. أي أن الأيديولوجيا الحاكمة لم تكن طائفية، والحديث عن تحالف أقليات ضمن اللجنة العسكرية للحزب لا يصل إلى ما يمكن عدّه استثماراً طائفياً ممنهجاً، فضلاً عن الخلاف بين أركان التحالف، ومن ذلك مثلاً إقصاء الشخصية الدرزية الأقوى في سلطة البعث، والخلاف بين الضابط العلوي محمد عمران ورفاقه في حركة 23 شباط.

في الجانب العسكري صعد رفعت الأسد مع اعتماد سرايا الدفاع التي يقودها كميليشيا ضخمة مناطٌ بها حماية السلطة، والأهم أنه في منتصف السبعينات راح يغزو القطاعات المدنية والمخابراتية وحزب البعث تحت مسمّى “جماعة رفعت”. جماعة رفعت ليست جماعة منتظمة، وأفرادها كانوا في مراكز سلطة مخابراتية ومدنية، في المركز الثاني عادةً، بينما يشغل المركز الأول مدير ضعيف بالمقارنة مع سطوة نائبه. النائب القوي من منبت علَوي في معظم الحالات، ما أعطى ذريعة قوية للإخوان المسلمين كي يستغلوا الاستثمار الطائفي السلطوي في استثمار مضاد.

تدخّلَ الأسد في الحرب الأهلية اللبنانية بدايةً لصالح المسيحيين، على الضد من سُنة لبنان المتحالفين مع المنظمات الفلسطينية. أي أنه خالف المزاج السوري المتضامن تقليدياً مع الفصائل الفلسطينية، وخالف العصبية السُنية التي لم تكن قوية على النحو الذي نشهده حالياً، إلا أنها ستتصاعد مع الاستثمار الطائفي الذي يقوده رفعت، ومع نشاط الإخوان والطليعة المقاتلة. في منتصف حزيران 1979 نفّذت الطليعة المقاتلة مجزرة مدرسة المدفعية في حلب، حيث تم فرز طلاب الضباط على أساس طائفي، فأبقي على العلويين في قاعة الطعام التي أُقفلت عليهم واستُهدفوا بالرصاص الذي أوقع منهم عشرات القتلى.

مجزرة مدرسة المدفعية هي أول مجزرة على الهوية، ومعلَنة طائفياً من الذين ارتكبوها على نحو لا لبس فيه. ربما يجوز أيضاً عزو هذا التجرؤ في الإفصاح الطائفي إلى الحرب الأهلية اللبنانية التي كانت تشهد تصفيات مماثلة، وعلى كل حال يصحّ اعتبارها نقلة في الطائفية السورية بعد تأسيس الاستثمار الأسدي فيها. فظاهرة رفعت الأسد ستنتعش بسرعة كبيرة بعد المجزرة، مستفيدة من “نجاح” المجزرة في استجلاب نزوع طائفي مقابل؛ مسنود بخوف أقلوي من جهة، وبتوحش السلطة من جهة ثانية.

لم يترك لنا رجال الحلقة الضيقة للسلطة شهادات على تلك المرحلة، وتحديداً على العشرية التي ابتدأت بالحرب الأهلية اللبنانية وانتهت بإقصاء رفعت، وبمحاولة حافظ الأسد تشذيب المشروع الطائفي كرمى لمشروع توريث ابنه البكر باسل. وعلى العموم نُظر دائماً إلى الاشتباك السوري اللبناني خلال الفترة نفسها كتدخّل من طرف واحد، من دون النظر في التشابك الأعمق. الحديث المستجد المرتفع في الشأن الطائفي لم يتوقف أصحابه أيضاً عند تأثير الحرب اللبنانية، وقد يكون مردّ بعض الإهمال ذلك الاستخفاف السوري التقليدي بالحجم الصغير للبنان.

ثمة عامل آخر يدعم تجاهل التأثير التأسيسي للحرب اللبنانية، هو اصطناع طائفية سورية ذات جذور أبعد، بالحديث عن طائفية أقلوية كانت مستقوية بالانتداب الفرنسي، واعتبار جيش الشرق بذرة جيش طائفي في سوريا. بحسب هذه المبالغات تكون الطائفية السورية الحديثة قد تجاوزت المئة سنة، وبتحديد أدق منذ نهاية العهد العثماني. وهي كما نرى سردية طائفية سنية مريحة جداً، إذ تبدو الطائفية المتبادلة أصيلة بقدر ما هي خارج التطورات السياسية وبمنأى عن تأثيراتها، ويظهر الشر من طرف واحد، هو المتآمر على الأكثرية، والذي يسعى طوال الوقت إلى سرقة السلطة منها.

ومن المؤكد أن المجازر الكبرى التي ارتكبها الأسد الابن بعد اندلاع الثورة ساهمت في تأصيل فكرة الشر، بحيث صار يُنظر إلى الأسدية كشرّ مطلق، وكأن استحقاقها هذا الوصف يُغني عن البحث في أطوارها المتعددة. نميل إلى الاعتقاد بأن دراسةً أكثر تفصيلاً للطائفية السورية ضروريةٌ في مواجهة السُعار الطائفي الحالي، من أجل إعادتها إلى مكانها الحقيقي في السياسة والسلطة. هذا لن يكون سهلاً بالطبع، طالما أن الاستثمار فيها لا يزال هو الأسهل الذي يعمي الأبصار والبصائر.

المصدر: المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى