الألغام في سوريا.. حربٌ لم تنتهِ رغم سقوط النظام البائد

فاطمة عبود

شهدت سورية تحولات جذرية منذ سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر الماضي، ومع ذلك، لم تجلب هذه التغيرات الأمان المنشود لملايين السوريين الذين نزحوا عن ديارهم وهجروها رغماً عنهم، فبينما يحاول العائدون استعادة حياتهم السابقة، وسط أنقاض المدن والقرى، يواجهون تهديداً آخر لا يقل فتكاً عن الحرب نفسها، وهو الألغام الأرضية والذخائر غير المنفجرة التي خلَّفها النظام البائد من ورائه مستهدفاً المدنيين والعسكريين على حدٍّ سواء.

فالألغام الأرضية في سوريا ليست مجرَّد مخلفات حرب فحسب، بل هي لعنة مستمرة تحصد الأرواح، وتحوِّل أحلام العودة إلى الوطن إلى كوابيس مروِّعة؛ لأنَّ الواقع يفرض عليهم معركة جديدة ضدَّ خطر غير مرئي، خطر الموت المتربِّص بهم في كل مكان.

في الأشهر الثلاثة التي تلت سقوط النظام المخلوع، لقي أكثر من 300 شخص حتفهم، بينهم أطفال ونساء ورجال، بسبب انفجارات مخلفات الحرب، بينما جُرح مئات آخرون. ووفقاً لمنظمة “The HALO Trust”، فإنَّ العدد الإجمالي للضحايا بلغ 640 شخصاً، مع تحذيرات من أنَّ العدد الحقيقي قد يكون أعلى نظراً لوجود إصابات غير موثَّقة في المناطق الريفية، والمناطق التي يصعب الوصول إليها، وهذا ما يشكِّل خطراً حقيقياً على السوريين الموجودين داخل سوريا، والعائدين إلى ديارهم والذين بلغ عددهم ما يقارب 1.2 مليون نازح.

من المؤسف أنَّ الإحصائيات تشير إلى أنَّ الأطفال هم الفئة الأكثر تعرُّضاً للخطر، فهم ينجذبون، بحكم طفولتهم، إلى أشكال الذخائر غير المنفجرة التي قد تبدو لهم وكأنَّها ألعاب.

إنَّ انتشار الألغام الأرضية والقذائف غير المنفجرة في المدن والقرى والأراضي الزراعية التي شهدت معارك ضارية على مدى 14 عاماً يعني أنَّه لا توجد منطقة آمنة بالكامل على الإطلاق، وهذا ما أكَّده محمد سامي المحمد، منسق برنامج مكافحة الألغام في الدفاع المدني السوري (الخوذ البيضاء)، الذي يرى أنَّ إزالة هذه الألغام قد تستغرق عقوداً، وقد أشار سابقاً إلى: “أنَّ انتشار الألغام الأرضية والذخائر غير المنفجرة تعتبر من أسوأ نتائج الصراع الدائر في سوريا.

وقد أكدت تقارير الأمم المتحدة أنَّ سوريا تعد من أسوأ الدول التي تنتشر فيها ذخائر غير المنفجرة وألغام أرضية”، وهذا يعني فيما يعنيه أنَّ النظام القاتل ما زال يمارس الإجرام والقتل بحق السوريين الأبرياء، حتى بعد سقوط نظامه، ليجعل حياة السوريين محفوفة بالمخاطر، وكأنَّه لم يكتفِ بقتل وتشريد الملايين، فاليوم يجد السوريون أنفسهم في مواجهة عدو صامت، لا يميز بين طفل يلعب في حديقة منزله، أو فلاح يعود إلى أرضه، أو أسرة تحاول استعادة حياتها الطبيعية.

ومن المؤسف أنَّ الإحصائيات تشير إلى أنَّ الأطفال هم الفئة الأكثر تعرُّضاً للخطر، فهم ينجذبون، بحكم طفولتهم، إلى أشكال الذخائر غير المنفجرة التي قد تبدو لهم وكأنَّها ألعاب، فهم لا يدركون خطورة هذه الأجسام الغريبة، ولا يستطيعون التمييز بينها وبين الأشياء التي من المفترض أن تُدخل البهجة إلى قلوبهم، وهذا ما يجعلهم عرضة لمآسٍ مروِّعة، حيث تتحول براءتهم إلى مأساة في لحظة خاطفة، وقد وثّقت تقارير أممية ومنظمات حقوقية عدة حوادث راح ضحيتها أطفال لم يكن لهم ذنب سوى أنَّهم كانوا يلعبون بالقرب من ذخائر غير منفجرة، ما أسفر عن إصابات بالغة، كبتر الأطراف وفقدان البصر، فضلًا عن فقدان الحياة. ورغم جهود التوعية التي تقوم بها المنظمات الإنسانية لنشر الوعي حول مخاطر الألغام، فإنَّ حجم الكارثة يفوق أيَّ محاولات فردية، إذ يجد الأهل أنفسهم عاجزين عن حماية أطفالهم بالكامل، في ظل انتشار هذه القنابل الصامتة التي تواصل حصد أرواح الأبرياء حتى بعد انتهاء الحرب.

بينما تحاول سوريا إعادة بناء نفسها بعد سنوات من الصراع، يظل التهديد الذي تشكله الألغام الأرضية تحدياً كبيراً يفوق الإمكانات المتاحة على أرض الواقع.

وسط هذا الواقع المأساوي، يعمل خبراء إزالة الألغام والمتطوعون في ظروف غاية في الخطورة لإنقاذ الأرواح، وقد كان فهد الغجر (35 عاماً) أحد هؤلاء الرجال الشجعان الذين كرَّسوا حياتهم لإزالة الألغام من الأراضي الزراعية والمناطق السكنية، وقد عبَّر في أحد منشوراته عبر فيسبوك عن فخره بعمله رغم المخاطر، قائلاً: “أجمل ما في الأمر هو النهاية”، لكن في 21 فبراير الماضي انتهت رحلته البطولية حين انفجر لغم خلال قيامه بتطهير مزرعة شمالي سوريا، ما أدى إلى مقتله على الفور. ورغم التحديات الهائلة، يواصل هؤلاء الأبطال عملهم، مدفوعين بإيمانهم بأنَّ سوريا لا يمكن أن تكون وطناً آمناً إلا بعد أن تُطهَّر أراضيها من هذا الإرث القاتل، فهم محاربون، ولكنهم يخوضون حرباً من نوع آخر، حرباً ضدَّ بقايا الدمار التي تهدد الأبرياء حتى بعد توقف أصوات المدافع.

ومما لا شك فيه أنَّ العودة إلى الوطن هي حلم يراود ملايين السوريين، لكن الألغام التي خلفتها الحرب حوَّلت هذا الحلم، عند البعض، إلى كابوس، إذ إنَّ بعض الأسر التي عادت بحثاً عن حياة جديدة فقدت أحباءها في لحظة واحدة بسبب لغم مدفون تحت التراب. ولذلك بات السوريون أمام معضلة مؤلمة؛ فإمَّا أن يبقوا في أماكن النزوح محرومين من منازلهم، وإما أن يعودوا ليواجهوا خطر الموت المحتمل في أرضهم، وبين هذين الخيارين المريرين، تبقى الألغام ذكرى قاتلة لحرب لم تكتفِ بسرقة السنوات، بل لا تزال تطارد السوريين حتى بعد أن ظنوا أنَّ الأسوأ قد انتهى.

بينما تحاول سوريا إعادة بناء نفسها بعد سنوات من الصراع، يظل التهديد الذي تشكله الألغام الأرضية تحدياً كبيراً يفوق الإمكانات المتاحة على أرض الواقع، رغم الجهود المبذولة في هذا المجال، إذ تحتاج سوريا إلى دعم دولي أكبر، وحتى ذلك الحين، سيظل الموت يلاحق السوريين، وستبقى عملية إعادة الإعمار غير مكتملة ما لم تُعالج كارثة الألغام التي تهدد حياة الأبرياء، ذلك لأنَّ تطهير سوريا من هذا الإرث القاتل ليس مجرد مسألة تقنية، بل هو مسؤولية إنسانية وأخلاقية يجب أن تتضافر فيها الجهود المحلية والدولية لضمان حق السوريين في العيش بأمان بعد سنوات الحرب التي أنهكتهم مادياً ومعنوياً.

 

المصدر: تلفزيون سوريا

تعليق واحد

  1. متى ستنتهي أخطار الألغام بسورية؟ نظام طاغية الشام والميليشيات المواليه له زرعت الجغرافية السورية ألغام لحماية نظامها، بدون مخططات وعلامات، محاولات متعددة لنزع الألغام وتخليص شعبنا من هذا الخطر الغدار.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى