
كلما شعر النظام المصري بالضغط استدعى الحشود. على هذا المنوال، تحولت زيارة الرئيس الفرنسي إلى القاهرة إلى مهرجان بطول يومين للاستعراضات الجماعية المهندسة أمنياً. بين القمة الثلاثية في العاصمة المصرية والتي انضم فيها العاهل الأردني إلى الرئيسيين المصري والفرنسي، والمكالمة المشتركة مع الرئيس الأميركي بخصوص غزة، وتوقيع عدة اتفاقات استراتيجية بين مصر وفرنسا، اصطحب الرئيس المصري ضيفه الفرنسي إلى “البازار”. في أزقة خان الخليلي، وبين حشود مفروزة بدقة وترفع الأعلام الفرنسية تتجلى دبلوماسية للزحام الكاذب، وفي وسطه يلوح الرئيسان بابتسامات واسعة للمواطنين من حولهم. لوهلة يبدو حي الجمالية على الشاشة وكأنه ديكور لحي شعبي في مدينة الإنتاج الإعلامي محتشد بالكومبارس المتعطل عن العمل بعد مرور موسم الدراما الرمضانية.
الجماهير الممنوع عليها الحيز العام، بحرمان من التحام الأجساد في الميادين ومن دون صوت تمثيلي في مربع السياسة المغلق، تبتهج لصورة الزحام. ثمة ما يغوي في مشاهد الحشد حتى ولو مزيفة، من باب الحنين أو من باب الوعد. وكما في أيام المهرجان ينزل الملك إلى مصاف العامة وتنقلب التراتبيات مؤقتاً، يتمشى الرئيسان يد بيد بين المواطنين، ثمة سحر في تباسط السلطة أو في تظاهرها بذلك. الوعي العام الممزق بين الرغبة في “إبهار العالم” والانسحاق أمام الرجل الأبيض، يجد في نزول الرئيس الفرنسي إلى المقاهي إطراء للذات. تستضيف البرامج التلفزيونية مالك المطعم الذي أكل به الرئيسان، وتندهش مقدمة أحد البرنامج من أن ماكرون تناول طعاماً مصرياً. الصحف الموالية للنظام ترى في الزيارة تأكيد على وزن مصر الإقليمي، وفي جولة الرئيس الفرنسي دلالة على ثقة في الترتيبات الأمنية في البلد المضيف.
عند نزوله إلى مطار العريش، يجد الرئيس الفرنسي الجماهير هناك تتظاهر ضد مخطط التهجير في غزة وهي ترفع صور للرئيس السيسي، الباصات التي حملتهم من المحافظات المصرية رجعت لتعيدهم من حيث جاؤوا بمجرد خروج الموكب الرئاسي من المطار. يستعرض الرئيس المصري الرأي العام أمام ضيفه في صورة كتل بشرية تم رصها تحت الشمس الحارقة لساعات. تقف الحشود المزيفة في مواجهة الحشود الحقيقية التي تم تفريقها بالقوة على مدى العام ونصف العام الماضي، وذلك مع أي بادرة للتظاهر ضد الحرب في غزة. حتى في المدن الفرنسية، حوصرت الاحتجاجات المتعاطفة مع غزة، وإلى اليوم تتم ملاحقة المعارضين للوحشية الإسرائيلية في المحاكم الفرنسية. لكن الرئيس الفرنسي يقوم بزيارة عدد من المصابين من غزة في أحد مستشفيات العريش. لا تكتفي السلطوية بمحو الحشد، بل تمسخه وتستبدله باستعراض ركيك.
الحال، أن القاهرة تفتش عن حلفاء في مواجهة الضغوط الأميركية بخصوص غزة. وباريس التي طالما حاولت رسم خط دبلوماسي مستقل عن واشنطن في الشرق الأوسط، تبحث أيضاً عن أدوار أوسع في المنطقة، وبالأخص في ظل توتر العلاقات بين أوروبا والولايات المتحدة، وما ترتب على ذلك من حاجة لوضع ترتيبات أمنية جديدة لأوروبا وجوارها.
بالفعل، يعلن ماكرون من القاهرة عن تأييده للخطة العربية لإعادة إعمار القطاع، ويجاهر مرة أخرى بمعارضته لتهجير سكان غزة، لكن هذا كل شيء. لا تملك باريس أوراقاً لاستخدامها في سبيل وقف الحرب أو للضغط على إسرائيل أو غيرها، أما الطموحات الإمبراطورية الصغيرة التي ميزت ولاية ماكرون الأول، فقد تبخرت سريعاً بعد انهيار النفوذ الفرنسي المتوالي في غرب أفريقيا، آخر شبه المستعمرات الفرنسية الباقية.
الحرب التجارية العالمية التي اشعلها ترامب تعيد ترتيب العالم وعلاقاته، والمصريون المتعثرون في أزمتهم الاقتصادية المديدة والمستحكمة، يتعلقون بقشة الأمل الفرنسي، بينما تزف لهم وسائل الإعلام أوهام الاستثمارات الكبرى.
المصدر: المدن
هل يمكن لأوروبا تعويض الغدر الأمريكي لمصر؟ فرنسا /ماكرون حظي بإستقبال رائع من المطار وإلى خان الخليلي ، مصر بحاجة لمن يدعمها، ويقوي صمودها.