
تبدو التوصيفات الجاهزة في تحليل الأحداث المفصلية والخطيرة التي تحدث اليوم في سوريا أشبه بحل يبحث عن مشكلة وليس العكس، فالواقع السوري الذي تشكل عقب سقوط نظام الأسد، يشابه الهزات الارتدادية التي تعقب الزلازل الضخمة، وهي تتطلب تمعناً وتعمقاً أكبر قبل الانزلاق إلى إطلاق حكم عليها وتوصيفها حسب المشتهى الذي يداعب رغبات الفئات الاجتماعية نظراً لسهولة التوصيف والقبول به والإجماع الحاصل عليه وتحوله إلى بدهيات لا تقبل إعادة النظر ولا يمكن قياس مساحات تأثيره بمسطرة أخرى غير تلك المستخدمة سلفاً..
ذلك هو واقع الحال اليوم حين نتوقف عند ما حدث -وربما لا يزال يحدث، وقد يستمر- في الساحل السوري من انتهاكات ترتكبها مجموعات أو أفراد أو فصائل لا نستطيع حتى الآن التحقق من مدى ارتباطها بالإدارة الجديدة من عدمه، ولا نستطيع أن نجزم إن كانت انتهاكات ممنهجة أم منفلتة، فذلك كله يمكن أن تقرره لجان متخصصة بعد الوقوف على الحقائق في حال توفر الحياد والموضوعية والمصداقية، وهذا بطبيعة الحال ليس موضوع هذه المداخلة التي ستركز أكثر على رصد وتصنيف تلك الانتهاكات من بوابة أخرى قد لا تنسجم مع أصحاب الوصفات الجاهزة.
يتداول السوريون اليوم موضوع الجرائم التي ترتكب بحق الأبرياء من الطائفة العلوية على أنها نوع من الممارسات الطائفية، فالصورة الأكثر وضوحاً في المشهد الحالي تتجلى في مجموعة أو مجموعات من السنّة يقتلون أفراداً أو مجموعات من الطائفة العلوية لمجرد انتمائهم إلى تلك الطائفة بمحض الولادة.
وقبل كل شيء، تجدر الإشارة إلى ضرورة التسليم برفض فعل القتل بكل أشكاله ومهما كانت أسبابه ودوافعه وبحق أي فئة كانت، حيث لا يمكن لأي كان ممن لديه أدنى صلة بالإنسانية والوطنية قبول القتل وعمليات الانتقام أو تبريرها أو إلباسها أقنعة لإخفاء وجهها الأصلي أو القيام بعمليات تجميلية لوجه الجريمة، وفي هذا السياق لا يكفي رفض القتل وحده بل أيضاً كل مشتقاته ومرادفاته مثل التحريض والكراهية ورفض الآخر والانحياز للذات، غير أن طريقة النظر إلى تلك الجرائم ووضعها في السياق الصحيح من حيث التوصيف من شأنه أن ينظّف التصنيفات الارتجالية والجاهزة ويسهم في تحديد الدوافع العميقة لحالات الانتقام للوصول إلى جوهر المشكلة وجذورها البعيدة..
واعتماداً على الوقائع التي شهدها المجتمع السوري منذ العام ٢٠١١ وكل تفاصيلها المتعلقة بارتكابات النظام السابق وجرائمه، يمكن للمتبحّر بموضوعية نفي الصفة الطائفية عن مجازر الساحل، وذلك ليس تبرئة للمرتكبين لأن توصيف الجريمة في سياق معين لا يقلل من بشاعتها، فما حصل ويحصل في الساحل السوري وضد الطائفة العلوية تحديداً يندرج في إطار عمليات الثأر الاجتماعي وربما السياسي من حاضنة القاتل، ونقصد هنا بشار الأسد بالذات، أي الفئة التي ارتبطت به وبإجرامه في الذاكرة الشعبوية الجمعية، أو في الذاكرة الفئوية/ الذاكرة الطائفية إن صحت التسمية، سواء ممن أسهموا في المجازر التي ارتكبت حينها ضد السوريين أو من الأبرياء، أو حتى ممن وقف ضد جرائم النظام من أبناء الطائفة العلوية..
في هذا السياق تبدو الإنتروبولوجيا (ما تم ترجمته بعلم الإناسة أو علم الإنسان) مدخلاً لا غنى عنه للإحاطة بقاع العلاقات المتشابكة والمعقدة التي أضفت على المشهد السوري ثقلاً إضافياً أدى إلى التفريط بالدقة والبعد عن التحليل الدقيق للظواهر الاجتماعية المختلطة بالسياسة والإرث الفكري المتوارث والبدهيات المغلوطة التي سيطرت على أذهان العامة.
وإذا نظرنا إلى مجتمعاتنا العربية سنجد أن فكرة الثأر ما تزال متأصلة عند الجماعات البشرية التي تنتمي إلى الثقافة العربية الصرفة، وباستثناء العقول النيرة التي استطاعت النجاة من هيمنة الفكر الثأري، فإن الثأر تحول إلى عادة اجتماعية بل وواجب أخلاقي عند من يؤمنون به.
أخطر ما في فكرة الثأر أنها ذات منشأ قبلي، وأنها تنفلت من فكرة المحاسبة والعدالة أو حتى الاقتصاص من مرتكب الجريمة وتذهب باتجاه الفئة الاجتماعية أو الأسرة التي ينتمي لها ذلك المرتكب، أسرته الصغيرة أو الكبيرة، فكثيراً ما شهدنا حالات قتل بين الأسر العربية وحالات ثأر ليس بالضرورة أن تنال القاتل نفسه بل غالباً ما تلاحق أحد أخوته أو أقربائه، إذ يتم اختيار الشخصية الأفضل من عائلة القاتل ليقع عليها الاختيار في عملية الثأر حتى وإن كانت تلك الشخصية ذاتها ضد القاتل وحتى لو كان ذلك الشخص المستهدف والذي وقع عليه الاختيار ليتم قتله، قد دان قريبه القاتل وانتصر للضحية من العائلة الأخرى.
وقد شهدنا كثيراً من عمليات الثأر القبلي في معظم الدول العربية، في صعيد مصر على سبيل المثال نجد عادة الثأر متأصلة رغم غياب البعد الطائفي، حيث اضطر كثيرون للهروب من بلدانهم وقراهم خوفاً من الانتقام والعيش في مدن بعيدة والتخفي أيضاً، وكثيراً ما لجؤوا إلى انتحال أسماء أخرى، وهؤلاء لا ذنب لهم إلا كونهم ينتمون إلى أسرة القاتل، وفي سوريا وكثير من الدول العربية كان ثمة كثير من حالات الثأر الأسري والعائلي (ما بين الأسر والعائلات المتناحرة) ولا تزال، ومعظمها يرتكز إلى فكرة استرداد الكرامة و”شفاء الغليل”، بعد حالة إذلال القبيلة أو الأسرة من خلال مقتل أحد أفرادها حسب العقلية القبلية المتحجرة، حيث الثائرون، أي من يأخذون بالثأر، لا يؤمنون بفكرة العدالة أو بفكرة القصاص من قبل الدولة، لأن قتل أحد من قبيلتهم أو أسرتهم (في تحديثات المفهوم القبلي) لا يقع في الإطار المتعارف عليه كجريمة، وإنما يتم تفسيره كحالة إذلال للقبيلة كلها أو للأسرة التي ينتمي لها القتيل، وهؤلاء لا يمكن أن يشعروا بغسل العار الذي لحق بهم إلا إذا أقدموا بأنفسهم على فعل القتل، وتلك فكرة مغلقة ومعتمة تحتاج كثيراً من الجهد والعمل لفك التباساتها ومحاولة تغيير قناعة أصحابها.
وفي هذا السياق، يمكن تفسير العمليات الانتقامية في الساحل السوري، فالمنتقم الذي يرتكب الانتهاكات لا ينتقم من العلوي كونه علوياً بل ممن يعتقد أنه شريك في الجريمة التي ارتكبت ضده، ولو كان أهل الساحل ينتمون إلى طائفة أخرى لما تغير في الأمر شيء، بل لو كان أهل الساحل من الطائفة السنية ذاتها ولو كان بشار الأسد سنياً لتمّ تقسيم السنة إلى سنة الأسد وسنة معارضيه، ولتمّت عمليات الثأر أيضاً بذات الطريقة.
لقد بدأ الفهم المقلوب والشعبوي للإشكالية الطائفية منذ اللحظة التي تم تصنيف نظام الأسد على أنه نظام طائفي، وتم تداول هذا كمسلمة وبهية بين السوريين، وتم تصديره كحقيقة غير قابلة للتشكيك ولا للتغيير، غير أن الوقائع تقول بكل وضوح أن نظام الأسد لم يكن طائفياً بل كان سلطوياً فقط، يعادي معارضيه ويرضى عن مؤيديه بصرف النظر عن انتماءاتهم الطائفية بدليل عدم تسامحه مع أبناء طائفته من العلويين الذين رفعوا الصوت ضده بل والتنكيل بهم بطريقة أقسى وأكثر وحشية.
لقد حدثت في كل دول العالم جرائم انتقام من أتباع السلطات التي كانت تمارس اضطهاداً على معارضيها بصرف النظر عن الانتماء الطائفي، حدث ذلك حتى في أوروبا التي شهدت كثيراً من جرائم الانتقام على سبيل المثال من مناصري هتلر، صحيح أن الدولة الألمانية ما بعد هتلر سارعت إلى تفعيل قوانين العدالة الانتقالية، ولكن ذلك لم يمنع من حالات انتقام كثيرة تمت خارج القانون رغم غياب الصيغة الطائفية هناك تماماً، وربما كان تجريم النازية الضمانة التي لعبت دوراً حاسماً في إعادة اللحمة بين أبناء الشعب الألماني..
وصل المنتقمون إلى الساحل وقاموا بارتكاب جرائمهم وهم يعتقدون أنهم يغسلون عارهم، ورغم رفعهم لشعارات طائفية فإنهم في العمق كانوا يستجيبون للدافع القبلي ولرغبة الثأر من القاتل وحاضنته والتي حرموا منها لسنوات طويلة ووصلوا في مرحلة ما لدرجة اليأس من قدرتهم على تحقيق رغبتهم تلك بسبب انعدام الأمل في سقوط نظام الأسد في فترة ما، لم تفتر سخونة الرغبة في الانتقام بعد سقوط النظام السابق، ولكنهم ممنوعون من ذلك (على الأقل كما توارد من أنباء وعلى حد تصريحات الرئيس أحمد الشرع)، وما إن تفجرت أحداث الساحل عبر العمليات التي شنها الفلول ضد السلطة الجديدة حتى بدأ هؤلاء ممن يضمرون شهوة الانتقام بارتكاب الانتهاكات وهم يعتقدون أن جرائمهم اصطبغت الآن بالشرعية حتى وإن أقدموا على قتل النساء والأطفال، فجرائم النظام السابق لم توفر هؤلاء أيضاً، وبالتالي فإن عمليات الانتقام يجب أن تطولهم، كما يقضي التفكير العشائري القبلي المغلق.
في هذا السياق دأب كثير من مثقفي سوريا من كل الطوائف، وسواء أكانوا متعاطفين فعلاً أو متاجرين بالحدث على تثبيت صورة تلك الجرائم في الكادر المتعارف عليه والمسلم به سلفاً: الجرائم الطائفية والتطهير العرقي، وهو ما أسهم أكثر في إثارة النعرات الطائفية وهو ما شأنه أن يحول الواقع بشكل فعلي من كونه عمليات انتقام قبلي، إلى خطاب طائفي صرف يؤدي إلى حالة من التباعد الطائفي التي لا يمكن أن تقبل العودة، وفي الوقت الذي يفترض فيه من السوريين جميعاً أن يسهموا في تبريد النار من خلال البحث عن جذور المشكلة لمحاولة حلها، ترتفع كثير من الأصوات التي تلقي المزيد من شرارات الجهل على عشب الحقائق الجاف ويتيح الفرصة للنار المتصاعدة أن تلتهم الجميع.
إن التوقف اليوم عند المفهوم الطائفي وإعادة تفكيك مسلماته يعتبر خروجاً من صندوق المفاهيم الجاهزة ووسيلة لنشر حالة وعي تسهم في التقليل من خطر الطائفية، أما الإصرار على تداول الطائفية بوصفها الطريقة الأسهل لتوصيف المأزق الاجتماعي والسياسي الذي يمر به السوريون اليوم فهو إغلاق متعمد لعنق الزجاجة، ومحاولة للمساهمة في زيادة إعتام النفق وإنهاء الأمل بأي ضوء قد ينقذ المجتمع السوري من سيناريوهات الظلمة التامة.
المصدر: تلفزيون سوريا